علاج مرض القلب من الشيطان قال ابن قيم الجوزية: هذا الباب من أهم أبواب الكتاب وأعظمها نفعاً، ...

منذ 2025-07-12
علاج مرض القلب من الشيطان

قال ابن قيم الجوزية:

هذا الباب من أهم أبواب الكتاب وأعظمها نفعاً، والمتأخرون من أرباب السلوك لم يعتنوا به اعتناءهم بذكر النفس وعيوبها وآفاتها، فإنهم توسعوا في ذلك، وقصَّروا فى هذا الباب.

ومن تأمل القرآن والسنة وجد اعتناءهما بذكر الشيطان وكيده ومحاربته أكثر من ذكر النفس، فإن النفس المذمومة ذكرت فى قوله: {إِن النَّفْسَ لأمَّارَةٌ بِالسُّوءِ} [يوسف: 53]، واللوامة فى قوله: {وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللوَّامَةِ} [القيامة: 2]، وذُكرت النفس المذمومة فى قوله: {وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى} [النازعات: 40].

وأما الشيطان فذكر فى عدة مواضع، وأفردت له سورة تامة. فتحذير الرب تعالى لعباده منه جاء أكثر من تحذيره من النفس، وهذا هو الذى لا ينبغي غيره، فإنَّ شر النفس وفسادَها ينشأ من وسوسته، فهى مركَبُه وموضع سرِّه، ومحل طاعته، وقد أمر الله سبحانه بالاستعاذة منه عند قراءة القرآن وغير ذلك، وهذا لشدة الحاجة إلى التعوُّذ منه، ولم يأمر بالاستعاذة من النفس في موضع واحد، وإنما جاءت الاستعاذة من شرِّها في خطبة الحاجة فى قوله صلى الله عليه وسلم: (ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا) [سنن ابن ماجه].

وقد جمع النبي -صلى الله عليه وسلم- بين الاستعاذة من الأمرين، في الحديث الذي رواه الترمذي وصححه عن أبي هريرة رضي الله عنه: "أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه قال: يا رسول الله، علِّمني شيئا أقوله إذا أصبحت وإذا أمسيت؟ قال قل: (اللهم عالم الغيب والشهادة، فاطر السموات والأرض، ربَّ كل شىء ومليكه، أشهد أن لا إله إلا أنت، أعوذ بك من شر نفسي ومن شر الشيطان وشركه، وأن أقترف على نفسي سوءا أو أجره إلى مسلم، قله إذا أصبحت وإذا أمسيت وإذا أخذت مضجعك"، فقد تضمن هذا الحديث الشريف الاستعاذة من الشر وأسبابه وغايته:
فإن الشر كلَّه إما أن يصدُر من النفس أو من الشيطان، وغايته: إما أن تعود على العامل، أو على أخيه المسلم، فتضمن الحديث مصدري الشر اللَّذين يصدر عنهما، وغايتيه اللتين يصل إليهما.


الاستعاذة بالله عند قراءة القرآن:

قال تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْكتَعِذْ بِاللهِ مِنَ الشّيْطَانِ الرَّجِيمِ * إِنّهُ لَيْسَ لَهُ سَلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * إِنَّما سُلطَانُهُ عَلَى الّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالّذِينَ هُمْ بِه مُشْرِكُونَ} [النحل: 98 - 100] .

ومعنى استعذ بالله: امتنع به، واعتصم به والجأ إليه، ومصدره: العَوذ، والعياذ، والمَعَاذ؛ وغالب استعماله في المستعاذ به، ومنه قول النبي -صلى الله عليه وسلم- (لقد عُذت بمَعاذ)[رواه البخاري].
وأصل اللفظة: من اللَّجأ إلى الشيء والاقتراب منه، ومن كلام العرب: "أطيب اللحم عوَّذُه"، أي الذي قد عاذ بالعظم واتصل به، و(ناقة عائذ): يعوذ به ولدها، وجمعها عوذ كحُمر.
وجوه وفوائد الاستعاذة عند القراءة:

فأمر سبحانه بالاستعاذة به من الشيطان عند قراءة القرآن، وفى ذلك وجوه:

منها: أن القرآن شفاء لما في الصدور، مُذهِبٌ لما يلقيه الشيطان فيها من الوساوس والشهوات والإرادات الفاسدة، فهو دواء لما أثَّره فيها الشيطان، فأمر أن يطردَ مادة الداء، ويُخلي منه القلب ليصادف الدواء محلاً خاليا، فيتمكَّن منه، ويؤثِّر فيه، كما قيل:

أتانى هواها قبل أن أعرف الهوى
فصادف قلبا خاليا فتمكنا

فيجيء هذا الدواء الشافي إلى القلب قد خلا من مُزاحم ومُضادٍّ له فينجع فيه.

ومنها: أن القرآن مادة الهدى والعلم والخير في القلب، كما أنَّ الماء مادة النبات، والشيطان نار يحرق النبات أولا فأولًا، فكلما أحسَّ بنبات الخير فى القلب سعى فى إفساده وإحراقه، فأمر أن يستعيذ بالله عز وجل منه لئلا يُفسد عليه ما يحصل له بالقرآن.

والفرق بين هذا الوجه والوجه الذى قبله: أن الاستعاذة فى الوجه الأول لأجل حصول فائدة القرآن، وفي الوجه الثاني لأجل بقائها وحفظها وثباتها.

وكأن من قال: إن الاستعاذة بعد القراءة، لحظ هذا المعنى، وهو لعَمر الله ملحظ جيد، إلا أن السنة وآثار الصحابة إنما جاءت بالاستعاذة قبل الشروع في القراءة، وهو قول جمهور الأمة من السلف والخلف، وهو محصِّلة للأمرين.

ومنها: أن الملائكة تدنو من قارئ القرآن وتستمع لقراءته. كما فى حديث أُسيد ابنُ حضَير لما كان يقرأ، ورأى مثلَ الظُّلة فيها مثل المصابيح، فقال النبىّ عليه الصلاة والسلام: (تِلْكَ المَلائِكُة) [رواه مسلم].

والشيطان ضد الملَك وعدوُّه، فأمر القارئ أن يطلب من الله تعالى مباعدة عدوه عنه حتى تحضره خاصتُه وملائكته، فهذه وليمة لا تجتمع فيها الملائكة والشياطين.

ومنها: أن الشيطان يُجلب على القارئ بخيله ورَجله، حتى يَشغَله عن المقصود بالقرآن، وهو تدبُّره وتفهمه ومعرفة ما أراد به المتكلم به سبحانه، فيحرص بجهده على أن يحول بين قلبه وبين مقصود القرآن، فلا يكمل انتفاع القارئ به، فأُمر عند الشروع أن يستعيذ بالله منه.

ومنها: أن القارئ مُناجٍ لله بكلامه، والله تعالى أشد أَذَناً للقارئ الحسن الصوت بالقرآن مِن صاحب القينة إلى قينته، والشيطان إنما قراءتُه الشعر والغناء، فأمر القارئ أن يطرده بالاستعاذة عند مناجاته لله، واستماع الربِّ قراءته.

ومنها: أن الله سبحانه أخبر أنه ما أرسل من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان فى أمنيَّته، والسلف كلُّهم على أن المعنى: إذا تلا ألقى الشيطان فى تلاوته، كما قال الشاعر فى عثمان:

تَمنَّى كِتَابَ اللهِ أَوَّلَ لَيْلِهِ
وَآخِرَهُ لاقَى حِمَامَ المَقَادِرِ

فإذا كان هذا فعله مع الرسل، فكيف بغيرهم؟
ولهذا يُغلِّط القارئ تارة، ويخبط عليه القراءة، ويشوِّشها عليه، فيخبط عليه لسانه، أو يشوِّش عليه فهمه وقلبه، فإذا حضر عند القراءة لم يعدم منه القارئ هذا أو هذا، وربما جمعهما له، فكان من أهم الأمور: استعاذة بالله منه عند القراءة.

ومنها: أن الشيطان أحرص ما يكون على الإنسان عندما يهُم بالخير، أو يدخل فيه، فهو يشتد عليه حينئذ ليقطعه عنه، وفى الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (إن شيطانا تفلت على البارحة، فأراد أن يقطع على صلاتي" الحديث [رواه البخاري]، وكلما كان الفعل أنفع للعبد وأحب إلى الله تعالى كان اعتراض الشيطان له أكثر.... فالشيطان بالرَّصد للإنسان على طريق كل خير..
فأمر سبحانه العبد أن يحارب عدوه الذى يقطع عليه الطريق، ويستعيذ بالله منه أولا، ثم يأخذ في السير، كما أن المسافر إذا عرض له قاطع طريق اشتغل بدفعه، ثم اندفع في سيره.

ومنها: أن الاستعاذة قبل القراءة عنوان وإعلام بأن المأتي به بعدها القرآن، ولهذا لم تُشرع الاستعاذة بين يدي كلام غيره، بل الاستعاذة مقدمة وتنبيه للسامع أن الذي يأتي بعدها هو التلاوة، فإذا سمع السامع الاستعاذة استعد لاستماع كلام الله، ثم شُرع ذلك للقارئ، وإن كان وحده، لما ذكرنا من الحِكم وغيرها. فهذه بعض فوائد الاستعاذة. انتهى كلامه - بتصرف


* المصدر:
صحيفة النبأ - العدد 103
الخميس 6 صفر 1439 ه‍ـ

67944dd38c694

  • 1
  • 0
  • 7

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً