الدولة الإسلامية - مقال: ودوا لو تكفرون كما كفروا لا يزال كفار العالم في غيض وحسد، وسعي ...

منذ 2025-07-12
الدولة الإسلامية - مقال:
ودوا لو تكفرون كما كفروا

لا يزال كفار العالم في غيض وحسد، وسعي لاجتثاث الموحدين الذين آمنوا بربهم وسعوا لإقامة سلطان شريعته، هذا الغيض منشؤه حسدهم للمؤمنين على إيمانهم واستقامتهم، ولذلك قال العليم الخبير: {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً} [النساء: 89]، فهذه الأمنية عند الكفار هي التي تحرِّك عداوتهم وتغذي حروبهم معنا، فلا عجب أن يكون الكفار قد أجمعوا أمرهم وتركوا خلافاتهم وتوجهوا لحرب دولة الخلافة، فالدين الحق الذي تدين به هذه الدولة المباركة هو السبب الدافع لعداوة الأمم الكافرة لأبنائها ورعيتها، لأن الالتزام بهذا النور المبين يكشف كفر أديانهم ويظهر باطل مناهجهم، ويفضح فساد طريقتهم وانحطاط أخلاقهم، فتندفع قواتهم لفتنة الموحدين عن دينهم ليشاركوهم في كفرهم فيكونوا معهم سواء، ويتجاوزوا المنغصات التي يسببها وجود أهل التوحيد وسلوكهم واتباعهم للهدى الذي حاد الكفار عنه وحاربوه.

وهذه الحقيقة ذكرها القرآن كثيرا بين الأنبياء وأقوامهم، فتجد أن الباطل لا يطيق رؤية الحق يعلو وينتشر، وترى أن الكفار لا يستطيعون كتم غيظهم أمام ظهور الدين الحق الذي يكشف باطلهم ويفضح أستاره، فيحاول الطاغوت وجنده تشويه منهج أهل الحق بما يملكون من الوسائل الضخمة التي تقابل صوت الحق الذي لا يُجارى حتى لو كان في أضعف حالاته، فعند بدء دعوة الرسل لأقوامهم تصدح تلك القلوب الفاسدة العمياء بذلك الجواب الذي يعبِّر عن إرادة اجتثاث الحق واستئصاله والسعي لذلك، كما في قوله تعالى: {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَن قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ} [العنكبوت: 24]، فإن الباطل لا يمكن أن يصمد بحججه الواهية أمام قوة البراهين على أحقية دعوة التوحيد، ولذلك يبدأ أهل الباطل بخطوات فعلية لمواجهة الخطر الذي يُهدد باطلهم.

إنه التقتيل والتحريق أو الطرد أو السجن والتعذيب، كما في قوله تعالى: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال: 30]، إن كل ذلك وسيلة لرد المسلمين عن دينهم، الذي يهدم أديان الكفر والعصيان، فتندلع المواجهة مع ظهور الحق بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان في قتال لا يزال مستمرا لا ينقطع ولا تخمد ناره، قال ربنا جل في علاه: {وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا} [البقرة: 217]، ولذلك لا عجب أن تعرف الحقيقة التي تقف وراء تحريق أصحاب الأخدود العزَّل من قبل ذلك الطاغوت الذي فضح باطله مجرد إيمان أولئك الناس بربهم، إن تلك الحقيقة هي قوله تعالى: {وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [البروج: 8]، وهكذا تجد أن نقمة الكفار وسبب اجتماعهم على المسلمين في كل زمان هو توحيد الله –تعالى- ونبذ الباطل الذي يدين به الكفار، وهو الإيمان الحق الذي يريده الله جل وعلا، ولذلك لا عجب أيضا أن ترى الصليبيين يدفعون بعلماء السوء للطعن بالموحدين ورميهم بالكفر والفسوق وذلك ليخففوا الوطأة على نفوسهم التي أظهر الحق ضعفها وانهيارها وشوَّش عليها نشوة التمتع بالمحرمات وأنواع الشهوات حتى تلك التي اتفقت الفطر على خبثها وجرمها، فإن ظهور الحق يعني انتهاء الباطل، فلا بد للطاغوت أن يجد من يسوِّق له دينه وينشره بين الناس فيدينوا بدينه ويعبدوه على شريعته الباطلة الفاجرة ويشوِّهوا دين وسبيل أهل الحق ليصدوا عنها ويذبوا عن الطاغوت وشريعته.

وهذه الحقيقة التي يجدها الكفار في نفوسهم هي موجودة حتى ولو لم يكن هناك قتال، فعندما دعا نبي الله شعيب -عليه السلام- قومه الكفار أن يصبروا عليه وعلى أتباعه حتى يحكم الله بينه وبينهم وبدون أن يتعرض أحد للآخر، رفضوا ذلك وخيَّروا النبي شعيبا -عليه السلام- ومن آمن معه إحدى اثنتين، قال الله تعالى: {وَإِن كَانَ طَآئِفَةٌ مِّنكُمْ آمَنُواْ بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَآئِفَةٌ لَّمْ يْؤْمِنُواْ فَاصْبِرُواْ حَتَّى يَحْكُمَ اللّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ * قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ مِن قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَكَ مِن قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ} [الأعراف: 87 - 88]، هما خياران عند كل طاغوت في كل زمان، إما القتال والإبعاد، أو العودة إلى ملة الكفر والفساد، ولن يطيقوا الصبر على وجود دين الله الحق، ومن أبى فلن يجد إلا القتل أو النفي أو الإكراه على العودة في ملة الكفر، وهذه الحقيقة هي ثابتة تحصل بين الأنبياء وأقوامهم، قال الله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّـكُم مِّنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا} [إبراهيم: 13].
ومن هنا يعرف الموحد الكذبة الكبرى التي سماها علماء السوء ودعاة الدخول إلى جهنم بالتعايش السلمي أو قبول الآخر، أي قبول التعايش مع الكفار، وهذا التعايش فَشِل فشلا ذريعا حتى مع كون دعاة هذا التعايش قد تخلوا عن كثير من دينهم وارتدوا لأجل أن يثبتوا للكفار أنهم يتعايشون معهم ويقبلون بمنهجهم أو يحسِّنون دينهم ويجدون معهم مشتركات للالتقاء في منتصف الطريق، فيأبى أهل الباطل على أولئك إلا الدخول تحت باطلهم وملتهم بشكل لا يُبقي لهم أي نوع من الاستقلالية.

فلا بد للموحدين أن يعلموا أن هذا المنهاج الطاغوتي الذي يسعى للضغط عليهم بكل الوسائل إنما هو قضاء كوني وصراع كائن إلى يوم القيامة لا يتخلف عن كل موحد صادق متبع لمنهج النبي صلى الله عليه وسلم، كما قال ورقة بن نوفل للنبي صلى الله عليه وسلم: "ما جاء رجل بمثل ما جئت به إلا عودِيَ"، ولذا يتوجب على كل موحد أن يثبت لربه صدقه وإخلاصه في دينه ويصبر على أذى وقتال الكفار والمرتدين، فإن هذه الحرب لن تضع أوزارها إلا بنزول عيسى -عليه السلام- فيقمع الباطل ويضع الجزية ولا يقبل إلا الإسلام الذي يسود العالم، كما أن الكفار اليوم لا يقبلون منا إلا الدخول معهم في الكفر ولو أدى ذلك لتدمير المدن وتحريق ما فيها بحمم الطائرات، ناقمين علينا إيماننا وتوحيدنا واتباع شريعة ربنا جل في علاه، فلا سبيل لدفع هذا الباطل وحشوده إلا بالقتال الذي اتسم به منهج النبي -صلى الله عليه وسلم- في نشر الرسالة، وكان اليهود يحدثون بصفته هذه عندهم في التوراة قبل مبعثه، وعندما جاءهم ما عرفوا كفروا به، فاحتج عليهم الأنصار بمقولتهم التي كانوا يسمعون منهم في صفته حيث كان اليهود يقولون أنه "الضحوك القتال يركب البعير، ويلبس الشملة، يجترئ بالكسرة، سيفه على عاتقه، له ملاحم وملاحم" [تفسير السمعاني]، وهكذا ينبغي لكل متبع للنبي -صلى الله عليه وسلم- أن يكون سيفه على عاتقه ينشر الشريعة ويذب عنها ويتحمل الأذى والعداوة ومخرجاتها المريرة في زمن تكالب أمم الكفر، ويخوض الملاحم مع الكفار والمرتدين، فكلما اشتدت العداوة وزادت غربة الدين وصار القابض على دينه كالقابض على جمرة، صار عند ذلك الصبر على تلك المحن زيادة في درجة الموحدين وقربهم عند ربهم، ورفعة في منزلتهم، لما يلاقونه من عظيم التكالب والزلزلة، ولا يجد الموحد حينها له من الزاد الذي يعينه إلا الصبر على لأواء الطريق وشدته، ولذلك مدح الله -تعالى- أتباع الرسل وأخبر أنه يحب الصابرين على ما يصيبهم ابتغاء مرضاته فقال: {وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ} [آل عمران: 146]، وهذا لأن جهاد النفس وإرغامها على المكاره هو الصبر الذي يحبه الله تعالى، فلما كان الوهن يصيب النفس البشرية عند كل بلاء لتتراجع قليلا فتثبت أو تفتن، كان الصبر على المحن وحب الموت في سبيل الله وعدم الضعف أمام بأس الكفار وعدم الاستكانة لهم هو من الصبر الذي يحبه الله -تعالى- ويدخل أصحابه جنة تقر بها أعينهم ويرضى عنهم خالقهم فلا يسخط عليهم أبدا.

فبشراكم أيها الموحدون القابضون على دينكم في زمن الغربة وتكالب الأمم فما هي إلا فترة من الصبر والثبات يعقبها خير الدنيا والآخرة، فعوا حقيقة الصراع واحفظوا عليكم دينكم واصبروا على أمر الله حتى يأتي وعده الذي لا يتخلف، ولا تضعوا عن عواتقكم السلاح، وامضوا إلى الهيجاء في كل ساح، فإن في ذلك الرشد والنجاة والفلاح.



* المصدر:
صحيفة النبأ - العدد 103
الخميس 6 صفر 1439 ه‍ـ

67944dd38c694

  • 1
  • 0
  • 121

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً