لقد كان في قصصهم عبرة فاذهب أنت وربك فقاتِلا (2) الحمد لله رب العالمين، باعث الرسل مبشرين ...

منذ 2025-07-25
لقد كان في قصصهم عبرة
فاذهب أنت وربك فقاتِلا (2)

الحمد لله رب العالمين، باعث الرسل مبشرين ومنذرين، والصلاة على خاتم الأنبياء وسيد المرسلين، سلام الله عليهم أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم البعث والدين، أما بعد...

إن لله -عز وجل- سننا لا تتبدل، وقضاء لا يتغير، وإن المرء إذا سار على خطى قوم كانت خاتمته كخاتمتهم، وعاقبته كعاقبتهم، فإن سنن الله لا تحابي أحدا، وقضاؤه ماض أبدا، واللبيب من اعتبر بغيره.

إن من أعظم القصص التي ذكرها الله في كتابه المجيد لقصة نبيه موسى -عليه السلام- مع قومه، بني إسرائيل، إذ ذكرها الله مرارا وتكرارا، كاملة ومجزأة، عامة ومفصلة، وما ذلك إلا دليل على عظمة ما جرى فيها من أحداث، وعلى ما فيها من عبر نفيسة، ودروس قيمة، وليس هذا مقام ذكرها كاملة، لكننا سنذكر -بعون الله- قصته مع الجبارين.

لقد كان الجبارون قوما أولي قوة وبأس شديد، وكانوا يسكنون قرى محصنة في الأرض المقدسة، فلما أنجى الله موسى وقومه من فرعون وجنده، بعد أن أراهم آياته، وشق لهم في البحر طريقا يبسا، وفرق لهم الماء فرقا، ونصرهم على عدوهم بلا جهد منهم أو نصب، أمرهم بقتال الجبارين، ودخول الأرض المقدسة، فذكَّرهم نبي الله موسى بفضل الله عليهم، فقال: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنبِيَاءَ وَجَعَلَكُم مُّلُوكًا وَآتَاكُم مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِّنَ الْعَالَمِينَ} [المائدة: 20]، ثم أمرهم بدخول الأرض المقدسة، وقتال قومها، وضمن لهم النصر إن هم فعلوا ذلك، وحذرهم من تولية الأدبار، ومن سوء العاقبة، {يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنقَلِبُوا خَاسِرِينَ} [المائدة: 21]، فما كان منهم إلا أن أجابوه بكلام ملؤه السخرية {قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِن يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ} [المائدة: 22]، إذ لا يُعقل أن يخرج قوم عتاة جبابرة من أرضهم بلا قتال، وقد حصَّنوا قراهم، وأعدوا للحرب عدتها، وإنما قال بنو إسرائيل ذلك استهزاء واستخفافا، فقال لهم رجلان من قومهم، يخشون ربهم ويخافونه، قد أنعم الله عليهم بطاعته، أن خُذوا بالأسباب، وتوكلوا على ربكم، فإن فعلتم أفلحتم، وكانت لكم الغلبة على عدوكم، {قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} [المائدة: 23]، فلم تنفع تلك القلوب التي أعماها الخوف تذكرة المذكرين، ولم يمتثلوا لأمر رب العالمين، بل أصروا على ضلالهم وتمادوا في غيهم، {قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا أَبَدًا مَّا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة: 24]، فهنا أحسَّ نبي الله موسى بخذلان قومه له، وبانقطاع أسباب الأرض عنه، فالتجأ إلى مسبب الأسباب، ورب الأرباب، وتضرع إليه، {قَالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} [المائدة: 25]، فأنزل الله عليهم عذابه، بأن حرمهم الأمن الذي بسببه قعدوا عن الجهاد، والاستقرار الذي لأجله عزفوا عن القتال، {قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} [المائدة: 26].

لقد ذكر الله في هذه القصة حال بني إسرائيل مع نبي الله موسى، إذ خذلوه وتخلوا عنه، ولم ينصروه وقد أمروا بذلك، ولم يعزروه وقد كُتب عليهم ذلك، بل كان ردهم القعود والخذلان، والنفور والعصيان، وزادوا على ذلك السخرية والاستهزاء، فما كان من المؤمنين إلا أن ثبتوا على ما أمروا به من جلاد الأعداء، وصبروا على ما نهوا عنه من الفرار وتولية الأدبار، حتى قال نبي الله موسى: "رب إني لا أملك إلا نفسي وأخي فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين".
إن أمثال قوم نبي الله موسى من ذوي المعادن الرديئة والنفوس الدنيئة، يدخلون في صفوف أهل الحق إذا قووا، ويحتمون بشوكتهم، وهذا ديدنهم في كل زمان ومكان. فهُم إذا رأوا من عدوهم كثرة عدة وشدة بأس أحجموا عن القتال، وقعدوا عن الجهاد، مع ما أراهم الله من نصره لهم في مواطن كثيرة على من هم أشد منهم قوة، ووعده لهم بالظفر والتمكين. فترى من أضلهم الله ينهون من هداهم عن القتال والجلاد، بل ويسخرون منهم، ويخذلونهم عند حاجتهم لهم، راكنين إلى زخرف الحياة الدنيا، راضين بها، قائلين بلسان حالهم: "اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون".

وإن هذا الخبث إن وُجد في صفوف المؤمنين، فإن المؤمنين لا يألون جهدا في نصحهم، ولا يدخرون وسعا في تذكيرهم بربهم، رأفة بهم وإشفاقا عليهم، وخوفا من أن يصيبهم الله بذنوب هؤلاء، فيهلك الكل بجريرتهم لكثرة الخبث، روت أم المؤمنين زينب بنت جحش -رضي الله عنها- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- دخل عليها فزعا يقول: (لا إله إلا الله، ويل للعرب من شر قد اقترب، فُتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه) وحلَّق بإصبعه الإبهام والتي تليها، قالت زينب بنت جحش فقلت: "يا رسول الله: أنهلك وفينا الصالحون؟" قال: (نعم، إذا كثر الخبث) [رواه البخاري]، فإن الخبث إذا كثر، سلط الله على المسلمين المحن والبلاء، والشدة واللأواء، حتى يرجعوا إلى أمر الله، فقد عاقب الله بني إسرائيل لما عتوا عن أمر ربهم بالتيه 40 سنة، حتى فني أولئك العصاة الفاسقون، ونشأ الصبيان على الشدة والجلد، بعيدا عن الدعة والترف، فلما انقضت تلك السنون الأربعون، قاتل الصالحون الجبارين ففتح الله عليهم، ودخلوا الأرض المقدسة، وأسكنهم الله مساكنهم وأورثهم أموالهم.

إن من سنن الله أن يبتلي المسلم إذا تعلق قلبه بغير ربه، فيمتحنه بوقوع ما يكره، أو بفقدان ما يحب، فإن هو رجع إلى الله فكان هو ورسوله أحب إليه مما سواهما من ملذات الدنيا وزخارفها، رفع الله عنه البلاء، ومكن له في الأرض، وإلا بقي في البلاء حتى يرجع، فإن أبى أتى الله بمن هو خير منه، واستبدل به قوما يحبهم ويحبونه، يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون فيه لومة لائم، ينصرونه ورسوله، ويقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص، فإنما ينصر المؤمنون بطاعتهم لربهم، وتمسكهم بجماعتهم، وبالمضي قدما في جهادهم، ولا يخذلهم مثل القعود عما أمرهم الله به، والإحجام عما أعده الله لهم من نعيم.


• المصدر:
صحيفة النبأ - العدد 107
الخميس 5 ربيع الأول 1439 ه‍ـ

683b4f9a9ea34

  • 0
  • 0
  • 5

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً