لقد كان في قصصهم عبرة (3) • ذو القرنين رحمه الله لقد أنزل الله سبحانه القرآن ...

منذ يوم
لقد كان في قصصهم عبرة (3)



• ذو القرنين رحمه الله



لقد أنزل الله سبحانه القرآن العظيم على نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- وقد تضمن آيات الأحكام والقصص والعبر والأمثال لتكون منارا للموحدين السائرين إلى ربهم، ومن القصص التي ينبغي أن نقف عندها ونستقي منها العلم النافع ونحن نسير على طريق الموحدين الغزاة في سبيل الله هي قصة ذي القرنين.

ذلك الملك الصالح الغازي في سبيل الله الذي بلغ مشارق الأرض ومغاربها فاتحا داعيا إلى الله تعالى بالسيف واللسان، وهذا ما يحتاجه المجاهدون اليوم وهم يسيرون على خطى ذلك الملك الصالح في بلوغ الوعد الإلهي وظهور هذه الأمة في هذا الزمان على العالمين، فإن الله تعالى أعطى ذا القرنين من كل شيء سببا، أي إن الله تبارك وتعالى أراد له التمكين في الأرض فأعطاه من كل العلوم والخبرات لتكون له سببا في سعيه وغزوه في سبيل الله ومواجهة أمم الكفر في وقته، قال الإمام البغوي في تفسيره: "أعطيناه من كل شيء يحتاج إليه الخلق، وقيل: من كل ما يستعين به الملوك على فتح المدن ومحاربة الأعداء، {سببا} أي: علما يتسبب به إلى كل ما يريد ويسير به في أقطار الأرض، والسبب: ما يوصل الشيء إلى الشيء".

وحينها أخبرنا الله تعالى أنه {اتبع سببا}، أي سار في منازل الأرض ومعالمها وطرقها، فبلغ مغرب الشمس ووجد في تلك البلاد البعيدة أمة عظيمة من الأمم الكافرة، فألهمه الله أن يفعل فيهم أحد أمرين إما أن يعذبهم بالقتل إن لم يقبلوا التوحيد أو أن يتخذ فيهم حسنا قيل: أي أن يأسرهم ويعلمهم الهدى، وبعد أن أظفره الله بهم كان حكمه فيهم: {قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا * وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا} [الكهف: 87-88]، فأخبرنا الله تعالى عن سيرته في الأقوام الكافرين، فمن أصر منهم وعاند فإن جزاءه التعذيب الدنيوي بيد ذي القرنين وهو القتل، ثم يرد إلى ربه سبحانه فيعذبه العذاب الأنكر من القتل وهو العذاب بنار جهنم.

وهكذا يسير كل موحد مجاهد في من ظلم وتعدى على حق الله وعبد غيره، فإن الشرك أعظم الظلم، ومن تعدى على حق الله وعبَد غيره فإن جزاءه العذاب بأيدي الموحدين، قال الله تعالى: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ} [التوبة: 14]، وأما من آمن وعمل صالحا فله الحسنى عند ربه وهي الجنة، وأما عند ذي القرنين فإنه سيجد منه اللين والمعاملة الطيبة، معاملة المسلم لأخيه المسلم، فمنهج ذي القرنين يعتمد على أخوة الدين مهما اختلفت الأعراق والأجناس، فمن أسلم وعبَد الله وكفر بالمعبودات الباطلة فهو وليه وأخوه.

وتستمر رحلة الملك الغازي في سبيل الله سيرا في طرق الأرض ومعالمها حتى بلغ مطلع الشمس فوجد فيها قوما ليس لهم بنيان يسترهم عنها، فسار فيهم مسيرة من قبلهم في المعاملة الرشيدة، ثم سار في مسلك آخر حتى وصل بين السدين أي الجبلين حيث يخرج من بينهما قوم يأجوج ومأجوج ليشنوا غاراتهم، وهم قوم مفسدون ظالمون باغون، وكان خارج السد أقوام في عزلة عن الناس، قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: "لا يفهمون كلام أحد ولا يفهم الناس كلامهم"، ولكن الله تعالى آتى ذا القرنين من كل شيء سببا، فجاءه المترجم ليسمع منه مُراد أولئك القوم الذين عانوا من فساد وشر يأجوج ومأجوج ، فوجدوا في ذي القرنين الرجل الصالح الذي يريد إصلاح الأرض بالتوحيد والسير بين الناس بالعدل ورفع الظلم، {قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا} [الكهف: 94].

وسياق الآية يدل على أن هؤلاء الأقوام المنعزلين عن محيطهم كانوا أيضا يملكون المال ولكنهم لم يستطيعوا توظيف جهدهم لمواجهة خطر يأجوج ومأجوج، فعرضوا على ذي القرنين أن يعطوه المال مقابل أن يبني لهم سدا يكف به شر يأجوج ومأجوج الذين أهلكوا الحرث والنسل، ولكن ذا القرنين عرض عليهم عرضا مغايرا، فأخبرهم أنه ليس بحاجة إلى أموالهم ولكن يحتاج جهدهم البشري، فكان جوابه يفيض بالاعتراف بنعمة الله تعالى ونسبة الفضل إليه والتعفف عن أموال الغير، قال الإمام ابن كثير في تفسيره: "فقال ذو القرنين بعفة وديانة وصلاح وقصد للخير: {مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ} أي: إن الذي أعطاني الله من الملك والتمكين خير لي من الذي تجمعونه، كما قال سليمان عليه السلام: {أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ} [النَّمْلِ: 36] وهكذا قال ذو القرنين: الذي أنا فيه خير من الذي تبذلونه، ولكن ساعدوني {بِقُوَّةٍ} أي: بعملكم وآلات البناء".

وعندما تهيأت آلات البناء واستعد الناس للعمل، قام ذو القرنين باستخدام ما حباه الله به من أسباب النجاح فقال، {آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا} [الكهف: 96]، أي إن ذا القرنين جمع قطع الحديد ورتبها حتى بلغ بها رؤوس الجبلين، ثم أجج فيها النار ثم أفرغ في الحديد المذاب نحاسا حتى يكون السد صلبا لا يمكن ثقبه، {فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا}، ولأن الظهور من فوق السد أسهل من نقبه، جاءت الأولى بالتخفيف بدون تاء {فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ} وجاءت الثانية بالتاء للتعبير عن استحالة إحداث نقب فيه {وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا}.

ثم قال ذو القرنين بعد اكتمال بناء السد معترفا مرة أخرى بنعمة الله عليه ورادا الفضل إليه: {هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي}، وهكذا ينبغي لكل مجاهد غاز في سبيل الله أن يرد الفضل لله سبحانه في كل أحواله مهما بذل وتعب ومهما جنى من النتائج المفرحة التي يحبها ويرجوها من المغنم والفتح والتمكين والظهور على الكفار، فإن ذلك كله بفضل الله ورحمته، وقد ذكر الله قول عبده الملك الصالح لنقتديَ به ونعتبر، فمن شكر نعمة الله زاده الله من فضله ورحمته.

أما هؤلاء القوم المفسدون فلا يزالون يحفرون حتى يأذن الله عز وجل بخروجهم وذلك حين يسوي الله تعالى السد بالأرض فيدكه دكا، وقد أعطى الله تعالى ذا القرنين العلم بهذا حين قال: {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا}، قال الإمام الطبري -رحمه الله- في تفسيره: "فإذا جاء وعد ربي الذي جعله ميقاتا لظهور هذه الأمة وخروجها من وراء هذا الردم لهم، جعله دكاء، يقول: سوَّاه بالأرض، فألزقه بها، وكان وعد ربي الذي وعد خلقه في دك هذا الردم، وخروج هؤلاء القوم على الناس، وعيثهم فيه، وغير ذلك من وعده حقا، لأنه لا يخلف الميعاد فلا يقع غير ما وعد أنه كائن".

فهذه قصة عبد صالح من عبيد الله تعالى، مكن له في الأرض، فحمد الله على هذه النعمة بإقامة دينه، والسعي في إخضاع الناس لحكمه، وجهاد المشركين في سبيله، واتخذ في ذلك كل ما مكنه الله من وسائل القوة المادية التي استعان بها على أعداء الله تعالى، وحري على كل مسلم أن يستن بسنة هذا العبد الصالح، الذي أثنى عليه ربه، وقص قصته على عبيده ليتأسوا به.


• المصدر:
صحيفة النبأ - العدد 108
الخميس 12 ربيع الأول 1439 ه‍ـ

683b4f9a9ea34

  • 0
  • 0
  • 6

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً