وقفات عند أحاديث الفتن والملاحم (2) تحدثنا في العدد السابق -بحمد الله تعالى- عن بعض الضوابط في ...
منذ يوم
وقفات عند أحاديث الفتن والملاحم (2)
تحدثنا في العدد السابق -بحمد الله تعالى- عن بعض الضوابط في مسألة التعامل مع أخبار الفتن والملاحم التي تقع في آخر الزمان، وخاصة ما ورد منها في صحاح الأحاديث النبوية.
وبيّنا وجوب الإيمان بكل خبر ورد في القرآن الكريم والسنة النبوية، بما فيها أخبار الفتن والملاحم التي هي من أنباء الغيب، مع التأكيد على التثبت من صحة نسبة هذه الأخبار إلى النبي -عليه الصلاة والسلام-، وصحة تأويل هذه الأخبار الواردة في الوحيين، وعدم الالتفات إلى الأخبار المكذوبة والتأويلات الباطلة.
وكما يتفاضل الناس إزاء أي من واجبات الإيمان، فإنهم يتفاضلون أيضا في مواقفهم من هذا الواجب، وهو الإيمان بأخبار المرسلين، التي منها ما أخبروا عنه من فتن آخر الزمان وأشراط الساعة، فهُم بين مؤمن بها حق الإيمان، وبين ناقصٍ إيمانه بها لمرض في قلبه، وبين جاحد لها أشد الجحود، ومنافق يظهر الإيمان، ويطعن فيه من جوانب يظنها تخفى على المؤمنين.
ولنا في كتاب الله وسيرة رسول الله -عليه الصلاة والسلام- الكثير من النماذج التي توضح اختلاف مواقف الناس من أخبار المرسلين.
• الكافرون: فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ
فقد أوحى الله تعالى إلى عبده نوح -عليه السلام- شيئا من الغيب في مصير من كفر من قومه، وأمره بصناعة الفلك لتجنيب الذين آمنوا ما سيصيب المشركين من العذاب، ولكن الذين كفروا بكل ما أنبأهم نبيهم من أمر الغيب لم يكونوا ليؤمنوا بما بلغهم من أمر العذاب الذي قدّره الله عليهم، فسخروا من نوح وما يعدهم به من العذاب، وطالبوه أن يستعجل لهم ما يعدهم به، حتى حاق بهم ما كانوا به يستهزؤون، في الوقت الذي كان نبي الله موقنا بوعد ربه له، ويتوعد به الكفار أنهم مصيبهم ما وعدهم ربهم لا محالة، قال تعالى: {وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ * وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ * وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ * فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ} [هود: 36-39].
وهذا المشهد نجده يتكرر في كثير من قصص الأنبياء مع الكافرين من أقوامهم، تكذيب لهذه الوعود، وسخرية منها، حتى وهم متيقنون من صدق أنبياءهم، كما كان حال كفار قريش مع الرسول -عليه الصلاة والسلام-، ومن ذلك ما رواه عمرو بن العاص -رضي الله عنه- من اعتداء قومه على النبي -صلى الله عليه وسلم- في مكة، فلما أكثروا من أذاه، توعَّدهم بما يسوؤهم، وهو في حال استضعاف منهم، فقال -عليه الصلاة والسلام-: (تسمعون يا معشر قريش، أما والذي نفس محمد بيده، لقد جئتكم بالذبح)، فأخذت القوم كلمته، حتى ما منهم رجل إلا كأنما على رأسه طائر واقع، حتى إن أشدهم فيه وصاة قبل ذلك ليرفؤه بأحسن ما يجد من القول، حتى إنه ليقول: "انصرف يا أبا القاسم، انصرف راشدا، فوالله ما كنت جهولا"، ثم عادوا إلى إيذائه في اليوم التالي، رغم ما وجدوه في أنفسهم من رهبة له عندما توعدهم.
• المنافقون: ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا
وكذلك نجد في مواقف المنافقين محاولات للطعن في صدق دعوة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من خلال التشكيك فيما أخبر المسلمينَ به من بشائر وهم في أحلك الظروف، ليثبتهم بها، ويربط على قلوبهم، فاستغل المنافقون الضعف الذي مرَّ به المسلمون، ليشككوهم في صدقه -عليه الصلاة والسلام-، إذ يبشّرهم بفتح الله لهم مشارق الأرض ومغاربها، وهم يخشون أن يدخل عليهم عدوهم في أي لحظة، فيستبيح بيضاءهم ويستأصل شأفتهم.
فقد روى الإمام أبو جعفر الطبري -رحمه الله- في تفسير قوله تعالى: {وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا} [الأحزاب: 12]، عن قتادة قوله: "قال ذلك أُناس من المنافقين، قد كان محمد يعدنا فتح فارس والروم، وقد حُصرنا هاهنا، حتى ما يستطيع أحدنا أن يبرز لحاجته، ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا" [جامع البيان في تأويل القرآن].
• الظالمون: اذهب أنت وربك فقاتلا
وهذا المرض، وهو عدم تصديق أخبار الأنبياء والمرسلين، قد لا يتجلى في الإنكار القولي، ولكنه يظهر أحيانا بصورة التولي العملي عن تنفيذ الأحكام التي قد ترتبط بهذه الأخبار، كما كان حال بني إسرائيل مع إخبار نبيهم موسى -عليه السلام- لهم بأن الله قد جعل لهم الأرض المقدسة، وأمرهم فقط أن يدخلوها فينصرهم الله على عدوهم ويورثهم الأرض التي بأيديهم، وهذا ما فقِهَه أولوا الإيمان من بني إسرائيل، فقالوا: {ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [المائدة: 23].
فكان جواب الظالمين التشكيك في هذا الوعد من خلال امتناعهم عن تنفيذ أمر الله لهم بدخول تلك الأرض، بحجة أن فيها قوما جبارين يمنعون من تحقيق موعود الله تعالى لهم، كما قال تعالى: {يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ * قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ} [المائدة: 21-22].
فكان عقوبة فعلهم هذا أن حرَّمها الله عليهم أربعين سنة، ثم صدق وعده مع بني إسرائيل بأن أدخلهم هذه الأرض التي كتبها لهم، كما قال تعالى: {وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا} [الأعراف: 137]، وذلك بعد أن خرج منهم من صدّق موعود الله وأطاع أمره سبحانه، وما كان الله ليُخلف وعده، وإن استبطأ الناس تحقيقه، قال تعالى: {فَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ} [إبراهيم: 47].
• المؤمنون: هذا ما وعدنا الله ورسوله
أما أهل الإيمان فإنهم يصدقون موعودَ الله، ويزدادون إيمانا بما يجدونه في واقعهم من حدوث ما آمنوا به سابقا من أخبار جاءتهم عن طريق الوحي، حتى لو كانت تلك الأخبار تتضمن ابتلاءات سيجدونها في طريقهم قبل أن يأتيهم نصر الله، كما كان موقفهم من قوله تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة: 214]، إذ وجدوا مصداقا لها في ذات الموقف الذي أظهر المنافقون فيه كفرهم، وهو الشدة التي أصابتهم يوم الأحزاب، فازدادوا بذلك تصديقا لكلام الله ورسوله، وازدادوا بذلك إيمانا.
قال الإمام أبو محمد البغوي رحمه الله: "فالآية تتضمن أن المؤمنين يلحقهم مثل ذلك البلاء، فلما رأوا الأحزاب وما أصابهم من الشدة قالوا: {هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا} [الأحزاب: 22] أي: تصديقا لله وتسليما لأمر الله" [معالم التنزيل في تفسير القرآن].
وهذا التصديق رافقه عمل صالح هو الثبات أمام الأحزاب، والصبر على الشدة والحرب حتى فصل الله بينهم وبين القوم المشركين، وكان فرحهم بتحقق موعود الله تعالى لهم بالنصر يرافقه فرح آخر ببشرى جديدة ألقاها إليهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، تتعلق بانقلاب كلي في مسار الحرب بين المسلمين ومشركي قريش، بقوله: (نغزوهم ولا يغزوننا) [رواه البخاري]، فلا زالوا مصدّقين لذلك حتى فتح الله عليهم مكة عقر دار المشركين يومئذ.
وهكذا هم المتّقون في كل زمان، يؤمنون بالغيب، الذي منه ما جاءهم من أنباء ما يأتي من الأيام، ويؤمنون بكل ما أنزل إلى أنبيائهم، ومنه ما أوحي إليهم من أخبار آخر الزمان، ويوقنون بالآخرة وبالساعة، التي يبعث فيها الناس من قبورهم، ويُنشرون لحسابهم، ويؤمنون بما جاءهم من أشراطها، التي لا تقوم إلا بعد حدوثها، كما قال تعالى فيهم: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ * أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [البقرة: 2-5].
• المصدر:
صحيفة النبأ - العدد 108
الخميس 12 ربيع الأول 1439 هـ
تحدثنا في العدد السابق -بحمد الله تعالى- عن بعض الضوابط في مسألة التعامل مع أخبار الفتن والملاحم التي تقع في آخر الزمان، وخاصة ما ورد منها في صحاح الأحاديث النبوية.
وبيّنا وجوب الإيمان بكل خبر ورد في القرآن الكريم والسنة النبوية، بما فيها أخبار الفتن والملاحم التي هي من أنباء الغيب، مع التأكيد على التثبت من صحة نسبة هذه الأخبار إلى النبي -عليه الصلاة والسلام-، وصحة تأويل هذه الأخبار الواردة في الوحيين، وعدم الالتفات إلى الأخبار المكذوبة والتأويلات الباطلة.
وكما يتفاضل الناس إزاء أي من واجبات الإيمان، فإنهم يتفاضلون أيضا في مواقفهم من هذا الواجب، وهو الإيمان بأخبار المرسلين، التي منها ما أخبروا عنه من فتن آخر الزمان وأشراط الساعة، فهُم بين مؤمن بها حق الإيمان، وبين ناقصٍ إيمانه بها لمرض في قلبه، وبين جاحد لها أشد الجحود، ومنافق يظهر الإيمان، ويطعن فيه من جوانب يظنها تخفى على المؤمنين.
ولنا في كتاب الله وسيرة رسول الله -عليه الصلاة والسلام- الكثير من النماذج التي توضح اختلاف مواقف الناس من أخبار المرسلين.
• الكافرون: فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ
فقد أوحى الله تعالى إلى عبده نوح -عليه السلام- شيئا من الغيب في مصير من كفر من قومه، وأمره بصناعة الفلك لتجنيب الذين آمنوا ما سيصيب المشركين من العذاب، ولكن الذين كفروا بكل ما أنبأهم نبيهم من أمر الغيب لم يكونوا ليؤمنوا بما بلغهم من أمر العذاب الذي قدّره الله عليهم، فسخروا من نوح وما يعدهم به من العذاب، وطالبوه أن يستعجل لهم ما يعدهم به، حتى حاق بهم ما كانوا به يستهزؤون، في الوقت الذي كان نبي الله موقنا بوعد ربه له، ويتوعد به الكفار أنهم مصيبهم ما وعدهم ربهم لا محالة، قال تعالى: {وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ * وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ * وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ * فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ} [هود: 36-39].
وهذا المشهد نجده يتكرر في كثير من قصص الأنبياء مع الكافرين من أقوامهم، تكذيب لهذه الوعود، وسخرية منها، حتى وهم متيقنون من صدق أنبياءهم، كما كان حال كفار قريش مع الرسول -عليه الصلاة والسلام-، ومن ذلك ما رواه عمرو بن العاص -رضي الله عنه- من اعتداء قومه على النبي -صلى الله عليه وسلم- في مكة، فلما أكثروا من أذاه، توعَّدهم بما يسوؤهم، وهو في حال استضعاف منهم، فقال -عليه الصلاة والسلام-: (تسمعون يا معشر قريش، أما والذي نفس محمد بيده، لقد جئتكم بالذبح)، فأخذت القوم كلمته، حتى ما منهم رجل إلا كأنما على رأسه طائر واقع، حتى إن أشدهم فيه وصاة قبل ذلك ليرفؤه بأحسن ما يجد من القول، حتى إنه ليقول: "انصرف يا أبا القاسم، انصرف راشدا، فوالله ما كنت جهولا"، ثم عادوا إلى إيذائه في اليوم التالي، رغم ما وجدوه في أنفسهم من رهبة له عندما توعدهم.
• المنافقون: ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا
وكذلك نجد في مواقف المنافقين محاولات للطعن في صدق دعوة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من خلال التشكيك فيما أخبر المسلمينَ به من بشائر وهم في أحلك الظروف، ليثبتهم بها، ويربط على قلوبهم، فاستغل المنافقون الضعف الذي مرَّ به المسلمون، ليشككوهم في صدقه -عليه الصلاة والسلام-، إذ يبشّرهم بفتح الله لهم مشارق الأرض ومغاربها، وهم يخشون أن يدخل عليهم عدوهم في أي لحظة، فيستبيح بيضاءهم ويستأصل شأفتهم.
فقد روى الإمام أبو جعفر الطبري -رحمه الله- في تفسير قوله تعالى: {وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا} [الأحزاب: 12]، عن قتادة قوله: "قال ذلك أُناس من المنافقين، قد كان محمد يعدنا فتح فارس والروم، وقد حُصرنا هاهنا، حتى ما يستطيع أحدنا أن يبرز لحاجته، ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا" [جامع البيان في تأويل القرآن].
• الظالمون: اذهب أنت وربك فقاتلا
وهذا المرض، وهو عدم تصديق أخبار الأنبياء والمرسلين، قد لا يتجلى في الإنكار القولي، ولكنه يظهر أحيانا بصورة التولي العملي عن تنفيذ الأحكام التي قد ترتبط بهذه الأخبار، كما كان حال بني إسرائيل مع إخبار نبيهم موسى -عليه السلام- لهم بأن الله قد جعل لهم الأرض المقدسة، وأمرهم فقط أن يدخلوها فينصرهم الله على عدوهم ويورثهم الأرض التي بأيديهم، وهذا ما فقِهَه أولوا الإيمان من بني إسرائيل، فقالوا: {ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [المائدة: 23].
فكان جواب الظالمين التشكيك في هذا الوعد من خلال امتناعهم عن تنفيذ أمر الله لهم بدخول تلك الأرض، بحجة أن فيها قوما جبارين يمنعون من تحقيق موعود الله تعالى لهم، كما قال تعالى: {يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ * قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ} [المائدة: 21-22].
فكان عقوبة فعلهم هذا أن حرَّمها الله عليهم أربعين سنة، ثم صدق وعده مع بني إسرائيل بأن أدخلهم هذه الأرض التي كتبها لهم، كما قال تعالى: {وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا} [الأعراف: 137]، وذلك بعد أن خرج منهم من صدّق موعود الله وأطاع أمره سبحانه، وما كان الله ليُخلف وعده، وإن استبطأ الناس تحقيقه، قال تعالى: {فَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ} [إبراهيم: 47].
• المؤمنون: هذا ما وعدنا الله ورسوله
أما أهل الإيمان فإنهم يصدقون موعودَ الله، ويزدادون إيمانا بما يجدونه في واقعهم من حدوث ما آمنوا به سابقا من أخبار جاءتهم عن طريق الوحي، حتى لو كانت تلك الأخبار تتضمن ابتلاءات سيجدونها في طريقهم قبل أن يأتيهم نصر الله، كما كان موقفهم من قوله تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة: 214]، إذ وجدوا مصداقا لها في ذات الموقف الذي أظهر المنافقون فيه كفرهم، وهو الشدة التي أصابتهم يوم الأحزاب، فازدادوا بذلك تصديقا لكلام الله ورسوله، وازدادوا بذلك إيمانا.
قال الإمام أبو محمد البغوي رحمه الله: "فالآية تتضمن أن المؤمنين يلحقهم مثل ذلك البلاء، فلما رأوا الأحزاب وما أصابهم من الشدة قالوا: {هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا} [الأحزاب: 22] أي: تصديقا لله وتسليما لأمر الله" [معالم التنزيل في تفسير القرآن].
وهذا التصديق رافقه عمل صالح هو الثبات أمام الأحزاب، والصبر على الشدة والحرب حتى فصل الله بينهم وبين القوم المشركين، وكان فرحهم بتحقق موعود الله تعالى لهم بالنصر يرافقه فرح آخر ببشرى جديدة ألقاها إليهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، تتعلق بانقلاب كلي في مسار الحرب بين المسلمين ومشركي قريش، بقوله: (نغزوهم ولا يغزوننا) [رواه البخاري]، فلا زالوا مصدّقين لذلك حتى فتح الله عليهم مكة عقر دار المشركين يومئذ.
وهكذا هم المتّقون في كل زمان، يؤمنون بالغيب، الذي منه ما جاءهم من أنباء ما يأتي من الأيام، ويؤمنون بكل ما أنزل إلى أنبيائهم، ومنه ما أوحي إليهم من أخبار آخر الزمان، ويوقنون بالآخرة وبالساعة، التي يبعث فيها الناس من قبورهم، ويُنشرون لحسابهم، ويؤمنون بما جاءهم من أشراطها، التي لا تقوم إلا بعد حدوثها، كما قال تعالى فيهم: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ * أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [البقرة: 2-5].
• المصدر:
صحيفة النبأ - العدد 108
الخميس 12 ربيع الأول 1439 هـ