الدولة الإسلامية - صحيفة النبأ العدد 505 الافتتاحية: • وقود التوحيد لكل قضية نبيلة ضريبة ...

منذ يوم
الدولة الإسلامية - صحيفة النبأ العدد 505
الافتتاحية:

• وقود التوحيد

لكل قضية نبيلة ضريبة تُدفع وثمن باهظ يُبذل، مهما سمت تلك القضية التي نؤمن بها ونعيش من أجلها، فلا يمكن لراياتها أن تعلو ولبنيانها أن يشمخ ويرتفع إلا بوجود وقود يذكيها ويشعل جذوتها، وكفاح وبذل يترجم صدقها وصدق حامليها، ولا قضية أنبل وأعظم من التوحيد، وهو ليس مجرد كلمة تقال، بل هو حقيقة ذات تكاليف، وأمانة ذات أعباء تحتاج إلى جهد ومصابرة واحتمال.

وإن وقود الاستخلاف في الأرض حتى يكون السلطان والحكم فيها لله وحده مصداقا لقوله: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ}؛ هو الجهاد في سبيل الله والصبر على مشاقه وتكاليفه؛ وذلك ببذل المهج وإرخاص الأرواح كما قال سبحانه: {وَقَاتِلُوهُمْ}، فلم يقل: سايروهم أو سالموهم أو شاركوهم لأن الدم لا يُحقن إلا بالدم! والحديد لا يُفل إلا بالحديد، وكرامة النصر والتمكين ليست غنيمة باردة تأتي بالمجان دون مقابل، والقعود والانبطاح والاستسلام وكل دعاوى الانهزام بجميع أشكالها وصورها لم تكن يوما سبيلا لإقامة الحق ونصرة الدين والعقيدة، بل القتال هو الطريق الأوحد والسبيل الآكد لتحقيق ذلك، لذلك أمر به سبحانه فقال: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّىٰ لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ}، قال ابن عباس رضي الله عنه: "حتى لا يكون شرك، ويخلص التوحيد لله". [ابن كثير]، وبهذا السبيل لا بغيره استطاع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم تشييد أعظم دولة عرفها التاريخ، بنوها بجماجمهم وسقوا أصولها بدمائهم حتى غدت سيرتهم في ذلك منارة شماء تهدي الأجيال الوافدة، وموكب نور يضيء شعاعه وسط الدجنة الحالكة.

أما من اختطّ له طريقا غير التوحيد وسلك سُبلا أخرى غير سبيل الجهاد، زاعما بسلوكها نصرة المستضعفين ومجابهة الظلم والظالمين، فقد ضل الطريق وتاه عن السبيل وزين له الشيطان سوء عمله فرآه حسنا، قال تعالى: {وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَٰذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيرًا}، فلقد جعل الله تعالى القتال سبيل نصرة الإسلام والمسلمين، ولو سلك الناس كل سبيل لرفع الاستضعاف عن أمة الإسلام؛ فلن يجدوا غير الجهاد سبيلا، شريطة أن يكون جهادا في سبيل الله على منهاج النبوة، وليس قتالا جاهليا في سبيل الطاغوت كالذي يملأ نتنه الآفاق اليوم.

ولذلك فالضريبة الثقيلة الدامية التي طابت نفوس المؤمنين قديما وحديثا بدفعها، واستسهلوا وعرها واستعذبوا عذابها هي ضريبة الشريعة وحاكميتها، ضريبة الحق كاملا لا بعضه ولا أنصافه، ضريبة منهاج النبوة لا مناهج الجاهلية والوطنية وكل ضروب الغثاء.

ولقد كان من فضل الله تعالى وتوفيقه وتسديده للدولة الإسلامية، أن هداها وأعانها على سلوك هذا السبيل القويم، فلم تبغ غير الجهاد سبيلا ولا لنهجه نائبا في إقامة دين الله وشرعه والدفاع عن بيضته والذود عن حياضه، منذ أن قامت وشقّت طريقها وحتى يومنا هذا الذي اشتدت فيه الهجمة على الإسلام، فتمايز الناس وتغربلت صفوفهم وتمحصت مناهجهم.

لقد احتمل مجاهدو دولة الإسلام تكاليف هذا الطريق وأعباءه ومشاقه ودفعوا ضريبته طوعا، من نفير وهجرة وقرح وجرح وقتل وأسر وفقدان للأحباب ومفارقة للأصحاب وإيثار السكنى في الأودية والشعاب، وافتراش الأرض والتحاف السماء في العراء وسط الرمضاء، لقد عاينوا كل ألوان المحنة والشدة واللأواء؛ جريا منهم على نهج وسيرة خاتم الرسل والأنبياء وصحابته السادة النجباء الذين ذاقوا من البأساء في سبيل إقامة الدين ألوانا وتجرعوا من العلقم كيزانا، في ترجمة واقعية لسنة الله في حمل أمانته ونصرة دينه وشريعته يسلّيهم قوله تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ}؛ قال ابن كثير: "أي: أحسبتم أن تدخلوا الجنة ولم تبتلوا بالقتال والشدائد.. أي: لا يحصل لكم دخول الجنة حتى تُبتلوا ويرى الله منكم المجاهدين في سبيله والصابرين على مقاومة الأعداء".

وإن ما يسطره جنود الدولة الإسلامية -ثبّتهم الله- من ملاحم عظيمة ومعارك شرسة في ظروف غير متكافئة بكل المقاييس، تراق فيها الدماء وتمزق الأشلاء وتتساقط فيها جماجم الشهداء، متصدّين فيها لحملات الصليبيين وأوليائهم المرتدين في سائر الولايات والميادين؛ شاهد وبرهان على أن وقود التوحيد باهظ وطريقه شائك، ليس عنه محيد، وخوضه طاعة لله واحتمال ما فيه، هو أمارة صدق وبشرى للسائرين عليه الباذلين فيه أغلى ما يملكون وبشراهم قوله تعالى: {وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ * سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ * وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ}.إن ضريبة تحكيم شريعة الله في أرضه ونقلها من حيز التنظير إلى أرض الواقع تحتاج منكم -معاشر المجاهدين- إلى كثير من التضحيات، وهذا هو قدره الغالب وحكمته البالغة وسنته الماضية في خلقه لم تحاب أحدا قبلكم بمن فيهم الأنبياء والرسل {مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا}، مع أنه سبحانه قادر على نصرة دينه وإهلاك أعدائه بدون قتال ولا جهاد، ولكنه سبحانه فرض ذلك على عباده امتحانا لإيمانهم واختبارا لصبرهم وتمحيصا لصفوفهم ورفعا لدرجاتهم، كما قال في كتابه: {ذَٰلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَٰكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ}.

إن الضريبة التي يدفعها المجاهد في سبيل إقامة شرع الله مهما عظمت، فنتاج أمرها بين جزاءين لا ثالث لهما: الأول هو النصر والظفر لمن يبقيه الله تعالى حتى يريه ذلك، وهذا النصر حق ووعد لا شك في تحقيقه في الحياة الدنيا، والثاني هو نيل مرتبة الشهادة السامية لمن يُقتل على هذا الدرب مؤمنا صابرا محتسبا لم يبدل ولم ينكل، وكلا الجزاءين للمجاهد فوز وكرامة ونجاة، والحمد لله رب العالمين.


• المصدر:
صحيفة النبأ العدد 505
السنة السابعة عشرة - الخميس 29 المحرم 1447 هـ

67944dd38c694

  • 1
  • 0
  • 4

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً