النصيحة للمجاهدين... تحريض لا تثبيط الحمد لله ولي المجاهدين، وناصرهم وهاديهم إلى الصراط ...

منذ 2025-07-28
النصيحة للمجاهدين... تحريض لا تثبيط

الحمد لله ولي المجاهدين، وناصرهم وهاديهم إلى الصراط المستقيم، والصلاة والسلام على من جاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين، وعلى آله وصحبه وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أما بعد:

فإن الله -سبحانه وتعالى- قد بيَّن لعباده السبيل الذي يحبه ويرضاه، ودلَّهم على مواطن الخلل والنقص لديهم ليحذروا الخطايا وتكرارها، وقد ذكر الله -تعالى- ما وقع من خطأ من المجاهدين، كما أثنى على ما فعلوه من صواب، كما بعد غزوة بدر حيث أنزل الله -تعالى- سورة الأنفال، لتخبر عن تردد بعض المؤمنين أول الأمر وكراهيتهم الخروج للقتال ومجادلتهم للنبي -صلى الله عليه وسلم- بعدما تبيَّن الحق {كَمَا أَخرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيتِكَ بِالحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ المُؤمِنِينَ لَكَارِهُونَ * يُجَادِلُونَكَ فِي الحَقِّ بَعدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى المَوتِ وَهُم يَنظُرُونَ} [الأنفال: 5 - 6].


• فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم

وكذلك نزول صدر هذه السورة إثر اختلافهم في تقسيم الأنفال، إذ بيَّن الله -تعالى- لهم أن ما هو أهم من ذلك عنده أن يتقُّوه ولا يسمحوا لأعراض الدنيا أن تكون سبباً لفساد ذات بينهم، ونبَّههم -سبحانه- إلى ضرورة السعي إلى استكمال الإيمان، بذكر صفات المؤمنين التي يحبها ويحب أهلها ويثيبهم أعظم الثواب عليها في الدنيا والآخرة، قال تعالى: {يَسأَلُونَكَ عَنِ الأَنفَالِ قُلِ الأَنفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصلِحُوا ذَاتَ بَينِكُم وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُؤمِنِينَ * إِنَّمَا المُؤمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَت قُلُوبُهُم وَإِذَا تُلِيَت عَلَيهِم آيَاتُهُ زَادَتهُم إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِم يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقنَاهُم يُنفِقُونَ * أُولَئِكَ هُمُ المُؤمِنُونَ حَقًّا لَهُم دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِم وَمَغفِرَةٌ وَرِزقٌ كَرِيمٌ} [الأنفال: 1- 4]، ونزلت آيات كثيرة في شأن غزوة بدر، وفي ثناياها الفوائد الجليلة التي تزكي قلوب المؤمنين وأعمالهم.

منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة
ورغم وجود المنافقين وتربصهم بالمؤمنين وبحثهم عن عثراتهم، نزلت الآيات التي تبين أن الفشل الذي حصل في غزوة أحد إنما هو بسبب معصية بعض المجاهدين لأمر النبي صلى الله عليه وسلم، وأن دافع تلك المعصية كان إرادةَ الحياةِ الدنيا ومتاعِها الزائل. قال تعالى: {وَلَقَد صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعدَهُ إِذ تَحُسُّونَهُم بِإِذنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلتُم وَتَنَازَعتُم فِي الأَمرِ وَعَصَيتُم مِن بَعدِ مَا أَرَاكُم مَا تُحِبُّونَ مِنكُم مَن يُرِيدُ الدُّنيَا وَمِنكُم مَن يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُم عَنهُم لِيَبتَلِيَكُم وَلَقَد عَفَا عَنكُم وَاللَّهُ ذُو فَضلٍ عَلَى المُؤمِنِينَ} [آل عمران: 152]، وما أجملَ وأحسن أن يخبرهم الله بعفوه عنهم في الموضع الذي ينبِّههم فيه على خطئهم...
ثم أخبر -تعالى- أنه عفا عمن تولى يوم التقى الجمعان، وأخبرهم أن سبب توليهم وقوعهم في معاصٍ سابقة أوقعهم الشيطان في الزلل بسببها، {إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوا مِنكُم يَومَ التَقَى الجَمعَانِ إِنَّمَا استَزَلَّهُمُ الشَّيطَانُ بِبَعضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَد عَفَا اللَّهُ عَنهُم إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ} [آل عمران: 155].


• قل هو من عند أنفسكم

آيات كثيرة تحدثت بالتفصيل عن حِكَم الله -عز وجل- فيما جرى قبل غزوة أحد وأثناءها وبعدها، كان في تلك الآيات الشفاء لقلوب المؤمنين وتساؤلاتهم عن سبب الفشل أمام الكفار في تلك المعركة، قال تعال: {أَوَلَمَّا أَصَابَتكُم مُصِيبَةٌ قَد أَصَبتُم مِثلَيهَا قُلتُم أَنَّى هَذَا قُل هُوَ مِن عِندِ أَنفُسِكُم إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران: 165]، وفي الآيات بيان الحكمة من مقتل عدد من الصحابة، رضي الله عنهم، مع التأكيد على أن إدالة الكفار على المؤمنين لا تدل أبداً على محبة الله للظالمين، {إِن يَمسَسكُم قَرحٌ فَقَد مَسَّ القَومَ قَرحٌ مِثلُهُ وَتِلكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَينَ النَّاسِ وَلِيَعلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنكُم شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} [آل عمران: 140]، كما علمهم الله –تعالى- درساً عظيماً لمَّا أُصيب بعض الصحابة بالضعف والوهن عندما أشيع أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قُتل، وأن الواجب الاستمرار في طاعة الله بجهاد أعدائه، ومتابعة السير في نصرة الإسلام {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَد خَلَت مِن قَبلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَاتَ أَو قُتِلَ انقَلَبتُم عَلَى أَعقَابِكُم وَمَن يَنقَلِب عَلَى عَقِبَيهِ فَلَن يَضُرَّ اللَّهَ شَيئًا وَسَيَجزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} [آل عمران: 144].وأن الموت أو القتل أصاب خيار خلق الله وهم الأنبياء والرسل، عليهم الصلاة والسلام، فلم يمنع ذلك من اتبعوهم بإحسان من الثبات على طريق الدعوة إلى توحيد الله وجهاد أعداء الله لأطرهم على الحق ودفع عدوانهم على الشريعة وأهلها ودارها {وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ} [آل عمران: 146]، ثم يشير الله -تعالى- إلى أن النصر قادم ولن تحرموا منه رغم ما سبق من أحداث، وأن عليكم أن تقتدوا بالأنبياء وأتباعهم الذين قال الله -تعالى- عنهم: {وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ * فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران: 147 - 148]، فكأن الله -تعالى- يَعِد الصحابة بالنصر بعد غزوة أحد التي وقع فيها الابتلاء والتمحيص للمؤمنين، ويوصيهم بالصبر والإحسان في طاعته، ويذكرهم بأن يطلبوا من الله مغفرة ذنوبهم وأن ينصرهم على القوم الكافرين. ولذلك كانوا واثقين من نصر الله -عز وجل- لهم يوم الأحزاب رغم الشدة وتكالب الكفار عليهم وإحاطتهم بهم {وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا} [الأحزاب: 22].


• منهج رباني في النصيحة

إننا نحتاج إلى تتبع هذا المنهج الرباني في تذكير المجاهدين، فمن جهة نَذكر أسباب تأخر النصر، ومن جهة أخرى نُذكرهم بحِكَم الله -تعالى- الأخرى في إدالة الكفار على المؤمنين، وأن منها أن يصطفي الله -عز وجل- من المجاهدين أناساً لمنزلة الشهادة، وأن يمحِّص الله -تعالى- المؤمنين، ويستخرج منهم عبادة التذلل والاستكانة لله والتضرع إليه، ولعل منها أن يُخرج الله -تعالى- الخَبث من بيننا، ولعل منها أن الله لو نصرنا دائماً لأصابنا الأشر والبطر وطلب العلو في الأرض والركون إلى الدنيا، كما أن الله -تعالى- يحب أن يرانا صابرين ملحين عليه في الدعاء والاستغاثة به -عز وجل- خائفين من ذنوبنا أن تكون سبب هلاكنا وخسارتنا في دنيانا وآخرتنا، وأن نخاف من الوقوع في الزيغ والضلال والانتكاس بعد معرفة الحق واتباعه {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} [آل عمران: 8]، ومن الحِكم أيضاً أن يُضل الله الكافرين حين يظنون أنفسهم قد انتصروا على الحق والهدى فيزدادوا إثماً وضلالاً، {ولَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} [آل عمران: 178]، فينتقم الله منهم، وينزل بهم بأسه ويسلِّط عليهم أولياءه الموحدين المجاهدين فيعذبهم بأيديهم.

لقد أمرنا الله -عز وجل- أن نحرض المؤمنين على القتال وعلى الصبر فيه والمصابرة والرباط على أعداء الله، ولا يصح أبداً أن نُقنط المجاهدين من رحمة الله، ولا أن نقول لهم إنكم لن تنتصروا أبداً بسبب وقوع الذنوب والأخطاء من بعضكم، فكما أنه لا يصح أن يُغَلِّب المسلم جانب الرجاء بحيث يتجرأ على معاصي الله، فكذلك لا يصح أن يُغلب العبد جانب الخوف إلى أن ييأس من عفو الله ورحمته، فكلا الطرفين مذموم وهو سبب للفتنة والضلال.

بل نقول للمجاهدين: حافظوا على إيمانكم بفعل الواجبات وترك المعاصي، فالإيمان هو سبب نصر الله لنا، مع الخوف من الله ورجاء ما عنده من الرحمة والثواب، وكونوا دوماً أذلة على إخوانكم المؤمنين أشداء على الكفار، وجاهدوا واصبروا واستغفروا الله واطلبوا عفوه ونصره، وأحسنوا ظنكم بالله -تعالى- الذي وعد المؤمنين بالنصر وبخصال أخرى جليلة، بقوله سبحانه: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ * وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 14 - 15].


• المصدر:
صحيفة النبأ - العدد 109
الخميس 19 ربيع الأول 1439 ه‍ـ

67944dd38c694

  • 1
  • 0
  • 7

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً