مقال: وألَّف بين قلوبهم الحمد لله الذي ألَّف بين قلوب المؤمنين فأصبحوا بنعمته إخواناً، ...

منذ 17 ساعة
مقال: وألَّف بين قلوبهم


الحمد لله الذي ألَّف بين قلوب المؤمنين فأصبحوا بنعمته إخواناً، والصلاة والسلام على نبيه الذي ربَّى أصحابه على توحيد الله والإحسان إلى عباده، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أما بعد..

فقد مرَّ أبو سفيان قبل أن يسلِّم على سلمان وصهيب وبلال -رضي الله عنهم- في نَفَر بالمدينة، فقالوا: ما أخذت سيوف الله من عنق عدو الله مأخذها، فقال أبو بكر، رضي الله عنه: أتقولون هذا لشيخِ قريش وسيِّدهم؟ فأتى أبو بكر النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- فأخبره، فقال: (يا أبا بكر لعلَّك أغضبتَهم، لئن كنتَ أغضبتَهم لقد أغضبتَ ربك)، فأتاهم أبو بكر، فقال: يا إخوتاه أغضبتُكم؟ قالوا: لا، ثم قالوا: يغفر الله لَكَ يا أخي. [رواه مسلم].
بهذه الأخلاق العالية كانوا يتعاملون، ولإخوانهم يتواضعون، وعن أخطائهم يتراجعون.


• تآلف قلوب المؤمنين مِنَّة عظيمة من الله (عز وجل)

في معرض الامتنان أخبر الله -تعالى- نبيه -صلى الله عليه وسلم- أنه أيَّده بنصره وبالمؤمنين، وألَّف بين قلوبهم، وأن تأليف القلوب هو بيد الله –تعالى- وحده، كما قال تعالى: {هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ * وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا في الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال: 62 - 63].
وفي الآية إشارة إلى أن سبب تآلف القلوب هو الإيمان، وأن أمر تآلف القلوب يستحق أن تبذل فيه أموال الدنيا كلها لو كان يُدرك ببذل أسباب دنيوية، ولكنه مِنَّة من الله _تعالى- على من اهتدى بهداه، واتبع نبيه، صلى الله عليه وسلم، وقدَّم رابطة الإيمان على كل رابطة، من قرابة أو انتساب لقبيلة أو لغة أو غيرها...


• تآلف القلوب من أسباب النصر

كما أن في الآية إشارة إلى أن من أهم أسباب النصر تآلف قلوب المؤمنين المجاهدين، فالعكس صحيح، وإن التنازع والتفرق من أهم أسباب الفشل وذهاب ريح المؤمنين وقوتهم، وهو معنى نصَّت عليه آية أخرى، هي قوله تعالى: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال: 46].
والمعنِيُّ بالصبر هنا الصبر على طاعة الله وطاعة رسوله -صلى الله عليه وسلم- بصفته رسولاً وبصفته قائداً لهم في المعارك، والصبر على إخوة الجهاد، فالمجاهد قد تبدر منه أخطاء بسبب ما يمر به من شدائد تخرجه عن طباعه، فيحتاج المجاهدون إلى أن يصبروا على بعضهم البعض، مع التناصح لإصلاح العيوب وتلافي الذنوب، حتى ننال معية الله سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 153].


• الألفة بين المهتدين

للتآلف أسباب أهمها الإيمان -كما ذكرنا- والصبر على الإخوان، والتواصي معهم على الحق وعلى الصبر كما قال تعالى: {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر].

ومن الإيمان الاعتصام بحبل الله جميعاً وعدم التفرق: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [آل عمران: 103].

وقد جمع الله المجاهدين في دولة الإسلام القائمة على الحكم بشريعة الله، وتوحيده، والكفر بالطواغيت، ومجاهدتهم، ولزوم جماعة المسلمين وإمامهم، فحرِيٌّ بالمجاهدين أن يكونوا كالبنيان المرصوص: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ} [الصف: 4]، فيشعر كل مؤمن بأخيه، يفرح لفرحه ويحزن لحزنه، كما قال، صلى الله عليه وسلم: (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى) [رواه الشيخان].


• ما تحصل به الألفة

السعيُ إلى تآلف القلوب ومنعُ أسباب التفرق من الواجبات الشرعية، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، وهذه بعض التوجيهات النبوية لتحقيق ما أمرنا الله به:

- أن يحب المؤمن لأخيه ما يحب لنفسه، قال نبينا، صلى الله عليه وسلم: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه) [رواه الشيخان]، فالإيمان لا يتم حتى نحب لإخواننا محبة صادقة ما نحب لأنفسنا من خصال الدين، وخيري الدنيا والآخرة.

- أن يؤدي إليه حقوقه، ومنها ما ذكره النبي -صلى الله عليه وسلم- بقوله: (حق المسلم على المسلم خمس: رد السلام، وعيادة المريض، واتباع الجنائز، وإجابة الدعوة، وتشميت العاطس) [رواه الشيخان]، وفي رواية لمسلم: (حق المسلم على المسلم ست: إذا لقيته فسلم عليه، وإذا دعاك فأجبه، وإذا استنصحك فانصح له، وإذا عطس فحمد اللَّه فشمته، وإذا مرض فعده، وإذا مات فاتبعه).

- الابتعاد عن أسباب التفرق والتنافر والتشاحن، كما قال، صلى الله عليه وسلم: (لا تحاسدوا، ولا تناجشوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، ولا يبع بعضكم على بيع بعض، وكونوا عباد الله إخواناً، المسلم أخو المسلم، لا يظلمه، ولا يخْذُلُه ولا يَحْقره، التقوى هاهنا، وأشار إلى صدره، بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله عرضه) [رواه مسلم].

- أن تعين أخاك على الحق والمعروف، وتمنعه من العصيان والظلم، قال صلى الله عليه وسلم: (انصر أخاك ظالما أو مظلوما)، فقال رجل: يا رسول الله، أنصره إذا كان مظلوما، أفرأيت إذا كان ظالما كيف أنصره؟ قال: (تحجزه أو تمنعه من الظلم فإن ذلك نصره) [رواه البخاري].

وهناك أمور أخرى كثيرة تصون الأخُوَّة وتحافظ عليها وتغلق منافذ الشيطان، وتقف أمام تحريشه بين الإخوان، فمنها الصدق معهم، وصفاء القلب لهم، ونصيحتهم، وانتقاء أطايب الكلام لمخاطبتهم، كما قال تعالى: {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّاً مُبِيناً} [الإسراء: 53].


• ثوابٌ ومنافعُ يُحصلها المتحابون في الله

إن محبتنا للمؤمنين دليل على محبتنا لله عز وجل، وبها يجد المؤمن حلاوة الإيمان، ففي الحديث المتفق عليه: (ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان) ومنها: (أن يحب المرء لا يحبه إلا لله).
وبالأخذ بأسباب الألفة نكون قد عملنا بأوامر الله، ونكسب الأجر والثواب الجزيل، وتطيب حياتنا، ونكون بعون الله قد انتصرنا على شح نفوسنا ووساوس الشياطين، وتقوى عزائمنا لجهاد أعداء الله وأعدائنا..

كما أن تآلفنا وتراحمنا وتآخينا يحقق مصلحة الإسلام ومصلحة الجماعة، وهي دولة الإسلام، أمراء ورعية، وقد روي عن أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه: "لا إسلام إلا بجماعة، ولاجماعة إلا بإمارة، ولا إمارة إلا بطاعة" [سنن الدارمي].

إن التعاون على البر والتقوى الذي أمرنا الله -عز وجل- به لا يتحقق على الوجه الذي يحبه الله إلا بإخوة متحابين في الله متآلفين، وما أعظم ربحهم بأن يظلهم الله -عز وجل- في ظله يوم القيامة، كما في الحديث القدسي الذي يقول الله -تعالى- فيه: (أين المتحابون بجلالي، اليوم أظلهم في ظلي يوم لا ظل إلا ظلي) [رواه مسلم].

نسأل الله أن يجعلنا من المتآلفة قلوبهم على دين الله، المتحابين في ذات الله، والمتناصرين في طاعة الله، والحمد لله رب العالمين.



• المصدر:
صحيفة النبأ - العدد 110
الخميس 26 ربيع الأول 1439 ه‍ـ

683b4f9a9ea34

  • 0
  • 0
  • 5

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً