أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ إن الصدق لا يمكن أن يكون حقيقة ملموسة فيمن يدعيه بمجرد الدعاوى ...

منذ يوم
أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ

إن الصدق لا يمكن أن يكون حقيقة ملموسة فيمن يدعيه بمجرد الدعاوى الخاوية من الأفعال، إلا بعد أن تتجسد تلك الدعاوى واقعا على أرض الجهاد، فلا يكون المرء صادقا إلا حين تسمو نفسه إلى مراقي الفلاح فتسعى بخطوات عملية وتقف موقف الصدق لتثبت ما تدعي أثناء مسيرها في طريق الدعوة إلى الله، الذي حُفَّ بأعظم الكربات والمكاره، فليس الصادق اليوم من يجد الأعذار لنفسه للهروب من مواقف الصدق مع الله -تعالى- حين يشتد البلاء، وليس الصادق من يرمي فشله ونكوصه وانهزامه على مواقف المنهزمين، وليس الصادق من يترك جماعة المسلمين ويتشبث بالأشخاص متذرعا بالذين يَحصُر الحقَّ في أقوالهم وأفعالهم، إنما الصادق الذي لا يرى لنفسه عذرا ولو كان من أهل الأعذار، والصادق لا يأبه بانتكاس من يشار له بالبنان ولو عُدَّ من الأخيار، والصادق هو الذي يتشبث بوصية النبي -صلى الله عليه وسلم- بلزوم الجماعة والإمام، وإن تنازع المتنازعون وركبتهم الأهواء فتركوا جماعة المسلمين.

إن دولة الخلافة لا تمضي إلا بأفعال الصادقين الذين يبذلون دماءهم رخيصة في سبيل الله ولا يحسبون حسابا للنتائج بعد ذلك، لأن هذه المواقف هي التي تستجلب النصرين، الشهادة في سبيل الله أو الظهور والتمكين، وكلاهما سبيل بقاء عزة الدين وبقاء كلمة التوحيد فوق كلمات الباطل.

إن أعظم موقف في أول ظهور الإسلام على الكفر هو موقف الصحابة البدريِّين، الذين كان منهم الصحابي الجليل حارثة بن سراقة -رضي الله عنه- الذي قُتل في أول معركة له وهي معركة بدر، فنال أعلى المراتب وحاز أسمى المطالب، وذلك حين أصابه سهم لا يعرف من رماه، فأصاب به الفردوس الأعلى بصدقه مع ربه جل في علاه، حينها جاءت أمه الثكلى لتعرف مصير ابنها الذي لم يكن في نظرها قد فلق بالسيف الهامات، أو سطر تاريخ البطولات، لتسأل النبي -صلى الله عليه وسلم- عن مصير ابنها القتيل بهذا السهم الذي لا يعرف راميه، أمسلم أم كافر، فعن أنس بن مالك أن أم الربيع بنت البراء -وهي أم حارثة بن سراقة- أتت النبي -صلى الله عليه وسلم- فقالت: يا نبي الله، ألا تحدثني عن حارثة -وكان قُتل يوم بدر أصابه سهم غرب- فإن كان في الجنة صبرت وإن كان غير ذلك اجتهدت عليه في البكاء؟ قال يا أم حارثة: (إنها جنان في الجنة، وإن ابنك أصاب الفردوس الأعلى) [رواه البخاري].

إن موقف صدق واحد يكفي للوصول إلى دار السعادة، فأولئك الصحابة الكرام الذين وقفوا موقف ساعة من نهار، سموا بالبدريِّين للتعريف بفضيلتهم، فهم أجلُّ الصحابة وأفضلهم وأرفعهم قدرا ومنزلة بين باقي الصحابة الكرام، لأنهم حين وقفوا وقفتهم كانوا قلة في العدد والعدة، فوقفوا موقفا في ذروة ضعفهم المادي، وذروة صدقهم مع الله –تعالى- مواجهين أبناء عمومتهم، متبرئين من شركهم، مناجزين إياهم بالسيوف، فكان فعلهم وجهادهم كما سمَّاه الله -تعالى- الفرقان يوم التقى الجمعان، فأنزل معهم ملائكته لتذود عنهم وتنصرهم، ولم تكن لبعض الأسياف والعصي وبعض الخيالة أن تهزم جموع الكافرين إلا بالصدق في نصرة الدين وترك الملذات والحرص على الحياة.

لقد سما صرح الخلافة بمواقف الصادقين الذين صدقوا عهدهم مع ربهم -نحسبهم والله حسيبهم-، فمن مواقف صدقهم هو وضوح غاية جهادهم من أول يوم بذرت فيه بذرة التوحيد على أرض الرافدين فأثمرت دولة الإسلام، لأن مشيديها نحسبهم من الصادقين الذين لم يرتابوا في دينهم وأخذوا الكتاب بقوة فأبطلوا مناهج الباطل وقاتلوا القريب والبعيد على أساس الولاء والبراء وشيدوا للحق دولة، وقد حفظ الله -تعالى- هذه الدولة فاستمر جهادها حتى قامت بواجب العصر المضيع، وذلك بإعلان الخلافة التي جمعت شتات الصادقين في أصقاع الأرض.

إن الصادقين اليوم هم الذين يمضون في طريقهم لا ينتظرون نتيجة عاجلة، فعاجل ما يريدون أن تُغمض أعينهم لتبصر أعالي النعيم وقناديل العرش بجوار الرحمن جل في علاه، فهم الذين يبذرون بدمائهم بذور التوحيد لتثمر في ربوع أرض الله بالتمكين، فلا ينأون بأنفسهم وينظرون من بعيد أو يقعدون مع النساء والذرية وينتظرون النتائج، بل يرمقون بأفئدتهم الفوز العظيم الذي يعقب التجارة الرابحة، وهو وعد الله -تعالى- الذي وعد به عباده الصادقين بالمغفرة والجنان قائلا في محكم التنزيل: {يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [الصف: 12]، ومع هذا الوعد وعد آخر تحبه النفوس وتطلبه وقد جبلت عليه، يمنحه الله بمنه وكرمه لمن شاء من عباده، وهو في قوله –تعالى- بعد الآية السابقة: {وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} [الصف: 13].وبعد كل ما سبق، فلا يخافنَّ موحد على مستقبل هذه الدولة المباركة مهما حصل من النوائب والزلزلة وفقدان الأرض، وحسب كل صادق أن أقر الله عينه برؤية الدين عزيزا محكما بين المسلمين وأبناء الإسلام يناجزون العالم كله عن أمر ربهم جل وعلا، فطوبى لقتلة في سبيل الله بعد هذه العزة وهذا الخير العميم، ولو كان الإمام المجاهد أبو مصعب الزرقاوي -تقبله الله- حيا بيننا فماذا عساه أن يقول بعد أن قال في وقته: "ويكفينا قبل حسم النتيجة أن قرت عيوننا برؤية أبناء الإسلام يثبتون كالجبال الرواسي على خطوط الفلوجة المباركة، ويلقنون الأمة دروساً جديدة في الجلد والصبر واليقين" [وكذلك الرسل تبتلى ثم تكون لها العاقبة].

إن دولة الإسلام كانت ولا تزال تروى بدماء خيرة أبناء المسلمين من مهاجرين وأنصار ممن صدقوا مع ربهم سبحانه، فمن فاته هذا الخير في زمان الفتن والملاحم فقد فاته الخير كله، لأن الثبات وقت الشدائد والرزايا والخطوب هو ديدن الصادقين الذين كتب الله لهم المراتب والمنازل العلا في الجنة بقدر صبرهم على الفتن والابتلاءات، وستبقى ثلة من أولياء الله الصادقين ثابتين مهما تساقط من حولهم المتساقطون حتى يتسلم الراية عيسى ابن مريم -عليه الصلاة والسلام-، فيلقى تلك الثلة الثابتة الصادقة فيبشرهم، فبماذا يبشرهم؟ قال نبينا -صلى الله عليه وسلم- عنهم: (يأتي عيسى ابن مريم قوم قد عصمهم الله منه، فيمسح عن وجوههم ويحدثهم بدرجاتهم في الجنة) [رواه مسلم].

فيا أيها الصادق الموحد، يا من رماك الكفار جميعهم عن قوس واحدة وأنت صابر محتسب ثابت، أبشر بدرجة في الجنة تقر بها عينك، ولن تكون تلك الدرجة إلا لمن صبر وظفر بإحدى الحسنين.



صحيفة النبأ - العدد 111
الخميس 3 ربيع الثاني 1439 ه‍ـ

67944dd38c694

  • 1
  • 0
  • 38

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً