الوقاية من أسباب الانتكاسات الحمد لله الذي يثبِّت الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا ...

منذ يوم
الوقاية من أسباب الانتكاسات


الحمد لله الذي يثبِّت الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا والآخرة، ويُضل الظالمين ويفعل ما يشاء، والصلاة والسلام على رسوله الذي كثيراً ما كان يدعو (يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك)، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أما بعد:

فإن غاية خلق الله للإنسان أن يعبد الله ويستمر على عبادته حتى يلقاه فيفوز برضاه، وعلى هذا المعنى يدُلُّ قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 102]، يريد الله منا أن نثبُت على تقواه حتى يأتينا الأجل ونحن على الإسلام، وهذا يتطلب من المسلم أموراً، منها أن يسأل الله الثبات على دينه، فكما أنه بحاجة إلى الهداية، هو بحاجة إلى الثبات عليها حتى الممات، وهذا داخل في دعاء المسلم في كل ركعة: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة: 6]، والذي ينتفع بهذا الدعاء العظيم هو من يكون طالباً للهداية والثبات مستشعراً حاجته إليهما، خائفاً من الضلال بعد الهدى، غير مُعجب بعمله، بل يعترف بفقره إلى الله، ويُقرُّ بنعم الله عليه التي أعظمها الهدايةُ إلى الصراط المستقيم ومخالفةُ المغضوب عليهم والضالين.


• العلم الشرعي معين على الثبات

كما على المسلم كي يرزق الثبات أن يتعلم العلم الشرعي الذي به يعرف ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال حتى يتقي الله حق التقوى، والعلم الشرعي مبني على أصلين هما الكتاب والسنة، كما فهمهما سلف هذه الأمة، قال ابن القيم، رحمه الله:
العلم قال الله قال رسوله
قال الصحابة هم أولو العرفان

ثم عليه بعد ذلك أن يحرص على العمل بما علم، فلا تحقيق للتقوى بلا علم، ولا تحقيق لها بلا عمل بالعلم الشرعي.


• الخوف من الانتكاس

ويجب أن يبقى المسلم خائفاً من الانتكاس على عقبيه، فقد أخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- أن من الخصال التي يجد المؤمن بها حلاوة الإيمان: (أن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار) [متفق عليه]، وقد أخبرنا -تعالى- أن الراسخين في العلم يخافون من العودة في الكفر والزيغ بعد إذ نجَّاهم الله منهما، ويدعون الله -تعالى- قائلين: {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ [آل عمران: 8].

وعليه أن يحقق التقوى بفعل جميع ما أوجبه الله وترك كل ما حرَّم على عباده، وتعاهُد النية لتكون الأعمال خالصة لوجه الله تعالى، وإلا لم تقبل. فإن وقعت منه معصية اعترف لله بذنبه وبادر إلى التوبة والعودة إلى الله، كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران: 135].


• الحذر من أسباب الانتكاسات

وإذا لم يحذر المسلم أسباب الانتكاسات أصابته في مقتل، وأعظم الخسارة خسارة الدين، قال حذيفة، رضي الله عنه: "كان الناس يسألون رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن الخير، وكنت أسأله عن الشر، مخافة أن يدركني" [صحيح البخاري].


• ومن أسباب الانتكاسات:

- اتباع الهوى وترك الهدى المستفاد من كتاب الله وسنة رسوله، صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [القصص: 50]، والخطر كل الخطر في الإعراض عن العمل بالحق بعد معرفته، قال تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [النور: 63].

قال الإمام أحمد: "أتدري ما الفتنة؟ الفتنة: الشرك، لعله إذا رد بعض قوله: (أي قول النبي، صلى الله عليه وسلم) أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيهلك". وقال تعالى: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [الصف: 5]، وقد يعاقب الله العاصي بأن يضله ويوقعه فيما هو أكبر من المعصية، كما عاقب الذي في قلبه مرض ولم يسع إلى مداواته بأن زاده مرضاً حتى صار من أهل النفاق الأكبر والعياذ بالله، قال تعالى: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا} [البقرة: 10].- ومنها: اتباع الأئمة المضلين من قادة وعلماء، قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ * كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ} [الحج: 3 - 4]، والعلماء منهم من هو كالدواء للناس، ومنهم من هو سبب مرضهم وهلاكهم، لأن الناس تسمع لهم وتقتدي بهم، ويظن البعيدون عن الحق أن العلماء جُنة من عذاب الله ولو كانوا من أئمة الضلال! فيقول بعضهم: "اجعل بينك وبين النار عالماً"، وقد قطع الله حجة من يتبع المضلين ولو كانوا من أهل العلم الشرعي، بأن بيَّن -سبحانه- أنه سيسألنا عن اتباعنا للأنبياء لا للعلماء، وأن العلماء الذين ينفعهم علمهم وينتفع الناس بهديهم هم أشد الناس خشية لله {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28]، وأخبرنا -سبحانه- عن علماء أهل الكتاب الذين لبَّسوا الحق بالباطل وكتموا الحق واشتروا بآيات الله ثمناً قليلاً فصدوا عن سبيله، وذلك لنحذر من تضليل من يشابههم من علماء هذه الأمة، وأخبرنا -سبحانه- عن تبرؤ المتبوعين المضلِّين من علماء وقادة من أتباعهم، وتمني الأتباع أن تكون لهم كرة أخرى فيتبرؤوا من أئمتهم المضلين، قال تعالى: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ * وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} [البقرة: 166 - 167]، فواجب المسلم أن يتحرى العالِمَ الذي يتبعه ويستفتيه، وينظر في حاله من حيث التقوى والبعد عن الشبهات والشهوات المحرمة.

- ومنها: عدم تعويد النفس على ترك التعلق بالدنيا، وقد أهلك هذا الأمر خلاصةَ الناس وخاصَّتهم وهم علماء كانوا أعرف الناس بالحق وعرفوا ما في اتباعه من الثواب، وما في الإعراض عنه من العقاب، قال تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الأعراف: 175 - 176].

- ومنها: عدم تعاهد القلب حتى يقسو فتجمد العين وتضعف التقوى، وخاصة بعد طول الأمد، لأن الإنسان إذا انتقل من الغفلة والضلال إلى التمسك بالدين يكون في أول الأمر متحمساً للحق مقبلاً عليه بقوة، ولكن هذا الحماس يضعف مع الأيام ويعقبه فتور، فإن لزم المسلم طاعة الله وجاهد نفسه وهواه نجا بإذن الله تعالى، وإن أدى به الفتور إلى العودة إلى ما كان يألف من معاص قبل هدايته فهذا يهلك والعياذ بالله إن لم يتغمده الله برحمته، جاء في حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول اللَّه -صلى الله عليه وسلم- قال (إن لكل شيء شِرَّة، ولكل شِرَّة فترة، فإن صاحبها سدد وقارب فارجوه، وإن أشير إليه بالأصابع فلا تعدوه) [رواه الترمذي وقال حسن صحيح]. وقال –تعالى- محذراً من مشابهة أهل الكتاب في قسوة القلوب، وأن الواجب أن يحرص المسلم على خشوع قلبه لذكر الله: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد: 16].

وهذا الموضوع يحتاج إلى استعراض جوانب أخرى كثيرة لمحاولة استيفاء الكلام عنه، ولعل الله أن ييسر ذلك في مقالات قادمة، وبالله التوفيق وهو المستعان.

نسأل الله -تعالى- أن يثبتنا على دين الإسلام ونصرته ونصرة دولته حتى نلقاه، ونسأله –تعالى- أن يمن علينا بالنصر على القوم الكافرين، والحمد لله رب العالمين



صحيفة النبأ - العدد 112
الخميس 10 ربيع الثاني 1439 ه‍ـ

67944dd38c694

  • 1
  • 0
  • 25

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً