طاعة الغفَّار بكتمان الأسرار الحمد لله الذي نوَّع لعباده الابتلاءات ليرى امتثالهم لأوامره في ...

منذ 2025-08-04
طاعة الغفَّار بكتمان الأسرار


الحمد لله الذي نوَّع لعباده الابتلاءات ليرى امتثالهم لأوامره في جميع الأحوال، والصلاة والسلام على رسوله الذي آتاه الحكمة، فكان يتصرف وفقها في الجهر والإسرار، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أما بعد...

فإن مما ابتلى الله به عباده وخاصة المجاهدين أمر حفظ الأسرار والتثبت من الأخبار، وهناك أمور شرعية ومصالح عامة وخاصة يحب الله فعلها علناً وجهراً، ومنها ما يُستحب كتمانه ومنها ما يجب إخفاؤه، قال تعالى: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [البقرة: 271].


• صلاح الأحوال بكتمان الأسرار

من المعلوم لدى العقلاء أن هناك أموراً لا يصلح أن تكون معلنة، ولذلك يستأمن الناس بعضهم بعضاً على إسرارها، فأمور السياسة والحرب لا يمكن أن تكون كلأً مباحاً لكل الناس، يتكلم عن تفاصيلها الجميع أهل الشأن وغيرهم ممن لا مصلحة له في معرفة الأسرار، بل المفسدة متحققة بنشر الإنسان كل ما يصله من أخبار وإفشائه للأسرار، فلدولة الإسلام أعداء كثر متربصون يبحثون عن كل ثغرة لاستغلالها، ولذلك يستخدمون جواسيسَ ظاهرهم الإسلام ليصلوا إلى الأسرار والمخفيات، وقد صار للجاسوسية عالم كبير من الأجهزة والوسائل والأشخاص، ومن المؤسف أن يقوم مسلمون بل ومجاهدون بخدمة الأعداء دون قصد بأن لا يقيموا وزناً للمعلومات والأخبار التي يجب أن تبقى سرية، فيسارع الواحد إلى التفكه والتسلية في المجالس بحكاية الأخبار، وربما يحاول أن يبرز نفسه بأنه يعرف ما لا يعرفه غيره، ويصل إلى ما لا يصل إليه غيره، ويدعي مكانة ليست حقيقية، وهذا داءٌ خطير يقدح في إخلاص المسلم ويفسد قلبه وعمله، بل يتعدى فساده إلى المصلحة العامة للجماعة والدولة.


• الحفاظ على معنويات المجاهدين بكتمان ما يضرهم سماعه

في غزوة الأحزاب، لما بلغ النبي -صلى الله عليه وسلم- لقاء حيي بن أخطب ببني قريظة، أرسل الزبير بن العوام يستطلع الأمر، فرجع فقال: يا رسول الله رأيتهم يصلحون حصونهم ويدربون طرقهم وقد جمعوا ماشيتهم، فدعا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عدداً من الصحابة فيهم سيد الأوس سعد بن معاذ وسيد الخزرج سعد بن عبادة، وقال لهم: (انطلقوا حتى تنظروا أحقٌ ما بلغنا عن هؤلاء القوم أم لا؟ فإن كان حقاً فالحنوا لي لحناً أعرفه ولا تفتُّوا في أعضاد الناس، وإن كانوا على الوفاء فيما بيننا وبينهم فاجهروا به للناس).

فلما ذهبوا إليهم جاهروهم بالعداوة وقالوا: مَن رسول الله؟ لا عهد بيننا وبين محمد ولا عقد، وتشاتموا مع الوفد، فرجع الوفد إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقالوا: عضل والقارة، أي: كغدر عضل والقارة بأصحاب الرجيع، فكبَّر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقال: أبشروا يا معشر المسلمين بنصر الله وعونه.

راعى النبي -صلى الله عليه وسلم- في حال المعركة نفوس الناس، وحرص على ألا يسمع المجاهدون إلا ما يقوي قلوبهم ويشجعهم على القتال، ومثل هذا الخبر وهو غدر بني قريظة سيعلم به المسلمون، وأول ما سمعوا من النبي القائد -صلى الله عليه وسلم- أنه كبَّر وبشَّر المسلمين بالنصر والعون من الله، فبهذا التصرف الحكيم من النبي -صلى الله عليه وسلم- ترتفع معنويات المؤمنين ويزداد يقينهم وإيمانهم وتعلق قلوبهم بالله، فلا يضرهم بعد ذلك أن يصلهم خبر نقض بني قريظة للعهد، فبدلاً من أن يتأثر الصحابة سلباً بالخبر يتأثرون إيجاباً، لأنهم يرون سنة الله في نصره للرسل وأتباعهم وهي تجري عليهم، كما قال تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة: 214]، وهذا ما جعل المسلمين يستبشرون بنصر الله فيقولون لما رأوا الأحزاب: {هَـذَا مَا وَعَدَنَا اللَّـهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّـهُ وَرَسُولُهُ} [الأحزاب: 22]، وما زادهم تحشد الكفار وتحزبهم عليهم إلا إيماناً بوعد الله لهم بالنصر وتسليماً لأمر الله الحكيم العليم.


• خطورة الأسرار العسكرية

(كفى بالمرء كذباً أن يحدث بكل ما سمع) [رواه مسلم].

هذا منهج وضعه لنا الصادق المصدوق -صلى الله عليه وسلم- في التعامل مع الأخبار، في حالَي السلم والحرب، والأمر حال الحرب أعظم خطراً، فلا يصح أن نقبل أو ننقل كل خبر دون تثبت ودون نظر في المصلحة الشرعية لجماعة المسلمين، بل نتثبت ونبحث عن مصدر الخبر، وننظر هل يصح نشر الخبر أم لا، قال صلى الله عليه وسلم: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت) [متفق عليه].
وهناك أمور عامة كخطط المعارك ومواعيدها وأخبار الانتصارات أو المصائب فهذه مما يختص أولياء الأمور بالنظر والبت فيها، لا يصح للأفراد من الجنود والرعية التساهل في قبولها أو نقلها أو تحليلها، قال تعالى: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا} [النساء: 83]، عاب الله -تعالى- في هذه الآية على هؤلاء المتساهلين في إذاعة الأخبار ونشرها والحال أنها تمس المصلحة العامة لجماعة المسلمين، وأمر بردِّ هذه الأخبار إلى أهل الاختصاص من أولي الأمر والخبرة ليحللوها ويروا ما يصح نشره مما لا يصح، وبيَّن -تعالى- أن رد الأمور إلى أهلها هو شأن المهتدين المنتفعين بفضل الله ورحمته، وأن من لا يتبعون هذا المنهج الرباني يخسرون فضل الله ورحمته وهم بأمس الحاجة إليهما، ويتسلط عليهم الشيطان فيضلهم ويرديهم.


• الصِدِّيق يحفظ سر رسول الله (صلى الله عليه وسلم)

عن عبد الله بن عمر أن عمر بن الخطاب حين تأيمت حفصة بنت عمر من خنيس بن حذافة السهمي، وكان من أصحاب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فتوفي بالمدينة، فقال عمر بن الخطاب: أتيت عثمان بن عفان، فعرضت عليه حفصة، فقال: سأنظر في أمري، فلبثت ليالي ثم لقيني، فقال: قد بدا لي أن لا أتزوج يومي هذا، قال عمر: فلقيت أبا بكر الصديق، فقلت: إن شئت زوجتك حفصة بنت عمر، فصمت أبو بكر، فلم يرجع إلي شيئا، وكنت أوجد عليه مني على عثمان، فلبثت ليالي، ثم خطبها رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فأنكحتها إياه، فلقيني أبو بكر، فقال: لعلك وجدت علي حين عرضت علي حفصة فلم أرجع إليك شيئا؟ قال عمر: قلت: نعم، قال أبو بكر: فإنه لم يمنعني أن أرجع إليك فيما عرضت علي إلا أني كنت علمت أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد ذكرها، فلم أكن لأفشي سر رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ولو تركها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قبِلتُها [رواه البخاري].


• حفظ الأسرار خلق فاضل وإفشاؤها من الرذائل

ومن الحِكَم: سرك دمك. وقالوا: "مِن وَهْي الأمر -أي ضعفه- إعلانه قبل إحكامه" وقال بعض الشعراء:

قد أركب الهول مسدولاً عساكره
وأكتم السرّ فيه ضربة العنق

نسأل الله أن يوفقنا لخدمة دينه والحفاظ على دولة الإسلام وأسرارها، وأن يثبتنا فيها حتى نلقاه وهو راض عنا، والحمد لله رب العالمين.
 
 
صحيفة النبأ - العدد 112
الخميس 10 ربيع الثاني 1439 ه‍ـ

67944dd38c694

  • 1
  • 0
  • 31

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً