صحيفة النبأ العدد 116 مقال: الحي القيوم الحمد لله رب العالمين، الذي منّ علينا فأخبرنا بأسمائه ...

منذ 23 ساعة
صحيفة النبأ العدد 116
مقال: الحي القيوم

الحمد لله رب العالمين، الذي منّ علينا فأخبرنا بأسمائه وصفاته، ودلنا على كيفية تعظيمه وطلب مرضاته، والصلاة والسلام على خاتم المرسلين الذي كان أعلم الناس بالله وأخشاهم وأتقاهم له، أما بعد...

فقد تكلمنا عن معرفة الله -جل وعلا- في الحلقة الماضية، وهذا شروع في بيان بعض أسماء وصفاته:

الحي القيوم: قال -سبحانه- واصفاً ذاته في أعظم آيات قرآنه (آية الكرسي): {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ} [البقرة: 255]، جاء في حديث أُبَيِّ بن كعب -رضي الله عنه- قال: قال رسولُ الله، صلى الله عليه وسلم: (يا أبا المنذر، أتدري أَيّ آية من كتاب الله معك أعظم؟ قلت: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ} [البقرة: 255] فضرب في صدري وقال: لِيَهْنِكَ العِلْمُ أبا المنذر) [رواه مسلم].

ففي هذه الآية الكريمة وصف الله -سبحانه- نفسه العلية بأنه حي وقيوم، وهما كما قال ابن كثير، رحمه الله: "{الْحَيُّ الْقَيُّومُ} أي: الحي في نفسه الذي لا يموت أبداً، القيم لغيره... فجميع الموجودات مفتقرة إليه وهو غني عنها ولا قوام لها بدون أمره"، وهو حي قيوم يدبر الأمور فلا تعتريه صفات النقص كالنوم أو النعاس المنافية لكونه قيوم مدبر لشؤون خلقه، وهو حي غني بنفسه لا يحتاج إلى أحد ويحتاج له كل أحد، سبحانه، {مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات: 57 - 58]، كلنا عاجز ضعيف لولا إقامته لنا، وكلنا فقير لولا إغناؤه لنا، وكنا لا شيء فأخرجنا إلى الوجود وخلق أبانا آدم من الطين بيده وذرأ له ذريته من بعده، وقدرنا من أشرف الأجناس فامتنَّ علينا بأن فرض علينا عبادته وحبه وتعظيمه، لم يطلب منا رزقاً ولا هو بحاجة لشيء من عباداتنا ولا ننفعه طرفة عين -جل جلاله- وقد تلطف معنا غاية التلطف في الحديث القدسي فقال: (يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم، وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئاً، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئاً) [رواه مسلم].

وهو حي لا ينام ولا يسهو ولا يغفل طرفة عين عن تدبير عباده ورزقهم وإجابة دعائهم وتقبل عباداتهم -عزَّ وجلَّ- كما قال عنه رسوله، صلى الله عليه وسلم: (إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يرفع إليه عمل النهار قبل عمل الليل وعمل الليل قبل عمل النهار) [رواه مسلم].

هو -سبحانه- القائم على كل نفس بما كسبت، يعلم سرها ونجواها، ويدبر أمورها ويربيها طوراً فطوراً، ويدلها -بفضله ورحمته- على طريق نجاتها، ثم يجازيها الجزاء الدائر بين العدل والفضل.

قال ابن القيم -رحمه الله- في النونية:

هذا وَمِنْ أوصافه القيّوم
والقيّوم في أوصافه أمران
إحداهما القيّوم قام بنفسه
والكون قام به هما الأمران
فالأول استغناؤه عن غيره
والفقر من كلٍّ إليه الثّاني
والوصف بالقيّوم ذو شأن كذا
موصوفه أيضا عظيم الشانِ

و(الحي القيوم) (الحي) من له الحياة الكاملة العظيمة الجامعة لجميع معاني الذات، و(القيوم) الذي قام بنفسه، واستغنى عن جميع خلقه، وقام بتدبير جميع المخلوقات، فتدخل في هذا الاسم جميع صفات الأفعال الثابتة لله تعالى.

{لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} [البقرة: 255]، خالق السماوات والأرض وما فيهما، ومالكهما وما فيهما، يتصرف فيها بما يشاء على مقتضى علمه، الذي وسع كل شيء وحكمته البالغة، لا شريك له في ملكه، ولا معاون له من خلقه، بل هو الذي يعينهم ويتولى أمورهم ويقضي حاجاتهم.

ثم تمَّم الله -عز وجل- آية الكرسي في شرحٍ بديعٍ لاسمه (الحي القيوم) واصفاً فقرنا إليه في الآخرة وحاجتنا إلى أن يقبل فينا شفاعة الشافعين المرضيين عنده عز وجل: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة: 255]، فهو -سبحانه- مالك الشفاعة، ويأذن لمن شاء بالشفاعة عنده لمن شاء، ولا يبتدئ الشافع إلا بعد إذنه، قال ابن تيمية رحمه الله: "قال أبو هريرة له، صلى الله عليه وسلم: من أسعد الناس بشفاعتك؟ قال: (من قال: لا إله إلا الله خالصاً من قلبه) فتلك الشفاعة لأهل الإخلاص بإذن الله، ولا تكون لمن أشرك بالله... وحقيقتها أن الله -سبحانه- هو الذي يتفضل على أهل الإخلاص، فيغفر لهم بواسطة دعاء من أذن له أن يشفع ليكرمه وينال المقام المحمود" فالشافع والمشفوع له تحت أمر الله وإذنه!

ثم تمم {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ} [البقرة: 255]، قال ابن كثير: "دليل على إحاطة علمه بجميع الكائنات: ماضيها وحاضرها ومستقبلها كقوله إخباراً عن الملائكة: {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} [مريم: 64]، لا يطلع أحد من علم الله على شيء إلا بما أعلمه الله -عز وجل- وأطلعه عليه".

وتمم بيان عظمته وعظمة ملكه بذكر قيوميته وقيامه بأمور الخلق كلها: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} [البقرة: 255]، ثم بين أن كل هذا التدبير والتصريف للسماوات والأرض لا يتعبه طرفة عين {وَلَا يَئُودُهُ} [البقرة: 255]، أي لا يثقله {حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} [البقرة: 255] "بل ذلك سهل عليه يسير لديه وهو القائم على كل نفس بما كسبت، الرقيب على جميع الأشياء، فلا يعزب عنه شيء ولا يغيب عنه شيء، والأشياء كلها حقيرة بين يديه متواضعة ذليلة صغيرة بالنسبة إليه، محتاجة فقيرة إليه وهو الغني الحميد، الفعال لما يريد، الذي لا يسأل عما يفعل وهم يسألون، وهو القاهر فوق عباده، الحسيب على كل شيء، الرقيب العلي العظيم، لا إله غيره ولا رب سواه" كما قال ابن كثير.

وللإيمان بهذين الاسمين العظيمين آثار على قلب المؤمن وأعماله، فمنها:

1- تعظيم الله -تعالى- ومحبته والتذلل له وإخلاص العمل له، واجتناب الشرك وجميع ما يسخطه، عز وجل.

2- التعلق والاستعانة بالله -عز وجل- الذي يدبر أمور جميع الخلائق، وقطع التعلق بالخلق والأسباب، مع عدم إهمال الأخذ بالأسباب الشرعية، فالله -تعالى- هو مسبب الأسباب، والأسباب لا توصل بنفسها بل بأمر الله عز وجل، والخلق لا يملك الواحد منهم لنفسه فضلاً عن غيره ضراً ولا نفعاً.

3- التوكل على الله -عز وجل- في جلب المنافع الدينية والدنيوية والأخروية، ودفع المضار في الدين والدنيا والآخرة، مع الثقة بالله -تعالى- في تحقيق ذلك، لأنه يعلم حاجات عبده، ويقدر على إصلاح شؤونه كلها، ولأنه -سبحانه- قد وعد عباده المؤمنين بأن يكفي من توكل عليه.

4- الزهد في الدنيا والسعي لإعمار الآخرة بطلب مرضاة الله وثوابه بالأعمال الصالحة، فالإنسان سيفنى وتفنى متع الحياة الدنيا، وما عند الله من الثواب والنعيم لمن عمل صالحاً هو الباقي.

فسبحان الله ما أعظم شأنه، وما أجهلنا حال عصيانه، وهو خالقنا ورازقنا ومالك رقابنا ونواصينا، وما أشد نُكراننا لجميله إذا تشبثنا بأموالنا وأولادنا، وقبل هذا وذاك أنفسنا ولم نبذلها فداً للدين.

يا حي يا قيوم أنت المرتجى
رزقا وعزاً دونه سنَحَارُ
خضعت لعزتك الخلائق كلها
أنت الكريم ودونك الإعسارُ
يا حي يا قيوم فاقبل عذرنا
من دون عفوك شَقْوة وخَسَارُ
سبحانه... سبحانه... سبحانه...

والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.


• المصدر:
صحيفة النبأ - العدد 116
الجمعة 8 جمادى الأولى 1439 ه‍ـ

683b4f9a9ea34

  • 0
  • 0
  • 7

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً