الحوار المشهود والعذاب الموعود (1) لا يفتأ الناس ينظرون إلى الصراع بين الحق والباطل بالنتائج ...
منذ 15 ساعة
الحوار المشهود والعذاب الموعود (1)
لا يفتأ الناس ينظرون إلى الصراع بين الحق والباطل بالنتائج المادية التي يبنون عليها مواقفهم وردود أفعالهم، فمن الناس من حسم أمره بالقعود والنكول عن أمر الله لما رأى في نظره أن الأمر محسوم لصالح أقوى القوتين المتصارعتين على ميدان أرض الله الواسعة، وهما قوة الحق وقوة الباطل، فيظن الباطل غالبا والحق مغلوبا، وما درى أن العاقبة لأهل الحق والتقوى والإيمان، ومنهم من يميل مع القوة حيث مالت فيُظهر الإيمان تارة ويظهر الكفر تارة أخرى حسب النتائج التي تلبي مصالحه وهواه، ومنهم من ينظر من بعيد حتى إذا كانت الدائرة لأهل الإيمان ادعى أنه كان منهم ومناصرا لهم، وإذا كانت الدائرة لأهل الباطل قال قد أنعم الله عليَّ إذ لم أكن معهم شهيدا، وبين هذه الأصناف تبقى ثلة مبصرة اجتباها الله من بين الخلق كلهم، فلم تكترث للكثرة الخائبة المرتكسة، ولم تتأرجح في المواقف ولم تتردد قلوبهم أو تشك في موعود الله تبارك وتعالى، ولقد آنسهم ربهم -جل في علاه- فيما حكاه من الحوار مع الكفار ومشاهد العذاب التي لو تأملها المؤمن وقارن بين عاقبته وعاقبة أعداء الله، لهانت عليه كل بلية يلقاها في دنياه من أعدائه، ولتضاءلت في نظره كل الأخطار المحدقة به، التي يراها بأم عينه، فلنتأمل بعض تلك الحوارات وبعض تلك المشاهد الرهيبة من الانتقام والعذاب الخالد السرمدي.
لقد أخبر الله -تعالى- عباده الموحدين أن حوارات ستقع مع الكفار لما كان منهم من استهزاء بآيات الله -تعالى- والكفر بها ونصب العداوة لأولياء الله والسخرية منهم والضحك عليهم، كما أخبر الله -تعالى- عن حوارات أخرى بين التابعين والمتبوعين، وحوارات بين أهل الإيمان وأهل الكفران في الآخرة، وتلك المشاهد لا تغيب عن قلوب الصادقين الذين لا ينظرون إلى الصراع الدنيوي بنتائجه العاجلة، لأن الربح كل الربح عندهم هو الجزاء الجزيل من الرب الجليل يوم القيامة، وأن الله -تعالى- توعد الكفار بعذاب سرمدي سيراه المؤمنون ويحمدون الله -تعالى- على نعمة الهداية والنجاة من مصائر الكفار وسوء عاقبتهم، كما أنهم سيضحكون من الكفار يوم القيامة وتقر أعينهم بذلك الانتقام الذي ينزله الله بالقوم الكافرين.
وهنا سنتعرض إلى الحوار الذي أجاب الله به الكفار، والذي أجاب به ملائكته عن أسئلة الكفار والمجرمين بهذا الشأن والحكاية القرآنية عن حالهم ومآلهم، نسأل الله العفو والعافية، ومن الروايات التي جمعت بعض تلك الحوارات هو ما رواه الإمام الطبري -رحمه الله- إذ قال: "قال محمد بن كعب: بلغني، أو ذُكر لي، أن أهل النار استغاثوا بالخزنة، ادعوا ربكم يخفف عنا يوما من العذاب، فردُّوا عليهم ما قال الله، فلما أيسوا نادَوا: يا مالك، وهو عليهم، وله مجلس في وسطها، وجسور تمرُّ عليها ملائكة العذاب، فهو يرى أقصاها كما يرى أدناها، فقالوا: يا مالك، ليقض علينا ربك، سألوا الموت، فمكث لا يجيبهم ثمانين ألفَ سنة من سني الآخرة، أو كما قال، ثم انحط إليهم، فقال: {إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ} [سورة الزخرف: 77]، فلما سمعوا ذلك قالوا: فاصبروا، فلعلَّ الصبر ينفعنا، كما صبر أهل الدنيا على طاعة الله، قال: فصبروا، فطال صبرهم، فنادوا {سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ} [سورة الرعد: 21]، أي مَنْجى، فقام إبليس عند ذلك فخطبهم، فقال: {إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ} [سورة الرعد: 22]، فلما سمعوا مقالته، مَقَتُوا أنفسهم، قال: فنُودوا {لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الإيمَانِ فَتَكْفُرُونَ} [سورة غافر: 10] الآية، قال: فيجيبهم الله {ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ} [سورة غافر: 12]، قال: فيقولون: ما أيسنا بعد، قال: ثم دعوا مرَّة أخرى، فيقولون: {رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ} [سورة السجدة: 12]، قال: فيقول الرب تبارك وتعالى: {وَلَوْ شِئْنَا لآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا} [سورة السجدة: 13]، يقول الرب: لو شئت لهديت الناس جميعا، فلم يختلف منهم أحد {وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لأمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ * فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا}
يقول: بما تركتم أن تعملوا ليومكم هذا {إِنَّا نَسِينَاكُمْ} أي تركناكم {وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [سورة السجدة: 13 - 14] قال: فيقولون: ما أيسنا بعد، قال: فيدعون مرَّة أخرى: {رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ} [سورة الرعد: 44] قال: فيقال لهم: {أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ * وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ} [سورة الرعد: 44 - 45] ... الآية، قال: فيقولون: ما أيسنا بعد، ثم قالوا مرَّة أخرى: {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ} قال: فيقول: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ} [سورة فاطر: 37]، ثم مكث عنهم ما شاء الله، ثم ناداهم: {أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ} [سورة المؤمنون: 105]، فلما سمعوا ذلك قالوا: الآن يرحمنا، فقالوا عند ذلك: {رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا} أي: الكتاب الذي كُتب علينا {وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ * رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا} [سورة المؤمنون: 106 - 107] الآية، فقال عند ذلك: {اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ * إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ * فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ * إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ} [سورة المؤمنون: 108 - 111]، قال: فلا يتكلمون فيها أبدا، فانقطع عند ذلك الدعاء والرجاء منهم، وأقبل بعضهم ينبح في وجه بعض، فأطبقت عليهم، قال عبد الله بن المبارك في حديثه: فحدثني الأزهر بن أبي الأزهر أنه قال: فذلك قوله: {هَذَا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ * وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ} [سورة المرسلات: 35 - 36]" [تفسير الطبري].
فما أعظم تلك المشاهد الرهيبة من العذاب الطويل الخالد بأهل الكفران! وما أعظم الأجوبة التي تلقاها الكفار، التي تبين فداحة جرمهم وكفرهم بالله -تعالى- وحرابة دينه وأوليائه!
تلك الحوارات وتلك المشاهد هي أنيس كل مجاهد يحاربه من استكبر عليه وعلى إخوانه من قبل أمم الكفر والبغي، فحاربوه وأذاقوه البلاء والفتنة، وأظهروا له العداء والاستهزاء والسخرية ورموه بالضلال، {وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلَاءِ لَضَالُّونَ} [سورة المطففين: 32]، وهذا ما تفعله وسائل إعلام المرتدين والصليبيين اليوم، وهنا يتجلى مشهد آخر، لو تأمله المجاهد الموحد لازداد قلبه اطمئنانا واستئناسا ورضى، فكما يرى المؤمن الموحد مشاهد الضحك والاستهزاء به ورميِهِ بالضلال من قبل الكفار في الدنيا، فسيكون هو من يضحك منهم في الآخرة وهم يُعَذبون، وبهذا الشأن قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ * وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ * وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ * وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلَاءِ لَضَالُّونَ * وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ * فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ} [المطففين: 29 - 34].
قال الإمام الطبري: "كان ابن عباس يقول: إن السور الذي بين الجنة والنار يُفتح لهم فيه أبواب، فينظر المؤمنون إلى أهل النار، والمؤمنون على السرر ينظرون كيف يعذَّبون، فيضحكون منهم، فيكون ذلك مما أقرَّ الله به أعينهم، كيف ينتقم الله منهم" [تفسير الطبري].
وهذا المنظر الذي ينظر إليه المؤمنون لهو أشفى لصدورهم من كل انتقام دنيوي قد نراه أحيانا في الكفار، لأن أقصى ما يمكن فعله بهم في الدنيا هو قتلهم، والله -تعالى- عبَّر عن قتل الكفار بأنه عذاب لهم بأيدي المؤمنين، وذلك لأن رحلة العذاب للكفار تبدأ بعد القتل، فتبدأ صور العذاب النفسي والجسدي للكفار في اليوم الآخر، فيرى ذلك أهل الإيمان عيانا، ويقدر لهم أن يحاوروا الكفار الذين يرون الماء الطيب والرزق الذي حباه الله به عباده الصابرين، كما في قوله تعالى: {وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ} [الأعراف: 50].
قال الإمام البغوي: "قال عطاء عن ابن عباس: لما صار أصحاب الأعراف إلى الجنة طمع أهل النار في الفَرَج، وقالوا: يا رب إن لنا قرابات من أهل الجنة، فأذن لنا حتى نراهم ونكلمهم، فينظروا إلى قرابتهم في الجنة وما هم فيه من النعيم فيعرفونهم، ولم يعرفهم أهل الجنة لسواد وجوههم، فينادي أصحاب النار أصحاب الجنة بأسمائهم، وأخبروهم بقراباتهم: أن أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله، {قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ} [سورة الأعراف: 50]" [تفسير البغوي].
ولعل من يقرأ هذه الآيات يجد أن نعمة الهداية هي محض فضل عظيم خصَّ به الله -تبارك وتعالى- أهل طاعته وأسكنهم دار مقامته وانتقم لهم من الكفار في الدنيا والآخرة، {فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [سورة الجاثية: 36 - 37].
• المصدر:
صحيفة النبأ - العدد 119
الخميس 29 جمادى الأولى 1439 هـ
لا يفتأ الناس ينظرون إلى الصراع بين الحق والباطل بالنتائج المادية التي يبنون عليها مواقفهم وردود أفعالهم، فمن الناس من حسم أمره بالقعود والنكول عن أمر الله لما رأى في نظره أن الأمر محسوم لصالح أقوى القوتين المتصارعتين على ميدان أرض الله الواسعة، وهما قوة الحق وقوة الباطل، فيظن الباطل غالبا والحق مغلوبا، وما درى أن العاقبة لأهل الحق والتقوى والإيمان، ومنهم من يميل مع القوة حيث مالت فيُظهر الإيمان تارة ويظهر الكفر تارة أخرى حسب النتائج التي تلبي مصالحه وهواه، ومنهم من ينظر من بعيد حتى إذا كانت الدائرة لأهل الإيمان ادعى أنه كان منهم ومناصرا لهم، وإذا كانت الدائرة لأهل الباطل قال قد أنعم الله عليَّ إذ لم أكن معهم شهيدا، وبين هذه الأصناف تبقى ثلة مبصرة اجتباها الله من بين الخلق كلهم، فلم تكترث للكثرة الخائبة المرتكسة، ولم تتأرجح في المواقف ولم تتردد قلوبهم أو تشك في موعود الله تبارك وتعالى، ولقد آنسهم ربهم -جل في علاه- فيما حكاه من الحوار مع الكفار ومشاهد العذاب التي لو تأملها المؤمن وقارن بين عاقبته وعاقبة أعداء الله، لهانت عليه كل بلية يلقاها في دنياه من أعدائه، ولتضاءلت في نظره كل الأخطار المحدقة به، التي يراها بأم عينه، فلنتأمل بعض تلك الحوارات وبعض تلك المشاهد الرهيبة من الانتقام والعذاب الخالد السرمدي.
لقد أخبر الله -تعالى- عباده الموحدين أن حوارات ستقع مع الكفار لما كان منهم من استهزاء بآيات الله -تعالى- والكفر بها ونصب العداوة لأولياء الله والسخرية منهم والضحك عليهم، كما أخبر الله -تعالى- عن حوارات أخرى بين التابعين والمتبوعين، وحوارات بين أهل الإيمان وأهل الكفران في الآخرة، وتلك المشاهد لا تغيب عن قلوب الصادقين الذين لا ينظرون إلى الصراع الدنيوي بنتائجه العاجلة، لأن الربح كل الربح عندهم هو الجزاء الجزيل من الرب الجليل يوم القيامة، وأن الله -تعالى- توعد الكفار بعذاب سرمدي سيراه المؤمنون ويحمدون الله -تعالى- على نعمة الهداية والنجاة من مصائر الكفار وسوء عاقبتهم، كما أنهم سيضحكون من الكفار يوم القيامة وتقر أعينهم بذلك الانتقام الذي ينزله الله بالقوم الكافرين.
وهنا سنتعرض إلى الحوار الذي أجاب الله به الكفار، والذي أجاب به ملائكته عن أسئلة الكفار والمجرمين بهذا الشأن والحكاية القرآنية عن حالهم ومآلهم، نسأل الله العفو والعافية، ومن الروايات التي جمعت بعض تلك الحوارات هو ما رواه الإمام الطبري -رحمه الله- إذ قال: "قال محمد بن كعب: بلغني، أو ذُكر لي، أن أهل النار استغاثوا بالخزنة، ادعوا ربكم يخفف عنا يوما من العذاب، فردُّوا عليهم ما قال الله، فلما أيسوا نادَوا: يا مالك، وهو عليهم، وله مجلس في وسطها، وجسور تمرُّ عليها ملائكة العذاب، فهو يرى أقصاها كما يرى أدناها، فقالوا: يا مالك، ليقض علينا ربك، سألوا الموت، فمكث لا يجيبهم ثمانين ألفَ سنة من سني الآخرة، أو كما قال، ثم انحط إليهم، فقال: {إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ} [سورة الزخرف: 77]، فلما سمعوا ذلك قالوا: فاصبروا، فلعلَّ الصبر ينفعنا، كما صبر أهل الدنيا على طاعة الله، قال: فصبروا، فطال صبرهم، فنادوا {سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ} [سورة الرعد: 21]، أي مَنْجى، فقام إبليس عند ذلك فخطبهم، فقال: {إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ} [سورة الرعد: 22]، فلما سمعوا مقالته، مَقَتُوا أنفسهم، قال: فنُودوا {لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الإيمَانِ فَتَكْفُرُونَ} [سورة غافر: 10] الآية، قال: فيجيبهم الله {ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ} [سورة غافر: 12]، قال: فيقولون: ما أيسنا بعد، قال: ثم دعوا مرَّة أخرى، فيقولون: {رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ} [سورة السجدة: 12]، قال: فيقول الرب تبارك وتعالى: {وَلَوْ شِئْنَا لآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا} [سورة السجدة: 13]، يقول الرب: لو شئت لهديت الناس جميعا، فلم يختلف منهم أحد {وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لأمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ * فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا}
يقول: بما تركتم أن تعملوا ليومكم هذا {إِنَّا نَسِينَاكُمْ} أي تركناكم {وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [سورة السجدة: 13 - 14] قال: فيقولون: ما أيسنا بعد، قال: فيدعون مرَّة أخرى: {رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ} [سورة الرعد: 44] قال: فيقال لهم: {أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ * وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ} [سورة الرعد: 44 - 45] ... الآية، قال: فيقولون: ما أيسنا بعد، ثم قالوا مرَّة أخرى: {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ} قال: فيقول: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ} [سورة فاطر: 37]، ثم مكث عنهم ما شاء الله، ثم ناداهم: {أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ} [سورة المؤمنون: 105]، فلما سمعوا ذلك قالوا: الآن يرحمنا، فقالوا عند ذلك: {رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا} أي: الكتاب الذي كُتب علينا {وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ * رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا} [سورة المؤمنون: 106 - 107] الآية، فقال عند ذلك: {اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ * إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ * فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ * إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ} [سورة المؤمنون: 108 - 111]، قال: فلا يتكلمون فيها أبدا، فانقطع عند ذلك الدعاء والرجاء منهم، وأقبل بعضهم ينبح في وجه بعض، فأطبقت عليهم، قال عبد الله بن المبارك في حديثه: فحدثني الأزهر بن أبي الأزهر أنه قال: فذلك قوله: {هَذَا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ * وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ} [سورة المرسلات: 35 - 36]" [تفسير الطبري].
فما أعظم تلك المشاهد الرهيبة من العذاب الطويل الخالد بأهل الكفران! وما أعظم الأجوبة التي تلقاها الكفار، التي تبين فداحة جرمهم وكفرهم بالله -تعالى- وحرابة دينه وأوليائه!
تلك الحوارات وتلك المشاهد هي أنيس كل مجاهد يحاربه من استكبر عليه وعلى إخوانه من قبل أمم الكفر والبغي، فحاربوه وأذاقوه البلاء والفتنة، وأظهروا له العداء والاستهزاء والسخرية ورموه بالضلال، {وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلَاءِ لَضَالُّونَ} [سورة المطففين: 32]، وهذا ما تفعله وسائل إعلام المرتدين والصليبيين اليوم، وهنا يتجلى مشهد آخر، لو تأمله المجاهد الموحد لازداد قلبه اطمئنانا واستئناسا ورضى، فكما يرى المؤمن الموحد مشاهد الضحك والاستهزاء به ورميِهِ بالضلال من قبل الكفار في الدنيا، فسيكون هو من يضحك منهم في الآخرة وهم يُعَذبون، وبهذا الشأن قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ * وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ * وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ * وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلَاءِ لَضَالُّونَ * وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ * فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ} [المطففين: 29 - 34].
قال الإمام الطبري: "كان ابن عباس يقول: إن السور الذي بين الجنة والنار يُفتح لهم فيه أبواب، فينظر المؤمنون إلى أهل النار، والمؤمنون على السرر ينظرون كيف يعذَّبون، فيضحكون منهم، فيكون ذلك مما أقرَّ الله به أعينهم، كيف ينتقم الله منهم" [تفسير الطبري].
وهذا المنظر الذي ينظر إليه المؤمنون لهو أشفى لصدورهم من كل انتقام دنيوي قد نراه أحيانا في الكفار، لأن أقصى ما يمكن فعله بهم في الدنيا هو قتلهم، والله -تعالى- عبَّر عن قتل الكفار بأنه عذاب لهم بأيدي المؤمنين، وذلك لأن رحلة العذاب للكفار تبدأ بعد القتل، فتبدأ صور العذاب النفسي والجسدي للكفار في اليوم الآخر، فيرى ذلك أهل الإيمان عيانا، ويقدر لهم أن يحاوروا الكفار الذين يرون الماء الطيب والرزق الذي حباه الله به عباده الصابرين، كما في قوله تعالى: {وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ} [الأعراف: 50].
قال الإمام البغوي: "قال عطاء عن ابن عباس: لما صار أصحاب الأعراف إلى الجنة طمع أهل النار في الفَرَج، وقالوا: يا رب إن لنا قرابات من أهل الجنة، فأذن لنا حتى نراهم ونكلمهم، فينظروا إلى قرابتهم في الجنة وما هم فيه من النعيم فيعرفونهم، ولم يعرفهم أهل الجنة لسواد وجوههم، فينادي أصحاب النار أصحاب الجنة بأسمائهم، وأخبروهم بقراباتهم: أن أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله، {قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ} [سورة الأعراف: 50]" [تفسير البغوي].
ولعل من يقرأ هذه الآيات يجد أن نعمة الهداية هي محض فضل عظيم خصَّ به الله -تبارك وتعالى- أهل طاعته وأسكنهم دار مقامته وانتقم لهم من الكفار في الدنيا والآخرة، {فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [سورة الجاثية: 36 - 37].
• المصدر:
صحيفة النبأ - العدد 119
الخميس 29 جمادى الأولى 1439 هـ