أخي المجاهد كن من المُؤْثِرين إنّ تغيّر ما في النفس أشق ما يواجهه الإنسان في مسيرته، ففي الوقت ...
منذ 7 ساعات
أخي المجاهد كن من المُؤْثِرين
إنّ تغيّر ما في النفس أشق ما يواجهه الإنسان في مسيرته، ففي الوقت الذي يبدل المرء بعض أفكاره بين الفترة والأخرى، يكاد لا يجد أنه غيَّر شيئاً من أخلاقه وصفاته طيلة سنوات.
وكثيرة هي الأخلاق الحسنة التي يدعي المرء التحلي بها، ولكن تراه يسقط عند أول امتحان يواجهه، وإن من أكثر الصفات التي تُعرِّي المرء أمام نفسه وتجعله يقف على مكنوناتها، ويكتشف ماهيتها، وينكشف أمامها، صفة الإيثار، فهي صفة لا يستطيعها إلا من أوتي حظاً كبيراً من الإيمان واليقين، والزهد، والرغبة فيما عند الله، والتصديق بموعوده.
فحين يُقدِّم المرء أخاه على نفسه، في الخير والنفع ودون مقابل، وحين يدفع الشر عنه قبل أن يدفعه عن نفسه دون أجر، فذاك منتهى الأخوة.
وقد أثنى الله -تعالى- على أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بما تمتعوا به من هذه الصفة، فقال: {وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ} [الحشر: 9]، وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنه قال: جاء رجل إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: إني مجهود، فأرسَل إلى بعض نسائه، فقالت: والذي بعثك بالحق ما عندي إلا ماء، ثم أرسل إلى أخرى، فقالت مثل ذلك، حتى قلن كلهن مثل ذلك: لا والذي بعثك بالحق ما عندي إلا ماء. فقال النبي، صلى الله عليه وسلم: (من يضيف هذا الليلةَ؟) فقال رجل من الأنصار: أنا يا رسول الله، فانطلق به إلى رحله، فقال لامرأته: أكرمي ضيف رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وفي رواية قال لامرأته: هل عندك شيء؟ فقالت: لا، إلا قوت صبياني، قال: فعلليهم بشيء وإذا أرادوا العشاء فنوميهم، وإذا دخل ضيفنا فأطفئي السراج، وأريه أنَّا نأكل، فقعدوا وأكل الضيف وباتا طاويَين، فلما أصبح غدا على النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: (لقد عجب الله من صنيعكما بضيفكما الليلة) [رواه الشيخان].
فليس كالإيثار -أخي المجاهد- خلق يقوي علاقة الإخوة بعضهم ببعض، وينشر الرحمة فيما بينهم، ويحقق السكينة والاطمئنان والرضى لقلوبهم، ويعمل على معالجة الصفات المذمومة في نفوسهم، كالبخل، والأنانية، والحسد والتنافس على الدنيا والتزاحم على ملذاتها.
أخي المجاهد، إنك بتقديم روحك في سبيل الله، دفاعا عن دينك وإخوانك وأهلك وأعراض المسلمين تكون قد حِزت أعلى درجات الإيثار ومراتبه، فلا تبخل على إخوانك بما هو دونها، فأنت آثرت رضا الله -تعالى- وآثرت ما عنده على ما عندك.
قال ابن القيِّم -رحمه الله- في هذا المعنى: "إن أعلى درجات الإيثار هو أن يريد ويفعل ما فيه مرضاته تعالى، ولو أغضب الخَلْق، وهي درجة الأنبياء، وأعلاها للرُّسل عليهم صلوات الله وسلامه، وأعلاها لأولي العزم منهم، وأعلاها لنبيِّنا، صلى الله عليه وسلم".
ومن إيثار الصحابة -رضي الله عنهم- بعضهم على بعض ما روي عن عمر بن الخطَّاب -رضي الله عنه- أنه أخذ أربعمائة دينار، فجعلها في صرَّة، ثمَّ قال للغلام: اذهب بها إلى أبي عبيدة بن الجرَّاح، ثمَّ تلكَّأْ ساعة في بيته حتى تنظر ماذا يصنع بها، فذهب بها الغلام إليه، فقال: يقول لك أمير المؤمنين: اجعل هذه في بعض حاجتك، فقال: وصله الله ورحمه، ثمَّ قال: تعالي يا جارية، اذهبي بهذه السَّبعة إلى فلان، وبهذه الخمسة إلى فلان، حتى أنفدها، فرجع الغلام إلى عمر، فأخبره فوجده قد أعدَّ مثلها لمعاذ بن جبل، وقال: اذهب بهذا إلى معاذ بن جبل، وتلكَّأْ في بيته ساعة حتى تنظر ماذا يصنع، فذهب بها إليه، فقال: يقول لك أمير المؤمنين: اجعل هذه في بعض حاجتك، فقال: رحمه الله ووصله، وقال: يا جارية، اذهبي إلى بيت فلان بكذا وبيت فلان بكذا، فاطَّلعت امرأة معاذ فقالت: ونحن والله مساكين فأعطنا، ولم يبق في الخرقة إلَّا ديناران فنحا بهما إليها، فرجع الغلام إلى عمر فأخبره، فسُرَّ بذلك عمر، وقال: إنَّهم إخوة بعضهم مِن بعض.
• المصدر:
صحيفة النبأ - العدد 128
الخميس 3 شعبان 1439 هـ
إنّ تغيّر ما في النفس أشق ما يواجهه الإنسان في مسيرته، ففي الوقت الذي يبدل المرء بعض أفكاره بين الفترة والأخرى، يكاد لا يجد أنه غيَّر شيئاً من أخلاقه وصفاته طيلة سنوات.
وكثيرة هي الأخلاق الحسنة التي يدعي المرء التحلي بها، ولكن تراه يسقط عند أول امتحان يواجهه، وإن من أكثر الصفات التي تُعرِّي المرء أمام نفسه وتجعله يقف على مكنوناتها، ويكتشف ماهيتها، وينكشف أمامها، صفة الإيثار، فهي صفة لا يستطيعها إلا من أوتي حظاً كبيراً من الإيمان واليقين، والزهد، والرغبة فيما عند الله، والتصديق بموعوده.
فحين يُقدِّم المرء أخاه على نفسه، في الخير والنفع ودون مقابل، وحين يدفع الشر عنه قبل أن يدفعه عن نفسه دون أجر، فذاك منتهى الأخوة.
وقد أثنى الله -تعالى- على أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بما تمتعوا به من هذه الصفة، فقال: {وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ} [الحشر: 9]، وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنه قال: جاء رجل إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: إني مجهود، فأرسَل إلى بعض نسائه، فقالت: والذي بعثك بالحق ما عندي إلا ماء، ثم أرسل إلى أخرى، فقالت مثل ذلك، حتى قلن كلهن مثل ذلك: لا والذي بعثك بالحق ما عندي إلا ماء. فقال النبي، صلى الله عليه وسلم: (من يضيف هذا الليلةَ؟) فقال رجل من الأنصار: أنا يا رسول الله، فانطلق به إلى رحله، فقال لامرأته: أكرمي ضيف رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وفي رواية قال لامرأته: هل عندك شيء؟ فقالت: لا، إلا قوت صبياني، قال: فعلليهم بشيء وإذا أرادوا العشاء فنوميهم، وإذا دخل ضيفنا فأطفئي السراج، وأريه أنَّا نأكل، فقعدوا وأكل الضيف وباتا طاويَين، فلما أصبح غدا على النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: (لقد عجب الله من صنيعكما بضيفكما الليلة) [رواه الشيخان].
فليس كالإيثار -أخي المجاهد- خلق يقوي علاقة الإخوة بعضهم ببعض، وينشر الرحمة فيما بينهم، ويحقق السكينة والاطمئنان والرضى لقلوبهم، ويعمل على معالجة الصفات المذمومة في نفوسهم، كالبخل، والأنانية، والحسد والتنافس على الدنيا والتزاحم على ملذاتها.
أخي المجاهد، إنك بتقديم روحك في سبيل الله، دفاعا عن دينك وإخوانك وأهلك وأعراض المسلمين تكون قد حِزت أعلى درجات الإيثار ومراتبه، فلا تبخل على إخوانك بما هو دونها، فأنت آثرت رضا الله -تعالى- وآثرت ما عنده على ما عندك.
قال ابن القيِّم -رحمه الله- في هذا المعنى: "إن أعلى درجات الإيثار هو أن يريد ويفعل ما فيه مرضاته تعالى، ولو أغضب الخَلْق، وهي درجة الأنبياء، وأعلاها للرُّسل عليهم صلوات الله وسلامه، وأعلاها لأولي العزم منهم، وأعلاها لنبيِّنا، صلى الله عليه وسلم".
ومن إيثار الصحابة -رضي الله عنهم- بعضهم على بعض ما روي عن عمر بن الخطَّاب -رضي الله عنه- أنه أخذ أربعمائة دينار، فجعلها في صرَّة، ثمَّ قال للغلام: اذهب بها إلى أبي عبيدة بن الجرَّاح، ثمَّ تلكَّأْ ساعة في بيته حتى تنظر ماذا يصنع بها، فذهب بها الغلام إليه، فقال: يقول لك أمير المؤمنين: اجعل هذه في بعض حاجتك، فقال: وصله الله ورحمه، ثمَّ قال: تعالي يا جارية، اذهبي بهذه السَّبعة إلى فلان، وبهذه الخمسة إلى فلان، حتى أنفدها، فرجع الغلام إلى عمر، فأخبره فوجده قد أعدَّ مثلها لمعاذ بن جبل، وقال: اذهب بهذا إلى معاذ بن جبل، وتلكَّأْ في بيته ساعة حتى تنظر ماذا يصنع، فذهب بها إليه، فقال: يقول لك أمير المؤمنين: اجعل هذه في بعض حاجتك، فقال: رحمه الله ووصله، وقال: يا جارية، اذهبي إلى بيت فلان بكذا وبيت فلان بكذا، فاطَّلعت امرأة معاذ فقالت: ونحن والله مساكين فأعطنا، ولم يبق في الخرقة إلَّا ديناران فنحا بهما إليها، فرجع الغلام إلى عمر فأخبره، فسُرَّ بذلك عمر، وقال: إنَّهم إخوة بعضهم مِن بعض.
• المصدر:
صحيفة النبأ - العدد 128
الخميس 3 شعبان 1439 هـ