لماذا لا نرى الله؟! لماذا لا نرى الله؟! تساؤلٌ أزليٌ فلسفيٌ لكنه منطقي ومشروع. وكثيرا ما يطرأُ ...
منذ 2025-09-11
لماذا لا نرى الله؟!
لماذا لا نرى الله؟! تساؤلٌ أزليٌ فلسفيٌ لكنه منطقي ومشروع. وكثيرا ما يطرأُ في مخيلة الموحدين بحثاً عن الحكمة والغائية، كما تتقاذفه ألسنُ الملحدين استشكالاً على المؤمنين وتعجيزاً لهم: "لو كان حقاً موجوداً لكان بالعينين مُشاهداً منظوراً!". وتكونُ الإجابة للفريقين في الأغلب الأعم أن الحكمةَ الرئيسة وراء ذلك هو إنجاح اختبارِ الخالق للمخلوقين. فالعلةُ من وراء ذلك في رأيهم أن جلاء الله لخلقه سيُقوّض الغايةَ من هذا الاختبار الدنيوي. فبغيبته سيتمايز الصالحُ الذي يتبع المنهاج حبا وخوفاً؛ عن الطالح الذي يتنكب الطريق إعراضا واستكبارا.
وهكذا يبدو وكأن الفائدةَ من احتجاب الرب عن خلقه هو حصولُ المصلحة والمنفعة من جناب الرب سبحانه؛ وحاشاه. حيث يُثبت أمام خلقه أن منهم موالين عن رغبةٍ، ومُعادين عن قصد، ولذا حُق النعيمُ للأولين، وامتُنع عن الآخرين.
لكنّي أحسب أنّ هناك حٍكما أخرى تحمل الكثير من المنافع والمصالح للجنس البشري -غير إمضاء الثواب والعقاب- سنحاول تسليط الأضواء عليها:
☆ احتجب ليُجلّي جلالَ العقل:
إنّ احتجابَ اللهِ، وغَيبتِه عن خلقِه لهو أعظمُ دليلٍ على تعظيمِ هذا العقلِ ورِفعته. فالربُ الذي ميّزَ الإنسيّ عن الحيوانِ البهيمي بعقله أراد أن يُعلي من شأنِ هذه الآلةِ، ويكرّمها؛ فاحتجبَ بذاته ليُطلقَ العنانَ لهذه الآلةِ في البحثِ، والسبرِ، والاستقراءِ،
والتنقيب.
إن هذه الكشوفَ والفتوحَ، وتلك العلومَ والفهوم، وهذا الإسراف في المخترعاتِ، والخدمات، والمُلهيات، والملذّات؛ بل وكلَّ التاريخ الإنساني، وعلَّة نجاحِ الحضارةِ الإنسانية لهو مردُّه لاختيارِ الرب وقضائه باحتجابه عن جميع خلقه في هذه الحياة الدنيا. قضى بذلك ليُفسح لعقولهم الانطلاق بلا حدود في رحاب هذا الكون الفسيح؛ فتبلغَ عقولُهم منتهى الطاقةِ، والاستطاعة من المعرفة، والوعي، والإبداع وبذا يفوقوا ما سواهم من أجناسِ المخلوقات.
☆ احتجب ليطلق العنان للحرية:
إنّ احتجابَ اللهِ عن خلقهِ هو تشريفٌ، وإعلاءٌ، وتزكيةٌ، لقِيمِ الحريةِ والعقل معاً في هذا الإنسان. إنه رفعةٌ للجنسِ البشري كلهِ حين أَذِنَ بإطلاقِ العنان للإرادةِ، والمشيئةِ الإنسانية. فالرقابةُ اللصيقةُ من السيّد لعبده، ومن الوالدِ لولدِه تحولُ بينه وبين حريةِ الاختيار في الفعلِ والترك، وتميتُ فيه غريزةَ الاكتشافِ، والاختيار؛ فيصبحُ حينها مخلوقاً نَمطيّاً متواكلاً جِبليّاً كالسوائمِ تنتظر من سيِّدها ضربةَ سوطٍ، أو صيحةَ حَيعلَة.
إنّ جٓبلةَ الملائكةِ على الطاعةِ وعدمِ المعصيةِ ليس سببها الوحيد أصلُ الخِلقةِ وما رُكِّب فيها؛ لا بل إن السببَ الرئيسَ وراءَ ذلك لهو معاينتُها لعظمةِ الرب ومكانته. فهذه الكائناتُ العلويةُ التي تخدم في سلطان الملك وتبصره وتكلمه عيانا استحال في طبعها أن تنحرفَ قيد أُنملةٍ أو شبراً بعدما عاينت من العظمةِ، والرحمةِ، والفيوضاتِ، والعلم كما استشعرت بقربها معاني العلو والجبروتِ، والبطش. إن العاملينَ في بلاطِ الملِك الملاصقين له لهم أشدُ النّاس وأحرصِهم على خدمتِه وإرضائة.
وانظر إلى الشيطانَ الذي في أصله صنفٌ من الملائكة المقربين لمّا سولت له نفسه التمردَ عل الرب بعد اطلاعه عليه وقربه منه؛ أتراه كيف تمكن بعد طرده من جوار ربه بانتهاج سلوك التحريش والتضليل؟! لقد آثر الماكر أن يتوارى عن الملأ الأعلى ليستسيغ لنفسه محادّة الرب الجليل. فلو بقي بجوار الملك لما استطاع الإغواء والإيذاء خجلاً فاتخذَ لنفسه عرشاً بعيداً عن جوار ربه. وهكذا صار خنّاساً لمّا احتجب ربُه عنه، فَسهُلَت له وفي حقه المعصيةُ، والغواية.
إنّ غيابَ الملِك عن مجالسِ أتباعه، وحضرتِهم لهو تمكينٌ وتأكيدٌ على حريةِ اختياراتهم، وفهومهم وإن كان يدركُ بالحقيقة كلَّ ما يدورُ في بلاطِ قصرة بواسطة عيونه وشرطته.
إن هذه الكشوفَ والفتوحَ، وتلك العلومَ والفهوم، وهذا الإسراف في المخترعاتِ، والخدمات، والمُلهيات، والملذّات؛ بل وكلَّ التاريخ الإنساني، وعلَّة نجاحِ الحضارةِ الإنسانية لهو مردُّه لاختيارِ الرب وقضائه باحتجابه عن جميع خلقه في هذه الحياة الدنيا ليفسح لعقولهم الانطلاق بلا حدود في رحاب هذا الكون الفسيح. فتبلغَ عقولُهم منتهى الطاقةِ، والاستطاعة من المعرفة، والوعي، والإبداع وبذا يفوقوا ما سواهم من أجناسِ المخلوقات.
☆ احتجابٌ غير كلي:
إن الربَّ اللطيفَ الحكيمَ العليمَ لم يكن احتجابُه أبدياً ولا مطلقاً، وبالكلية. بل احتجب فقط عن الأنظارِ، ثمّ ترك في كونه دلائلَ ، وآياتٍ وآلاءٍ تُشير إليه، وتُرشد عليه. احتجبَ وتركَ نواميسَه، وقوانينَه تعملُ بثباتٍ، وديمومةٍ، وهو يُهيمن عليها، ويدبرها. احتجب الربُ عن عباده لكنه ترك في نفوسِهم غريزةً تُشعرهم في كلّ لحظةٍ أنهم مراقبون، ومقهورون فمنهم من يَزَعه داعي الرقابةِ الذاتية "الضمير"، ومنهم من يزعه إيمانٌ ودين. ثمّ إنه لمّا احتجب عنهم بعثَ لهم من جنسهم مبشرين، ومنذرين، ثم نزع عن هؤلاءِ المبشّرين، والمنذرين سلطةَ قهرِ العباد، أو مؤاخذةِ المتنكبين بالجزاءِ، والقصاص وما ذاك إلّا لِيؤكدَ لهم حريّةَ اختيارهم، ومسؤوليتهم. ثم أعلم العباد وواعدهم باللقاء يوماً ما ليكشف لهم الحُجُب ليتمكن الموالون والطائعون له من معاينته جهاراً، وجعل ذلك منتهى أمانيهم وغايةَ نعيمِهم.
☆ ماذا لو كان حاضرا مشاهدا جهرة؟!:
وانظر أعزّكَ اللهُ إلى الفارقِ بين الحيوانِ المُستأنَس، والمُستوحش. فالأولُ متبلدُ السلوكِ ينتظرُ ما يُلقيه إليه مالكه من طعامٍ مقنّن ليأكله؛ ثم هو لا يَصدر يَمنةً، ولا يَسرةً إلا عن أمرِ صاحبه الذي يقهره بالإحاطة به وينزع عنه كل الخصوصية، والإرادة والحرية. ثمّ هَب أنه فُتح له بابُ السياج فهرب، أو عمَد صاحبُه إلى تسريحه؛ فتجده حينها هائماً على وجه لا يُحسِنُ عِراكاً، ولا اقتناصاً ولا تدبيرا. أما الحيوانُ الوحشي المستوحَش فلا يحيى إلا حراً طليقاً يرتحلُ من أرضٍ لأخرى. يبتني لنفسه ما يناسبُه مِن وكرٍ، أو كهفٍ أو عُش؛ ويبتكر أساليبَه الخاصةَ في الدفاعِ والعيش. يسرحُ، ويمرحُ، ويُخادنُ، ويعادى من يهوى دون وصايةٍ من قَيّمٍ يرمُقهُ، أو يرقُبُه.
وانظر إلى حالِ بني إسرائيلَ مع أنبيائهم فإنهم لمّا أدركوا قربَ موسى من الله، واستشعروا قربَهم همْ منه بِقُربه هو منه بمزيّة مناجاته، واختصاصه بالكلام؛ تواكلوا، وتكاسلوا، وكادوا يتركون العمل. فها هُم يقولون لموسى "لنْ نَصبرَ على طعامٍ واحد"، "فادعُ لنا ربك"… إنهم يتقاعسون عن طلبِ الرزق، والبحث عن الطيبات والثمار بأنفسهم طالما أن الوصولَ إلى مآربهم سهلٌ بلا عناء، ومادامت مفاتيحُ العطاء من خلال موسى معهم. ثمّ هم بعد ذلك يتدللون في طلبهِم لأن مكاشفةَ الرب أقربُ إليهم من جميعِ الأنام. إذاّ فليكنْ [ادع لنا ربك] [يُخرج لنا ...من بَقلها وقِثائها وفومِها وعدَسها وبَصلها] إنه طمعٌ في تنوعِ المأكولات، واشتراطٌ لأصنافٍ لعينها؛ وما كلُّ هذا إلا لأنّ اللهَ [حاضرٌ] معهم غيرُ غائب عنهم. ولمّا طلبَ منهم أن يُقاتلوا أعدائَهم تثاقلوا، وآثروا الدَعَة والسلامة فما كان منهم إلا أنهم أجابوا نبيّهم بكلّ وقاحةٍ: [اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون]. فمعاينتهم لله في معاينة موسى له دفعتهم إلى اليقين أنّ النصرَ حليفُ "الله" لذا فليذهب هو وموسى للقتال، ولنرقدْ نحن هنا تحت ظِلال الشجر. كذلك انظر إلى حالِ بني إسرائيل مع نبيهم عيسى؛ لمّا اشتهوا أكلَ طعامٍ على مائدةٍ وهم جلوسٌ بلا تعبٍ ولا نصبٍ في اصطيادِ طيرٍ، أو جمعِ ثمار وما دفعهم لذلك إلا ليقينهم من تداني الرب منهم فما بالُكم إن عاينوه صبحَ مساء؟! فوالله ما قاموا حينها لحظةً ولا انتبهوا.
حتى إنّ بني إسرائيل لمّا قُتل لهم قتيلٌ، وحارَوا قليلاً في معرفة القاتل استسهلوا اللجوء الفوريَ إلى الله عِوضاً عن بذلِ الجهدِ في الإستقصاءِ، والتحري، والتنقيب. فاللهُ قريبٌ كالمشاهَد فَليَفصل لنا في أقضيتنا، ولِنَركنْ نحن إلى الراحة. ولأنّ اللهَ يعلمُ جِبِلَّتهم في التفلتِ عن الطاعة، وجُرأتِهم في عصيان الأوامر فما كان منه سبحانه إلا أن أشقاهم بالبحث عن بقرةٍ مخصوصة، واستخدامِها كأداةٍ لكشف المستور.
[ولمّا وقعَ عليهم الرجزُ قالوا يا موسى ادعُ لنا ربك بما عهد عندك لئن كشفتَ عنّا الرجزَ لنؤمننّ لك ولنرسلنّ معك بني اسرائيل"
وانظر كذلك إلى الشعوبِ المقهورةِ مثلَ شعبِ الصين. فإنّ أعين الحكومة ترقُبه طوال الأربع والعشرين في الشوارعِ، والمعاملِ، والمصانعِ، والمتنزهات، وفي كل مكان بملايين الأعين الاصطناعية، والكاميرات المثبّتة في كل مكان. فلا تجد هذا الشعبَ إلا شعباً نَمطيّاً لا يُقدّم إلا ما يريدُه السادةُ ولا يملك لأفراده حريةَ معتقدٍ، ولا تَملّكٍ، ولا اختيارِ زعامة.
☆ احتجب ليرتقي بالروح:
الضميرُ هو قوةٌ دافعةٌ ذاتية تتولد داخل الإنسان تُثير فيه الإقدام على الخيرات، وتحجزه عن الشرور والآفات. وهذا الضمير الذي تصاحبه حالاتٌ نفسية تتأرجح بين الرضا والسعادة، وبين الخوف والمذلة لم يكن لينمو لو كان الرب حاضراً بذاته بين مخلوقاته. فاستتار الرب عن عباده هو الذي استحدث في الإنسان وازعَ الضمير الذي تميز به عن سائر الكائنات. إن ذلك الإحساس اللاذع الذي قد يشعر به الملحدُ إذا قارف جريمة، ويقض مضجع المؤمن إذا وقع في خطيئة لم يكن ليتحكم في اختيارات الإنسان إن لم يكن الإنسان محطم القيود. غاب الرب غيبته الصغرى عن عباده -إن صح التعبير- ليشبّ الضمير فيهم، ومن ثَمّ ترتقي الأرواح فيسمو بني الإنسان.
ومن آثار استتار الله عن خلقه على العروج بالروح نشأةُ الفلسفة وانتهاضتها. لقد سمح غياب الله عن خلقه في بعث الفكر الإنساني واستنفاره للبحث عن إجابات عن أسئلة الوجود، والنفس، والكونيات، والأخلاق، والسياسة، والجمال، والمعرفة. فالفلسفة والفنون ومجالاتها هو نتاج مباشر لاختيار الرب الحكيم بالاستتار عن مخلوقاته في الدنيا ليستنفدوا الطاقة والوسع في البحث عن الحكم واقتناص دررها.
☆ احتجب لتسمو الروح والعقل معا:
إنّ استتارَ اللهِ الموقّت عن خلقه يضمنُ لهم تمامَ الاستقلالية.
وانظر إلى حال العمال في المصنع والمُراقبُ من خلف زجاج غرفة المراقبة يرقبهم لحظة بلحظة؛ كيف أنهم يعملون في وجوم وامتعاض كالسجين المكره. ثم إذا أشاح وجهه عنهم لحظة أو غاب عن الغرفة ساعة انخرط الجميع في القهقهة والحديث وشؤونهم الخاصة.
كذلك يبرز في سلوك الأب مع ابنه أهميةُ التواري. فالأب الذي يريد لابنه أن يشب عن الطوق يترك معيته الملاصقة لولده عن قصد واختيار. يسمح له أن يعبر الشارع منفردا دون مصاحبته، ويأذن له في الذهاب إلى مسجد أو دار صديق أو قريب دون مرافقته. وهكذا تنمو استقلالية الولد وتسمو شخصيته وينجو من التبعية والاعتمادية والآلية.
☆ تخيل معي هذا المشهد:
انقشعت سحب السماء، وبرز الرب سبحانه لجميع خلقه؛ أنبأني كيف يكون في تخيلك حال الجنس البشري لحظتها؟! أزعم أن الصورة لا تخلو من مشهدين اثنين والذين قد يتداخلا أو ينفكا:
كل البشر قائم ساجد راكع لا ينفك من عبادة حتى يدلف لأخرى. يمجد الرب المشاهد كما تفعل ملائكته. إنهم كالأذرع الآلية التي تحلب الأبقار وتعبيء الألبان في مصنع "المراعي". متوالية دؤوب تستجيب للأمر دون كلل أو إباء.
والمشهد الثاني إن أذن لهم الرب في الراحة فلن تُبصر أحدهم إلا مستلقياً على جنبه أو قفاه؛ يطلب من ربه..أطعمني..اسقني..أعطني لا رغبة لديه ولا وازع للاجتهاد ولا للاكتداح ولا للاختراع!
حقاً..إن احتجاب الله الرب العلي في عليائه عن خلقة هو نعمةٌ جليلة، وعطيةٌ مُفخمة مهيبة لهذا المخلوق الاستثنائي الإنسان. إنه لم تكن لتظهر كرامةُ هذا الإنسان إلا بتكريم الله له باحتجابه عنه ذلك الاحتجاب الذي فتح للإنسان آفاق الحرية، والفكر، والابتكار، والحضارة، والعمارة، والفن، وإحياء العلم وتقديسه.
إن حتجاب الله عن هذا العالم هو ضرورةٌ لديمومة هذا العالم الأرضي على هذا النسق المعجز الباهر. وهو حجة لخلود الإنسان الأبدي بالذكر في العالم المشاهد تفوقا بجنسه الاستثنائي على سائر مخلوقات الكون، وفي عالم الغيب بالنعيم أو العذاب استحقاقا لجناية عقله وحريته في اختيار التفلت أو التكليف. إن احتجابه عز وجل هو دليل الوجود على الوجود.
https://raqshwanaqsh.blogspot.com/2025/09/blog-post_11.html
لماذا لا نرى الله؟! تساؤلٌ أزليٌ فلسفيٌ لكنه منطقي ومشروع. وكثيرا ما يطرأُ في مخيلة الموحدين بحثاً عن الحكمة والغائية، كما تتقاذفه ألسنُ الملحدين استشكالاً على المؤمنين وتعجيزاً لهم: "لو كان حقاً موجوداً لكان بالعينين مُشاهداً منظوراً!". وتكونُ الإجابة للفريقين في الأغلب الأعم أن الحكمةَ الرئيسة وراء ذلك هو إنجاح اختبارِ الخالق للمخلوقين. فالعلةُ من وراء ذلك في رأيهم أن جلاء الله لخلقه سيُقوّض الغايةَ من هذا الاختبار الدنيوي. فبغيبته سيتمايز الصالحُ الذي يتبع المنهاج حبا وخوفاً؛ عن الطالح الذي يتنكب الطريق إعراضا واستكبارا.
وهكذا يبدو وكأن الفائدةَ من احتجاب الرب عن خلقه هو حصولُ المصلحة والمنفعة من جناب الرب سبحانه؛ وحاشاه. حيث يُثبت أمام خلقه أن منهم موالين عن رغبةٍ، ومُعادين عن قصد، ولذا حُق النعيمُ للأولين، وامتُنع عن الآخرين.
لكنّي أحسب أنّ هناك حٍكما أخرى تحمل الكثير من المنافع والمصالح للجنس البشري -غير إمضاء الثواب والعقاب- سنحاول تسليط الأضواء عليها:
☆ احتجب ليُجلّي جلالَ العقل:
إنّ احتجابَ اللهِ، وغَيبتِه عن خلقِه لهو أعظمُ دليلٍ على تعظيمِ هذا العقلِ ورِفعته. فالربُ الذي ميّزَ الإنسيّ عن الحيوانِ البهيمي بعقله أراد أن يُعلي من شأنِ هذه الآلةِ، ويكرّمها؛ فاحتجبَ بذاته ليُطلقَ العنانَ لهذه الآلةِ في البحثِ، والسبرِ، والاستقراءِ،
والتنقيب.
إن هذه الكشوفَ والفتوحَ، وتلك العلومَ والفهوم، وهذا الإسراف في المخترعاتِ، والخدمات، والمُلهيات، والملذّات؛ بل وكلَّ التاريخ الإنساني، وعلَّة نجاحِ الحضارةِ الإنسانية لهو مردُّه لاختيارِ الرب وقضائه باحتجابه عن جميع خلقه في هذه الحياة الدنيا. قضى بذلك ليُفسح لعقولهم الانطلاق بلا حدود في رحاب هذا الكون الفسيح؛ فتبلغَ عقولُهم منتهى الطاقةِ، والاستطاعة من المعرفة، والوعي، والإبداع وبذا يفوقوا ما سواهم من أجناسِ المخلوقات.
☆ احتجب ليطلق العنان للحرية:
إنّ احتجابَ اللهِ عن خلقهِ هو تشريفٌ، وإعلاءٌ، وتزكيةٌ، لقِيمِ الحريةِ والعقل معاً في هذا الإنسان. إنه رفعةٌ للجنسِ البشري كلهِ حين أَذِنَ بإطلاقِ العنان للإرادةِ، والمشيئةِ الإنسانية. فالرقابةُ اللصيقةُ من السيّد لعبده، ومن الوالدِ لولدِه تحولُ بينه وبين حريةِ الاختيار في الفعلِ والترك، وتميتُ فيه غريزةَ الاكتشافِ، والاختيار؛ فيصبحُ حينها مخلوقاً نَمطيّاً متواكلاً جِبليّاً كالسوائمِ تنتظر من سيِّدها ضربةَ سوطٍ، أو صيحةَ حَيعلَة.
إنّ جٓبلةَ الملائكةِ على الطاعةِ وعدمِ المعصيةِ ليس سببها الوحيد أصلُ الخِلقةِ وما رُكِّب فيها؛ لا بل إن السببَ الرئيسَ وراءَ ذلك لهو معاينتُها لعظمةِ الرب ومكانته. فهذه الكائناتُ العلويةُ التي تخدم في سلطان الملك وتبصره وتكلمه عيانا استحال في طبعها أن تنحرفَ قيد أُنملةٍ أو شبراً بعدما عاينت من العظمةِ، والرحمةِ، والفيوضاتِ، والعلم كما استشعرت بقربها معاني العلو والجبروتِ، والبطش. إن العاملينَ في بلاطِ الملِك الملاصقين له لهم أشدُ النّاس وأحرصِهم على خدمتِه وإرضائة.
وانظر إلى الشيطانَ الذي في أصله صنفٌ من الملائكة المقربين لمّا سولت له نفسه التمردَ عل الرب بعد اطلاعه عليه وقربه منه؛ أتراه كيف تمكن بعد طرده من جوار ربه بانتهاج سلوك التحريش والتضليل؟! لقد آثر الماكر أن يتوارى عن الملأ الأعلى ليستسيغ لنفسه محادّة الرب الجليل. فلو بقي بجوار الملك لما استطاع الإغواء والإيذاء خجلاً فاتخذَ لنفسه عرشاً بعيداً عن جوار ربه. وهكذا صار خنّاساً لمّا احتجب ربُه عنه، فَسهُلَت له وفي حقه المعصيةُ، والغواية.
إنّ غيابَ الملِك عن مجالسِ أتباعه، وحضرتِهم لهو تمكينٌ وتأكيدٌ على حريةِ اختياراتهم، وفهومهم وإن كان يدركُ بالحقيقة كلَّ ما يدورُ في بلاطِ قصرة بواسطة عيونه وشرطته.
إن هذه الكشوفَ والفتوحَ، وتلك العلومَ والفهوم، وهذا الإسراف في المخترعاتِ، والخدمات، والمُلهيات، والملذّات؛ بل وكلَّ التاريخ الإنساني، وعلَّة نجاحِ الحضارةِ الإنسانية لهو مردُّه لاختيارِ الرب وقضائه باحتجابه عن جميع خلقه في هذه الحياة الدنيا ليفسح لعقولهم الانطلاق بلا حدود في رحاب هذا الكون الفسيح. فتبلغَ عقولُهم منتهى الطاقةِ، والاستطاعة من المعرفة، والوعي، والإبداع وبذا يفوقوا ما سواهم من أجناسِ المخلوقات.
☆ احتجابٌ غير كلي:
إن الربَّ اللطيفَ الحكيمَ العليمَ لم يكن احتجابُه أبدياً ولا مطلقاً، وبالكلية. بل احتجب فقط عن الأنظارِ، ثمّ ترك في كونه دلائلَ ، وآياتٍ وآلاءٍ تُشير إليه، وتُرشد عليه. احتجبَ وتركَ نواميسَه، وقوانينَه تعملُ بثباتٍ، وديمومةٍ، وهو يُهيمن عليها، ويدبرها. احتجب الربُ عن عباده لكنه ترك في نفوسِهم غريزةً تُشعرهم في كلّ لحظةٍ أنهم مراقبون، ومقهورون فمنهم من يَزَعه داعي الرقابةِ الذاتية "الضمير"، ومنهم من يزعه إيمانٌ ودين. ثمّ إنه لمّا احتجب عنهم بعثَ لهم من جنسهم مبشرين، ومنذرين، ثم نزع عن هؤلاءِ المبشّرين، والمنذرين سلطةَ قهرِ العباد، أو مؤاخذةِ المتنكبين بالجزاءِ، والقصاص وما ذاك إلّا لِيؤكدَ لهم حريّةَ اختيارهم، ومسؤوليتهم. ثم أعلم العباد وواعدهم باللقاء يوماً ما ليكشف لهم الحُجُب ليتمكن الموالون والطائعون له من معاينته جهاراً، وجعل ذلك منتهى أمانيهم وغايةَ نعيمِهم.
☆ ماذا لو كان حاضرا مشاهدا جهرة؟!:
وانظر أعزّكَ اللهُ إلى الفارقِ بين الحيوانِ المُستأنَس، والمُستوحش. فالأولُ متبلدُ السلوكِ ينتظرُ ما يُلقيه إليه مالكه من طعامٍ مقنّن ليأكله؛ ثم هو لا يَصدر يَمنةً، ولا يَسرةً إلا عن أمرِ صاحبه الذي يقهره بالإحاطة به وينزع عنه كل الخصوصية، والإرادة والحرية. ثمّ هَب أنه فُتح له بابُ السياج فهرب، أو عمَد صاحبُه إلى تسريحه؛ فتجده حينها هائماً على وجه لا يُحسِنُ عِراكاً، ولا اقتناصاً ولا تدبيرا. أما الحيوانُ الوحشي المستوحَش فلا يحيى إلا حراً طليقاً يرتحلُ من أرضٍ لأخرى. يبتني لنفسه ما يناسبُه مِن وكرٍ، أو كهفٍ أو عُش؛ ويبتكر أساليبَه الخاصةَ في الدفاعِ والعيش. يسرحُ، ويمرحُ، ويُخادنُ، ويعادى من يهوى دون وصايةٍ من قَيّمٍ يرمُقهُ، أو يرقُبُه.
وانظر إلى حالِ بني إسرائيلَ مع أنبيائهم فإنهم لمّا أدركوا قربَ موسى من الله، واستشعروا قربَهم همْ منه بِقُربه هو منه بمزيّة مناجاته، واختصاصه بالكلام؛ تواكلوا، وتكاسلوا، وكادوا يتركون العمل. فها هُم يقولون لموسى "لنْ نَصبرَ على طعامٍ واحد"، "فادعُ لنا ربك"… إنهم يتقاعسون عن طلبِ الرزق، والبحث عن الطيبات والثمار بأنفسهم طالما أن الوصولَ إلى مآربهم سهلٌ بلا عناء، ومادامت مفاتيحُ العطاء من خلال موسى معهم. ثمّ هم بعد ذلك يتدللون في طلبهِم لأن مكاشفةَ الرب أقربُ إليهم من جميعِ الأنام. إذاّ فليكنْ [ادع لنا ربك] [يُخرج لنا ...من بَقلها وقِثائها وفومِها وعدَسها وبَصلها] إنه طمعٌ في تنوعِ المأكولات، واشتراطٌ لأصنافٍ لعينها؛ وما كلُّ هذا إلا لأنّ اللهَ [حاضرٌ] معهم غيرُ غائب عنهم. ولمّا طلبَ منهم أن يُقاتلوا أعدائَهم تثاقلوا، وآثروا الدَعَة والسلامة فما كان منهم إلا أنهم أجابوا نبيّهم بكلّ وقاحةٍ: [اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون]. فمعاينتهم لله في معاينة موسى له دفعتهم إلى اليقين أنّ النصرَ حليفُ "الله" لذا فليذهب هو وموسى للقتال، ولنرقدْ نحن هنا تحت ظِلال الشجر. كذلك انظر إلى حالِ بني إسرائيل مع نبيهم عيسى؛ لمّا اشتهوا أكلَ طعامٍ على مائدةٍ وهم جلوسٌ بلا تعبٍ ولا نصبٍ في اصطيادِ طيرٍ، أو جمعِ ثمار وما دفعهم لذلك إلا ليقينهم من تداني الرب منهم فما بالُكم إن عاينوه صبحَ مساء؟! فوالله ما قاموا حينها لحظةً ولا انتبهوا.
حتى إنّ بني إسرائيل لمّا قُتل لهم قتيلٌ، وحارَوا قليلاً في معرفة القاتل استسهلوا اللجوء الفوريَ إلى الله عِوضاً عن بذلِ الجهدِ في الإستقصاءِ، والتحري، والتنقيب. فاللهُ قريبٌ كالمشاهَد فَليَفصل لنا في أقضيتنا، ولِنَركنْ نحن إلى الراحة. ولأنّ اللهَ يعلمُ جِبِلَّتهم في التفلتِ عن الطاعة، وجُرأتِهم في عصيان الأوامر فما كان منه سبحانه إلا أن أشقاهم بالبحث عن بقرةٍ مخصوصة، واستخدامِها كأداةٍ لكشف المستور.
[ولمّا وقعَ عليهم الرجزُ قالوا يا موسى ادعُ لنا ربك بما عهد عندك لئن كشفتَ عنّا الرجزَ لنؤمننّ لك ولنرسلنّ معك بني اسرائيل"
وانظر كذلك إلى الشعوبِ المقهورةِ مثلَ شعبِ الصين. فإنّ أعين الحكومة ترقُبه طوال الأربع والعشرين في الشوارعِ، والمعاملِ، والمصانعِ، والمتنزهات، وفي كل مكان بملايين الأعين الاصطناعية، والكاميرات المثبّتة في كل مكان. فلا تجد هذا الشعبَ إلا شعباً نَمطيّاً لا يُقدّم إلا ما يريدُه السادةُ ولا يملك لأفراده حريةَ معتقدٍ، ولا تَملّكٍ، ولا اختيارِ زعامة.
☆ احتجب ليرتقي بالروح:
الضميرُ هو قوةٌ دافعةٌ ذاتية تتولد داخل الإنسان تُثير فيه الإقدام على الخيرات، وتحجزه عن الشرور والآفات. وهذا الضمير الذي تصاحبه حالاتٌ نفسية تتأرجح بين الرضا والسعادة، وبين الخوف والمذلة لم يكن لينمو لو كان الرب حاضراً بذاته بين مخلوقاته. فاستتار الرب عن عباده هو الذي استحدث في الإنسان وازعَ الضمير الذي تميز به عن سائر الكائنات. إن ذلك الإحساس اللاذع الذي قد يشعر به الملحدُ إذا قارف جريمة، ويقض مضجع المؤمن إذا وقع في خطيئة لم يكن ليتحكم في اختيارات الإنسان إن لم يكن الإنسان محطم القيود. غاب الرب غيبته الصغرى عن عباده -إن صح التعبير- ليشبّ الضمير فيهم، ومن ثَمّ ترتقي الأرواح فيسمو بني الإنسان.
ومن آثار استتار الله عن خلقه على العروج بالروح نشأةُ الفلسفة وانتهاضتها. لقد سمح غياب الله عن خلقه في بعث الفكر الإنساني واستنفاره للبحث عن إجابات عن أسئلة الوجود، والنفس، والكونيات، والأخلاق، والسياسة، والجمال، والمعرفة. فالفلسفة والفنون ومجالاتها هو نتاج مباشر لاختيار الرب الحكيم بالاستتار عن مخلوقاته في الدنيا ليستنفدوا الطاقة والوسع في البحث عن الحكم واقتناص دررها.
☆ احتجب لتسمو الروح والعقل معا:
إنّ استتارَ اللهِ الموقّت عن خلقه يضمنُ لهم تمامَ الاستقلالية.
وانظر إلى حال العمال في المصنع والمُراقبُ من خلف زجاج غرفة المراقبة يرقبهم لحظة بلحظة؛ كيف أنهم يعملون في وجوم وامتعاض كالسجين المكره. ثم إذا أشاح وجهه عنهم لحظة أو غاب عن الغرفة ساعة انخرط الجميع في القهقهة والحديث وشؤونهم الخاصة.
كذلك يبرز في سلوك الأب مع ابنه أهميةُ التواري. فالأب الذي يريد لابنه أن يشب عن الطوق يترك معيته الملاصقة لولده عن قصد واختيار. يسمح له أن يعبر الشارع منفردا دون مصاحبته، ويأذن له في الذهاب إلى مسجد أو دار صديق أو قريب دون مرافقته. وهكذا تنمو استقلالية الولد وتسمو شخصيته وينجو من التبعية والاعتمادية والآلية.
☆ تخيل معي هذا المشهد:
انقشعت سحب السماء، وبرز الرب سبحانه لجميع خلقه؛ أنبأني كيف يكون في تخيلك حال الجنس البشري لحظتها؟! أزعم أن الصورة لا تخلو من مشهدين اثنين والذين قد يتداخلا أو ينفكا:
كل البشر قائم ساجد راكع لا ينفك من عبادة حتى يدلف لأخرى. يمجد الرب المشاهد كما تفعل ملائكته. إنهم كالأذرع الآلية التي تحلب الأبقار وتعبيء الألبان في مصنع "المراعي". متوالية دؤوب تستجيب للأمر دون كلل أو إباء.
والمشهد الثاني إن أذن لهم الرب في الراحة فلن تُبصر أحدهم إلا مستلقياً على جنبه أو قفاه؛ يطلب من ربه..أطعمني..اسقني..أعطني لا رغبة لديه ولا وازع للاجتهاد ولا للاكتداح ولا للاختراع!
حقاً..إن احتجاب الله الرب العلي في عليائه عن خلقة هو نعمةٌ جليلة، وعطيةٌ مُفخمة مهيبة لهذا المخلوق الاستثنائي الإنسان. إنه لم تكن لتظهر كرامةُ هذا الإنسان إلا بتكريم الله له باحتجابه عنه ذلك الاحتجاب الذي فتح للإنسان آفاق الحرية، والفكر، والابتكار، والحضارة، والعمارة، والفن، وإحياء العلم وتقديسه.
إن حتجاب الله عن هذا العالم هو ضرورةٌ لديمومة هذا العالم الأرضي على هذا النسق المعجز الباهر. وهو حجة لخلود الإنسان الأبدي بالذكر في العالم المشاهد تفوقا بجنسه الاستثنائي على سائر مخلوقات الكون، وفي عالم الغيب بالنعيم أو العذاب استحقاقا لجناية عقله وحريته في اختيار التفلت أو التكليف. إن احتجابه عز وجل هو دليل الوجود على الوجود.
https://raqshwanaqsh.blogspot.com/2025/09/blog-post_11.html