هدي النبي صلى الله عليه وسلم في الصيام (1) قال ابن قيِّم الجوزية رحمه الله: فصل في هديه صلى ...

منذ 2025-09-16
هدي النبي صلى الله عليه وسلم في الصيام (1)


قال ابن قيِّم الجوزية رحمه الله: فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في الصيام، لما كان المقصود من الصيام حبسَ النفس عن الشهوات، وفطامَها عن المألوفات، وتعديلَ قوتها الشهوانية، لتستعد لطلب ما فيه غاية سعادتها ونعيمِها، وقبول ما تزكو به مما فيه حياتُها الأبدية، ويكسِر الجوعُ والظمأ من حِدَّتها وسَورتِها، ويذكرها بحال الأكباد الجائعة من المساكين.

وتضيق مجاري الشيطان من العبد بتضييق مجاري الطعام والشراب، وتُحبس قوى الأعضاء عن استرسالها لحكم الطبيعة فيما يضرُّها في معاشها ومعادها، ويُسكَّن كلَّ عضو منها وكلَّ قوة عن جماحه وتلجم بلجامه، فهو لجام المتقين، وجُنَّة المحاربين، ورياضة الأبرار والمقرَّبين، وهو لرب العالمين من بين سائر الأعمال، فإن الصائم لا يفعلُ شيئا، وإنما يترك شهوتَه وطعامَه وشرابَه من أجل معبوده، فهو ترك محبوبات النفس وتلذُّذاتها إيثارا لمحبة الله ومرضاته، وهو سِرٌّ بين العبد وربِّه لا يطَّلع عليه سواه، والعبادُ قد يطَّلعون منه على ترك المفطرات الظاهرة، وأما كونه ترك طعامَه وشرابَه وشهوتَه من أجل معبوده، فهو أمر لا يطَّلع عليه بشرٌ، وذلك حقيقة الصوم...

والمقصود: أن مصالح الصوم لما كانت مشهودةً بالعقول السليمة والفِطَرِ المستقيمة، شرعه اللهُ لعباده رحمةً بهم، وإحساناً إليهم، وحميةً لهم وجُنَّة.

وكان هدي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيه أكمل الهدي، وأعظمَ تحصيل للمقصود، وأسهلَه على النفوس.

ولما كان فطمُ النفوس عن مألوفاتها وشهواتِها مِن أشق الأمور وأصعبها، تأخَر فرضُه إلى وسط الإسلام بعد الهجرة، لما توطَّنت النفوسُ على التوحيد والصلاة، وألِفت أوامر َالقرآن، فنُقلت إليه بالتدريج.


• متى فرض الصيام؟

وكان فرضُه في السنَّة الثانية من الهجرة، فتوفِّي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقد صام تسع رمضانات، وفُرض أولا على وجه التخيير بينه وبين أن يُطعِم عن كلِّ يوم مسكينا، ثم نُقل من ذلك التخيير إلى تحتُّم الصوم، وجعل الإطعام للشيخ الكبير والمرأة إذا لم يطيقا الصيام، فإنهما يُفطران ويُطعمان عن كل يوم مسكينا، ورخَّص للمريض والمسافر أن يُفطرا ويقضيا، وللحامِل والمُرضع إذا خافتا على أنفسهما كذلك، فإن خافتا على ولديهما، زادتا مع القضاء إطعامَ مسكين لكلِّ يوم، فإن فطرَهما لم يكن لخوف مرض، وإنما كان مع الصحة، فجُبر بإطعام المسكين كفِطر الصحيح في أول الإسلام.


• الإكثار من العبادات في رمضان:

وكان من هديه -صلى الله عليه وسلم- في شهر رمضان الإكثار من أنواع العبادات، فكان جبريل يدارسُه القرآن في رمضان، وكان إذا لقيَه جبريل أجودَ بالخير من الريح المرسلة، (وكان أجود الناس، وأجود ما يكون في رمضان) [رواه البخاري ومسلم]، يُكثر فيه من الصدقة والإحسان وتلاوة القرآن، والصلاة والذكر والاعتكاف....


• فصل في ثبوت رمضان:

وكان من هديه -صلى الله عليه وسلم- أن لا يدخُل في صوم رمضان إلا برؤية محقَّقة، أو بشهادة شاهد واحد...، وكان إذا حال ليلةَ الثلاثين دون منظره غيمٌ أو سحاب، أكمل عدة شعبان ثلاثين يوما، ثم صامه. ولم يكن يصوم يوم الإغمام، ولا أمر به، بل أمر بأن تُكمل عدة شعبان ثلاثين إذا غمَّ، وكان يفعل كذلك، فهذا فعله وهذا أمره...


• هديه صلى الله عليه وسلم في الفطر:

وكان يُعجِّل الفِطر ويحضُّ عليه، ويتسحَّر ويَحُث على السَّحور، ويؤخِّره ويُرغِّب في تأخيره، وكان يحض على الفطر بالتمر، فإن لم يجد فعلى الماء، هذا من كمال شفقته على أمته ونُصحهم، فإن إعطاء الطبيعة الشيء الحلو مع خُلوِّ المعدة أدعى إلى قبوله وانتفاع القُوى به، ولا سيما القوة الباصرة، فإنها تقوى به، وحلاوةُ المدينة التمر، ومرباهم عليه، وهو عندهم قوت، وأُدمٌ ورُطَبه فاكهة.

وأما الماء فإن الكَبد يحصُل لها بالصوم نوع يبس. فإذا رُطبت بالماء كمُل انتفاعها بالغذاء بعده. ولهذا كان الأولى بالظمآن الجائع أن يبدأ قبل الأكل بشرب قليل من الماء، ثم يأكل بعده، وكان -صلى الله عليه وسلم- يُفطر قبل أن يصلي، وكان فِطره على رطبات إن وجدها، فإن لم يجدها فعلى تمرات، فإن لم يجد فعلى حسوات من ماء.. وروي عنه أنه كان يقول إذا أفطر: (ذهب الظمأ، وابتلت العروق، وثبت الأجر إن شاء الله تعالى)، ذكره أبو داود من حديث الحسين بن واقد، عن مروان بن سالم المقفع، عن ابن عمر، ويذكر عنه صلى الله عليه وسلم: (إن للصائم عند فطره دعوة ما ترد). رواه ابن ماجه.

وصح عنه أنه قال: (إذا أقبل الليل من هاهنا، وأدبر النهار من هاهنا، فقد أفطر الصائم) [رواه البخاري]. وفُسِّر بأنه قد أفطر حكما، وإن لم ينوه، وبأنه قد دخل وقت فطره، كأصبح وأمسى، ونهى الصائم عن الرَّفث والصَّخب والسِّباب وجواب السِّباب، فأمره أن يقول لمن سابه: (إني صائم) فقيل: يقوله بلسانه وهو أظهر، وقيل: بقلبه تذكيرا لنفسه بالصوم، وقيل: يقوله في الفرض بلسانه، وفي التطوع في نفسه، لأنه أبعد عن الرياء.

• الصوم في السفر:

وسافر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في رمضان، فصام وأفطر، وخيَّر الصحابة بين الأمرين.
وكان يأمرهم بالفطر إذا دَنوا من عدوِّهم ليتقووا على قتاله.

فلو اتفق مثلُ هذا في الحَضَر ، وكان في الفطر قُوة لهم على لقاء عدوِّهم فهل لهم الفطر؟ فيه قولان أصحهما دليلا: أنَّ لهم ذلك، وهو اختيار ابن تيمية، وبه أفتى العساكر الإسلامية لما لقوا العدو بظاهر دمشق، ولا ريب أن الفطر لذلك أولى من الفِطر لمجرد السفر، بل إباحة الفطر للمسافر تنبيهٌ على إباحته في هذه الحالة، فإنها أحقُّ بجوازه، لأن القوة هناك تختص بالمسافر، والقوة هنا له وللمسلمين، ولأن مشقة الجهاد أعظم من مشقة السفر، ولأن المصلحة الحاصلة بالفطر للمجاهد أعظم من المصلحة بفطر المسافر، ولأن الله تعالى قال: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ } [الأنفال: 60]. والفِطر عند اللقاء من أعظم أسباب القوة، .. ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال للصحابة لما دنوا من عدوهم: (إنكم قد دنوتم من عدوكم، والفطر أقوى لكم) . وكانت رخصة ثم نزلوا منزلا آخر فقال: ( إنكم مصبحو عدوكم، والفطر أقوى لكم فأفطِروا) فكانت عزمة [فأفطرنا] [رواه مسلم]، فعلَّل بدنوهم من عدوهم واحتياجهم إلى القوة التي يلقون بها العدو، وهذا سبب آخر غير السفر، والسفر مستقل بنفسه، ولم يذكر في تعليله ولا أشار إليه.

وسافر رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان في أعظم الغزوات وأجلِّها في غزاة بدر ، وفي غزاة الفتح.

قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: غزونا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في رمضان غزوتين، يوم بدر والفتح، فأفطرنا فيهما. انتهى كلامه (باختصار من كتاب زاد المعاد في هدي خير العباد).



• المصدر:
صحيفة النبأ - العدد 133
الخميس 8 رمضان 1439 ه‍ـ

683b4c4f96693

  • 0
  • 0
  • 10

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً