الآيات الإنسانية المتعلقة بأطوار خلق الإنسان وأبعادها الفقهية الحمد لله, والصلاة والسلام علي ...
منذ 2025-09-16
الآيات الإنسانية المتعلقة بأطوار خلق الإنسان وأبعادها الفقهية
الحمد لله, والصلاة والسلام علي سيدنا رسول الله, وعلي آله وصحبه ومن تبعه بإحسان إلي يوم الدين ثم أما بعد:
الأطوار: جمع طور والطَّوْرُ: الحالُ والهيئة: نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم صبيانا ثم شبابًا ثم شيوخًا أو غير ذلك، وقيل الطَّوْرُهو: المرَّةُ والتَّارَة( ).
وكلمة (طور) الطاء والواو والراء أصل صحيح يدل على معنى واحد، وهو الامتداد في شيء من مكان أو زمان( ).
قال الله تعالى: ﴿وقد خَلَقكُم أَطْوَارًا﴾؛ معناه ضُرُوبًا وأَحوالًا مختلفةً؛ وقال ثعلب: أَطْوارا أي خِلَقًا مختلفة كلُّ واحد على حدة؛ وقال الفراء: خلقكم أَطْوارًا، أي كما قال نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم عظْمًا؛ وقال الأَخفش: طَوْرًا علقة وطَوْرا مضغة، وقال غيره: أَراد اختلافَ المَناظِر والأَخْلاقِ؛ قال الشاعر والمرْءُ يَخْلَقُ طَوْرًا بعْدَ أَطْوار وفي حديث سطيح فإِنّ ذا الدَّهْرَ أَطْوارٌ دَهارير الأَطْوارُ: الحالاتُ المختلفةُ والتاراتُ والحدودُ، واحدُها طَوْرٌ أَي مَرّةً مُلْكٌ ومَرَّةً هُلْكٌ ومَرّةً بُؤْسٌ ومَرّةً نُعْم( ).
وفي قوله تعالى: ﴿وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا﴾، أي: طورًا بعد طورٍ، نقلكم من حالٍ إلى حال ومن جِهَةٍ من الخلق إلى جهة - خلقكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة، ثم جعل المضغة عظْمًا، وكسا العظم لحمًا( ).
واصطلاحا: الأَطْوَار هي: الحالاَتُ المُخْتَلِفة والتَّارَات التي تعرض لها خلق الإنسان في بطن أمه حتي صار وليدًا.
ثانيا: المعني العام:
من المعلوم أن أطوار خلق الإنسان من بدايته من ماء مهين، حتي يصير إنسانا كاملا، لهو من أعظم آيات الله - عز وجل- الدالة على كمال قدرته وقوته وعظمته.
وإن من معجزات القرآن أن يتحدث عنها بالتفصيل والبيان ويوضح ذلك نبيبنا ، ففي الحديث الذي رواه الإمام مسلم بسنده عن عبدالله بن مسعود قال: (إن أحدكم يُجمَعُ خلقُه في بطن أمه أربعين يومًا، ثم يكون في ذلك علقة مثل ذلك، ثم يكون في ذلك مُضْغة مثل ذلك( ).
هذا حديث عظيم جامع لأحوال الإنسان من مبدأ خلقه ومجيئه إلى هذه الحياة الدنيا إلى آخر أحواله من الخلود في دار السعادة أو الشقاء نسأل الله العافية، بما كان منه في الحياة الدنيا من كسب وعمل وفق ما سبق في علم الله وقدره وقضائه.
إن مِن أعظم البحوثِ العلميةِ الطبيةِ الحديثةِ ما يعرف بعلمُ الأجنة( )، الذي يعدُّ آيةً من آيات الله - عز وجل- الدالة على عظمة الله تعالى وكمال قدرته؛ حيث إن الجنين كان في نظر الطبِّ القديم كائنًا حيًّا في أدنى مستويات الحياة وأقلها، ويصف حياته بحياة شبه عدم الوجود، وغير ذلك من المسميات ، وأن حركات الجنين ما هي إلا ردود أفعال على المؤثرات التي تصل إليه وهو في بطن أمه.
ولكن من خلال تطوُّر وسائل الملاحظة والمشاهدة، والتعمق داخل جسم الإنسان بالتصوير التليفزيوني - استطاع الطبُّ الحديث أن يصفَ أدق الأشياء والأطوار التي يمر بها الجنين، بدايةً مِن التقاء الحيوان المنوي والبُوَيضة، وحتى اكتمال نمو الجنين وخروجه إلى الحياة.وحول هذه الرحلة الربانية نتعرَّف على بعض الحقائق العلمية التي أثبَتَها العلم الحديث، فندخل هذا العالم العجيب، ونتعرَّف على حقائق ومعلومات؛ لنتعرَّف على سر وجودنا في هذه الحياة، فكلنا كنا يومًا ما حيوانات منوية، وكما أشرنا قبل ذلك إلى أن الرجل يبدأ بإنتاج الحيوانات المنوية عند البلوغ فقط، بخلاف المرأة التي تولد ومبيضها يحتوي على البُوَيضات، ويستغرق إنتاج الحيوان المنوي حوالي ستون يومًا، وحوالى من عشرة أيام إلى أربعة عشر يومًا للمرور خلال القنوات التناسلية الذَّكَرية( ).
وبالتالي فإن أول من أشار إلى علم الأجنة هو القرآن الكريم.
وعلم الأجنه هو: علمُ تكوُّن الجنينِ في رحم الأم، أو هو العلم الذي يتناول التطورات التي تعتري بويضة الأم منذ ساعة إخصابها إلى أن يخرج منها الكائن الحي المكتمل الأعضاء.
مراحل حياة الجنين في رحم الأم:
أثبت العلم الحديث أنه من المعلوم أن الجنين يمر بنوعين من التطور والنمو المرحلي في تكون حياته:
النوع الأول: هوتطور مادي محسوس، تتعاقب عليه أحوال التخلق والتسوية في تكوينه الجسدي.
والنوع الثاني: تطور غير محسوس يضاف إلى ذلك الجسد النامي، فيبعث الله تعالى فيه الحياة. والتعقل، والإرادة والتفكر، ويبدأ هذا التطور بنفخ الروح في جسده، وقد وردت الإشارة إلى كِلا النوعين من التطور في القرآن الكريم والسنة النبوية العطرة.
• ففي القرآن الكريم يقول الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا﴾( ).
وقال المولي سبحانه: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَعِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَفَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِين﴾( ).
روى ابن جرير الطبري عن عبدالله بن عباس: أنه قال في قوله تعالى: ﴿ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ﴾( )، أي: نفَخ الرُّوح فيه( ).
• وفي السنة النبوية: جاءت عدة أحاديث في سنة نبيِّنا ذكرت أطوار حياة الجنين وما يطرأ عليها من تطور، نذكر منها:
1- روى الشيخان عن عبدالله بن مسعودٍ: أن رسولَ الله وهو الصادق المصدوق - قال: (إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يومًا، ثم يكون علقةً مثل ذلك، ثم يكون مضغةً مثل ذلك، ثم يبعث الله ملَكًا، فيؤمر بأربع كلماتٍ، ويقال له: اكتب عمله ورزقه وأجله، وشقي أو سعيد، ثم ينفخ فيه الروح، فإن الرجل منكم ليعمل حتى ما يكون بينه وبين الجنة إلا ذراع فيسبق عليه كتابه فيعمل بعمل أهل النار، ويعمل حتى ما يكون بينه وبين النار إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة))( ).
2- روى مسلم عن عبدالله بن مسعودٍ: أن النبي قال: الشقي مَن شقِي في بطن أمه، والسعيد من وعظ بغيره، فأتى رجلًا من أصحاب رسول الله يقال له: حذيفة بن أسيدٍ الغفاري فحدثه بذلك من قول ابن مسعودٍ، فقال: وكيف يشقى رجل بغير عملٍ؟ فقال له الرجل: أتعجب من ذلك؟! فإني سمعت رسول الله يقول: ((إذا مر بالنطفة ثنتان وأربعون ليلةً، بعث الله إليها ملَكًا فصوَّرها وخلق سمعها وبصرها وجلدها ولحمها وعظامها، ثم قال: يا رب، أذكر أم أنثى؟ فيقضي ربك ما شاء، ويكتب الملَك، ثم يقول: يا رب، أجله؟ فيقول ربك ما شاء، ويكتب الملَك، ثم يقول: يا رب، رزقه؟ فيقضي ربك ما شاء، ويكتب الملَك، ثم يخرج الملك بالصحيفة في يده، فلا يزيد على ما أُمر ولا ينقص))( ). هذه الآيات القرآنية، وتلك الأحاديث النبوية، تتحدث عن علم الأجنة قبل مايزيد على أربعة عشر قرنا من قرون الزمن، وما هذا إلا ليكون برهانا على صدق النبي ، وصدق ما جاء به من عند ربه، وهو ما يعرف اليوم بعلم الأجنة.
بداية ظهور علم الأجنة:
من المعلوم أن بداية علم الاجنة كانت متأخرة جدا بالنسبة للقرآن الكريم، وكانت أبحاث علم الأجنة العلمية تبدأ في ظهورها في النصف الثاني من القرن السابع عشر.
يقول الدكتور كيث بور أستاذ علم الأجنة بجامعة تونتو في مؤلفه المشهور (الإنسان المتطور نبذة تاريخية لبحوث الأجنة): في عام 1651م قام هارفي بدراسة أجنة الدجاج باستخدام عدسات بسيطة وتوصل بعدها بإن الأجنة جاءت من إفرازات الرحم، وفي عام 1677م استخدم العالمان هام وليفين هوك ميكروسكوبا متطورا يريان من خلاله الحيوان المنوي الذكريإلا أنهما لم يفهمان دوره في عملية الإخصاب، وظنا أنه يحتوي على جنين مصغر للإنسان وبذلك لا دخل للمرأة في تكوين الجنين وتسمي بنظرية التخليق المسبق.
وقد انقضى الجدال نهائيا حول هذه النظرية عندما بين سبالانزاني أن كلا من بويضة الأنثي والحيوان المنوي ضروري لتكوين الجنين( ).
والذي ينظر بعين الفكر والصدق والاعتبار يعلم يقينا قوة إعجاز القرآن الكريم وأنه لايمكن أن يكون إلا كتاب الله رب العالمين.
وقد تقدم هذا العلم في السنوات الأخيرة تقدما كبيرا، حتى أصبح بإمكان الأطباء والعلماء أن يصوروا الجنين وهو في الرحم في مراحله كلها حيث نموه وتطوره وكبره وصغره، فهناك صورة للجنين في الأسبوع الثالث، وكذا صورة في الأسبوع الرابع، والأسبوع الخامس، وصورة في الأسبوع السادس، ويعنينا من كل هذه الصور صورة للجنين في رحم الأم وهو في بداية الأسبوع السادس، فماذا يرى الأطباء؟
يقول الأطباء: نرى الأنف مختلطا بالفم، متصلا اتصالا وثيقا بالعين، نرى اليد كأنها مجداف قصير ضعيف، نرى الرأس ملتصقة بالجذع، فهذه صورة الجنين في بداية الأسبوع السادس، فإذا انتهى هذا الأسبوع ابتعد الرأس عن الجذع، وتوضحت معالم العينين، وكذا معالم الأنف، وكذا معالم الفم، وأيضا ملامح اليدين، وكذا الرجلين، فهذه الملامح والصور هي ملامح نهاية الأسبوع السادس، والأسبوع سبعة أيام، فإذا ضربنا سبعة بستة، فالناتج هو: اثنان وأربعون وهذا بعينه ماقاله النبي فعن عبد الله بن مسعود قال: سمعت رسول الله يقول: ((إذا مر بالنطفة اثنتان وأربعون ليلة بعث الله إليها ملكا فصورها، وخلق سمعها، وبصرها، وجلدها، ولحمها، وعظامها، ثم قال: يا رب! أذكر أم أنثى؟ فيقضي ربك ما شاء، ويكتب الملك، ثم يقول: يا رب! أجله؟ فيقول ربك ما شاء، ويكتب الملك، ثم يقول: يا رب! رزقه؟ فيقضي ربك ما شاء، ويكتب الملك، ثم يخرج الملك بالصحيفة في يده، فلا يزيد على أمر، ولا ينقص))( ).
انظر كيف جاء هذا الحديث متطابقا تطابقا دقيقا جدا مع الصور التي تلتقط للجنين، وهو في نهاية الأسبوع السادس، قال الله - عز وجل-: ﴿وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى﴾( )( ).
وفي حديث أبي سعيد الخدري يقول رسول الله قال: ((ما من كل الماء يكون الولد، وإذا أراد الله خلق شيء لم يمنعه شيء))( ).
ويقول العلم الآن: يزيد عدد النطاف المنوية في اللقاء الزوجي على ثلاثمئة مليون، وكل نطفة لها رأس، ولها عنق، ولها ذيل، وتسبح في سائل يغذيها، ويسهل حركتها، ويتجه هذا العدد الكبير - ثلاثمائة مليون - على البيضة كي تلقح بحيوان واحد من ثلاثمئة مليون نطفة، لأنه "ما من كل الماء يكون الولد"، فكيف عرف النبي ذلك؟ من أي مخبر استقى معلوماته؟ من أي بحث علمي أخذ هذه الحقيقة؟ وكيف توصل إليها؟( )
ثالثا: الآيات المتعلقة بأطوار خلق الإنسان ودلالتها:
يقول الحق تبارك وتعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّىٰ وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَىٰ أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ﴾( ).
يقول ابن كثير: لما ذكر تعالى المخالف للبعث، المنكر للمعاد، ذكر تعالى الدليل على قدرته تعالى على المعاد، بما يشاهد من بدئه للخلق، فقال: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ﴾ أي: في شك ﴿مِنَ الْبَعْثِ﴾ وهو المعاد وقيام الأرواح والأجساد يوم القيامة ﴿فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ﴾ أي: أصل بَرْئه لكم من تراب، وهو الذي خلق منه آدم، ﴿ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ﴾ أي: ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين، ﴿ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ﴾ ذلك أنه إذا استقرت النطفة في رحم المرأة، مكثت أربعين يوما كذلك، يضاف إليه ما يجتمع إليها، ثم تنقلب علقة حمراء بإذن الله، فتمكث كذلك أربعين يوما، ثم تستحيل فتصير مضغة – قطعة من لحم لا شكل فيها ولا تخطيط - ثم يشرع في التشكيل والتخطيط، فيصور منها رأس ويدان، وصدر وبطن، وفخذان ورجلان، وسائر الأعضاء. فتارة تُسقطها المرأة قبل التشكيل والتخطيط، وتارة تلقيها وقد صارت ذات شكل وتخطيط؛ ولهذا قال تعالى: ﴿ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ﴾ أي: كما تشاهدونها، ﴿لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الأرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى﴾ أي: وتارة تستقر في الرحم لا تلقيها المرأة ولا تسقطها، كما قال مجاهد في قوله تعالى: ﴿مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ﴾ قال: هو السقط مخلوق وغير مخلوق.
فإذا مضى عليها أربعون يوما، وهي مضغة، أرسل الله تعالى إليها ملكا فنفخ فيها الروح، وسواها كما يشاء الله - عز وجل-، من حسن وقبيح، وذكر وأنثى، وكتب رزقها وأجلها، وشقي أو سعيد، كما ثبت في الصحيحين، من حديث الأعمش، عن زيد بن وهب، عن ابن مسعود قال: حدثنا رسول الله - وهو الصادق المصدوق-: ((إن خلق أحدكم يُجمع في بطن أمه أربعين ليلة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مُضغة مثل ذلك، ثم يبعث الله إليه الملك فيؤمر بأربع كلمات: بكتب عمله وأجله ورزقه، وشقي أو سعيد، ثم ينفخ فيه الروح))( ).
وروى ابن جرير، وابن أبي حاتم من حديث داود بن أبي هند، عن الشعبي، عن علقمة، عن عبدالله قال: النطفة إذا استقرت في الرحم، أخذها ملك بكفه قال: يا رب، مخلقة أو غير مخلقة؟ فإن قيل: "غير مخلقة" لم تكن نسمة، وقذفتها الأرحام دما. وإن قيل: "مخلقة"، قال: أي رب، ذكر أو أنثى؟ شقي أو سعيد؟ ما الأجل؟ وما الأثر؟ وبأي أرض يموت؟ قال: فيقال للنطفة: من ربك؟ فتقول: الله. فيقال: من رازقك؟ فتقول: الله. فيقال له: اذهب إلى الكتاب، فإنك ستجد فيه قصة هذه النطفة. قال: فتخلق فتعيش في أجلها، وتأكل رزقها، وتطأ أثرها، حتى إذا جاء أجلها ماتت، فدفنت في ذلك المكان، ثم تلا عامر الشعبي قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ﴾ فإذا بلغت مضغة نكست في الخلق الرابع فكانت نسمة، فإن كانت غير مخلقة قذفتها الأرحام دما، وإن كانت مخلقة نكست في الخلق( ).
ذكر الإمام ابن حجر العسقلاني في كتابه( ) قول الإمام ابن قيم الجوزية - رحمهما الله تعالى- عن تطور خلق الجنين ما نصّه: "إن داخل الرحم خشن كالإسفنج وجعل فيه قبولًا للمني كطلب الأرض العطشى للماء فجعله طالبًا مشتاقًا إليه بالطبع فلذلك يمسكه ولا يزلقه بل ينضم عليه لئلا يفسده الهواء فيأذن الله لملك الرحم في عقده أربعين يومًا، وفي تلك الأربعين يجمع خلقه، قالوا إن المني إذا اشتمل عليه الرحم ولم يقذفه استدار على نفسه واشتد (مرحلة الكرة الجرثومية في اصطلاح علم الأجنة الحديث) إلى تمام ستة أيام، فينقط فيه ثلاث نقط في مواضع القلب والدماغ والكبد، ثم يظهر فيما بين تلك النقط خطوط خمسة إلى تمام ثلاثة أيام ثم تنفذ الدموية فيه إلى تمام خمسة عشر يومًا، فتتميز الأعضاء الثلاثة ثم تمتد رطوبة النخاع إلى تمام اثني عشر يومًا، ثم ينفصل الرأس عن المنكبين بحيث يظهر للحس في أربعة أيام، فيكمل في أربعين يومًا.
قال تعالى: ﴿هَٰذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ﴾( ).
وقال تعالى في سورة فصلت: ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾( ).
وهذا لا يتم إلا عن طريق العقل الذي يدرك آيات الله ويفكر في معانيها، ويربط العلاقات بين الظواهر والأسباب حتى يتوصل إلى الحق.
وعن حذيفة بن أسيد - يبلغ به النبي - قال: "يدخل الملك على النطفة بعد ما تستقر في الرحم بأربعين أو خمس وأربعين، فيقول: أي رب، أشقي أم سعيد؟ فيقول الله، ويكتبان، فيقول: أذكر أم أنثى؟ فيقول الله ويكتبان، ويكتب عمله وأثره ورزقه وأجله، ثم تطوى الصحف، فلا يزاد على ما فيها ولا ينتقص( ).
يقول أستاذ علم التشريح في جامعة تورنتو بكندا، كيث مور: "إنني أشهد بإعجاز اللَّه في خلق كل طور من أطوار الجنين المذكورة في القرآن الكريم، ولا أعتقد أن محمدًا أو أي شخص آخر، يستطيع معرفة ما يحدث في تطور الجنين في ذلك الوقت، لأن هذه التطورات لم تكتشف إلَّا في الجزء الأخير من القرن العشرين، وأريد أن أؤكد أن كل شيء قرأته في القرآن الكريم عن نشأة الجنين وتطوره في داخل الرحم، ينطبق على كل ما أعرفه من علم الأجنة، كوني أحد العلماء المتخصصين في هذا العلم، وأن تفسير الآيات القرآنية المتعلقة بتكون الإنسان لم يكن ممكنًا في القرن السابع للميلاد،ولا حتى منذ مئة سنة"( ).
ويقول تعالى: ﴿مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا﴾( ).
في هذه الآية الكريمة إشارة إلى أن الله خلق الإنسان في أطوار مختلفة.
والأطوار هنا التي يخاطب بها المولي عزو جل قوم نوح في ذلك الزمان لابد وأن تكون أمرا يدركونه، أو أن يكون أحد المدلولات عليه مما يملك أولئك القوم في ذلك الزمان أن يدركوه، ليرجو من وراء تذكيرهم به أن يكون له في نفوسهم واقع مؤثر يقودهم إلى الاستجابة والطاعة.
والذي عليه أكثر أهل التفسير: أنها تلك الأطوار الجنينية، من النطفة إلى العلقة إلى المضغة إلى الهيكل ثم إلى الخلق الكامل، وهذا يمكن أن يدركه القوم إذا ذكر لهم، لأن الأجنة التي تسقط قبل اكتمالها في الأرحام يمكن أن تعطيهم فكرة عن هذه الأطوار( ).
وقال تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ﴾( ).
قال ابن كثير: أي: أولم يستدل من أنكر البعث بالبدء على الإعادة، فإن الله ابتدأ خلق الإنسان من سلالة من ماء مهين، فخلقه من شيء حقير ضعيف مهين،من نطفة من أخلاط متفرقة، فالذي خلقه من هذه النطفة الضعيفة أليس بقادر على إعادته بعد موته؟( )
سبب النزول: عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال إن العاص بن وائل أخذ عظما من البطحاء ففته بيده ثم قال لرسول الله - صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: أيحيى الله هذا بعد ما أرم؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: "نعم يميتك الله ثم يحييك ثم يدخلك جهنم". قال: ونزلت الآيات من آخر يس( ).
ومن الآيات الكريمة نستطيع أن نحدد معالم أطوار الجنين:
وهي: نطفة، علقة، مضغة مخلقة وغير مخلقة، عظام، لحم يكسو العظام، ثم نفخ الروح.
لقد كشف علم الأجنة الحديث عن المراحل التي يتم فيها خلق الإنسان وحدّدها بالأطوار التالية:
أ- مرحلة التخلق الأولى:
(النطفة، العلقة، المضغة، كساء العظام، ثم كسائه باللحم).
ب- طور النشأة. ج- طور قابلية الحياة.
د- طور الحضانة الرحمية. ه- طور المخاض.
ولقد ذكر القرآن الكريم المراحل الأساسية للتخلق البشري من لحظة الحمل إلى الولادة: كما في قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ﴾( ).
وقال تعالى: ﴿أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنثَى﴾( )، وقال تعالى: ﴿الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ﴾( ).
ووجه الإعجاز في الآية القرآنية: وجه الإعجاز أن المصطلحات الواردة في القرآن الكريم تعبِّر بدقة عن التطورات التي تقع في مختلف مراحل التخلق فهي تصف هذه الأحداث حسب تسلسلها الزمني كما تصف التغيرات التي تطرأ على هيئة الجنين مع التخلق في كل مرحلة وصفًا دقيقًا.وما كان في وسع رسول الله أن يعرف هذه الحقائق في القرن السابع الميلادي لأن معظمها لم يكتشف إلا في القرن العشرين، وهذا يشهد بأنها وحي من الله سبحانه وتعالى إلى رسوله الكريم ، فسبحان الله تعالى القائل: ﴿وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا﴾( ).
وتلك المراحل على ضوء الآيات الكريمة السابقة ما يلي:
أ- مرحلة التخلق الأولى (مرحلة الحمل):
وتشمل: النطفة والعلقة والمضغة، وتخلق العظام ثم كسوة العظام باللحم (العضلات) حيث قال - عليه الصلاة والسلام- فيما رواه مسلم عن عبد الله بن مسعود : ))إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يومًا، ثم يكون في ذلك علقة مثل ذلك، ثم يكون في ذلك مضغة مثل ذلك، ثم يرسل الملك فينفخ فيه الروح ويؤمر بأربع كلمات بكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد((.( )
إن هذا الحديث يدلّ على حقيقتين:
الحقيقة الأولى: أن جمع خلق الإنسان يتم في الأربعين يومًا الأولى.
والحقيقة الثانية: أن مراحل الخلق الأولى: النطفة، العلقة والمضغة إنما تتكون وتكتمل خلال هذه الفترة (الأربعين يومًا الأولى).
ب- مرحلة النشأة خلقًا آخر:
يبدأ هذا الطور بعد مرحلة الكساء باللحم، أي من الأسبوع التاسع، ويستغرق فترة زمنية يدل عليها استعمال حرف العطف (ثم) الذي يدل على فاصل زمني بين الكساء باللحم والنشأة خلقًا آخر، قال تعالى: ﴿فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ﴾( ) وفي خلال هذه المرحلة تتم عدة عمليات هامة في نمو الجنين تندرج بجلاء تحت الوصفين الذين جاءا في القرآن الكريم، ففي الفترة ما بين الأسبوعين التاسع والثاني عشر تبدأ أحجام كل من الرأس والجسم والأطراف في التوازن والاعتدال.
وفي الأسبوع الثاني عشر يتحدد جنس الجنين بظهور الأعضاء التناسلية الخارجية.
وفي نفس الأسبوع يتطور بناء الهيكل العظمي من العظام الغضروفية اللينة إلى العظام الكلية الصلبة، كما تتمايز الأطراف، ويمكن رؤية الأظافر على الأصابع.
ويظهر الشعر على الجلد في هذا الطور، ويزداد وزن الجنين بصورة ملحوظة، وتتطور العضلات الإرادية وغير الإرادية.
تبدأ الحركات الإرادية في هذا الطور، ثم تصبح الأعضاء والأجهزة مهيأة للقيام بوظائفها، وفي هذه المرحلة يتم نفخ الروح؛ طبقًا لما دلت عليه نصوص القرآن الكريم والسنة المطهرة ويمكن التعرف على نفخ الروح بمشاهدة ظاهرة النوم واليقظة في الجنين التي تدل نصوص قرآنية ونبوية عديدة على ارتباطها بالروح.
تمتد هذه المرحلة، مرحلة النشأة خلقًا آخر من الأسبوع التاسع إلى أن يدخل الجنين مرحلة القابلية للحياة خارج الرحم.
ج- طور القابلية للحياة: تبدأ تهيئة الجنين للحياة خارج الرحم في الأسبوع الثاني والعشرين وتنتهي في الأسبوع السادس والعشرين عندما يصبح الجهاز التنفسي مؤهلًا للقيام بوظائفه ويصبح الجهاز العصبي مؤهلًا لضبط حرارة جسم الجنين.
وتعادل الأسابيع الستة والعشرون تقريبًا ستة أشهر قمرية، وقد قدّر القرآن الكريم أن مرحلة الحمل والحضانة تستغرق ثلاثين شهرًا فقال تعالى: ﴿وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا﴾( ).
وبين أيضًا أن مدة الحضانة تستغرق عامين في قوله تعالى: ﴿وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ﴾( ).
وبذلك تكون مدة الحمل اللازمة ليصبح الجنين قابلًا للحياة هي ستة أشهر قمرية، وقبل الأسبوع الثاني والعشرين الذي يبدأ منه هذا الطور يخرج سقطًا في معظم الأجنة.
د- طور الحضانة الرحمية: يدخل الجنين بعد الشهر السادس فترة حضانة تتم في الرحم، فلا تنشأ أجهزة أو أعضاء جديدة فكلها قد وجدت وأصبحت مؤهلة للعمل، ويقوم الرحم فيها بتوفير الغذاء والبيئة الملائمة لنمو الجنين وتستمر إلى طور المخاض والولادة.
ه- طور المخاض: بعد مرور تسعة أشهر قمرية يبدأ هذا الطور الذي ينتهي بالولادة، ويمثل هذا الطور مرحلة التخلي عن الجنين من قبل الرحم ودفعه خارج الجسم، قال تعالى: ﴿ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ﴾( ).
ثالثا: الأبعاد الفقهية:(مسألة السقط والإجهاض في الفقه الإسلامي).
الإجهاض لغةً: مصدر لفعل لازم، وأجهضت المرأة: أسقطت حَمْلها لغير تمام، فهي "مُجْهِض"، كما يعني الإجهاضُ في اللغة إسقاطَ الجنين قبل أوانه، بحيث يؤدي ذلك إلى وفاته، ويُسنَد الفعل إلى المرأة نفسها، فيقال: أجهضت المرأة، فهي مُجهِض: إذا أسقطَتْ جنينها( ).
واصطلاحا: هو إلقاء المرأة جنينها قبل أن يستكمل مدة الحمل ميتًا أو حيًّا دون أن يعيش، وقد استبان بعض خلقه، بفعل منها؛ كاستعمال دواء أو غيره، أو بفعل من غيرها( ).
والإجهاض في الطب: هو خروج محصول الحمل من الرحم فيما بين بداية الحمل وقابلية الحياة، ومع أن هذا التعريف يبدو واضحًا وصريحًا، فإنه يقتضي تحديدَ تاريخين تكتنفُ كلًا منهما بعضُ الصعوبات، وهما تاريخ الحمل، وبَدْء قابلية الحياة؛ أما تاريخ بدء الحمل، أي تاريخ الإلقاح، فلا يمكن تحديدُه بدقة، سواء سريريًّا أو بالفحوص المخبرية، وكل الوسائل المستعملة تحتمل الخطأ، زيادة أو نقصًا ولو بنِسَب بسيطة( ).
حكم إجهاض الجنين بعد مُضي أربعة أشهر عليه:
اتفق فقهاء المسلمين على أنه لا يجوز إسقاط الحمل بعد أن تنفخ فيه الروح وتدب فيه الحياة، ويعتبر الإسقاط في هذه الحالة جناية على حي، وجريمة يعاقب مرتكبها دنيويًّا وأخرويًّا.
وإذا كان في بقاء الحمل إلى وقت الوضع خطرٌ على حياة الأم بتقرير الأطباء المختصين، ذوي الكفاءة والأمانة، فإنه يباح إسقاطه، بل يجب إذا تعين ذلك لإنقاذ حياة الأم( ).
• لا يجوز إسقاط الحمل في مختلف مراحله إلا لمبرر شرعي، وفي حدود ضيقة جدًّا.
• إن كان الحمل في الطور الأول، وهي مدة الأربعين، وكان في إسقاطه مصلحة شرعية، أو دفع ضرر متوقع، جاز إسقاطه.
أما إسقاطه في هذه المدة خشية المشقة في تربية الأولاد، أو خوفًا من العجز عن تكاليف معيشتهم أو تعليمهم، أو من أجل مستقبلهم، أو الاكتفاء بما لدى الزوجين من أولاد، فغير جائز.
كذلك فإنه لا يجوز إسقاط الحمل إن كان علقة أو مضغة، إلا إذا قررت لجنة طبية موثوقة أن استمراره خطر على سلامة أمه، بأن يخشى عليها الهلاك من استمراره، جاز إسقاطه بعد استنفاد كافة الوسائل لتلافي تلك الأخطار.
• بعد الطور الثالث، وبعد إكمال أربعة أشهر للحمل، لا يحل( ) إسقاطه حتى يقرر جمع من المختصين الموثوقين أن بقاء الجنين في بطن أمه يسبب موتها، وذلك بعد استنفاد كافة الوسائل لإنقاذ حياته( ).
إسقاط الجنين المشوه خلقيًّا:
إذا كان الحمل قد بلغ مائة وعشرين يومًا، لا يجوز إسقاطه( )، ولو كان التشخيص الطبي يفيد أنه مشوه الخلقة، إلا إذا ثبت بتقرير لجنة طبية من الأطباء الثقات المختصين أن بقاء الحمل فيه خطر مؤكد على حياة الأم، فعندئذ يجوز إسقاطه، سواء كان مشوهًا أم لا؛ دفعًا لأعظم الضررين،أما قبل مرور مائة وعشرين يومًا (أربعة أشهر) على الحمل، إذا ثبت وتأكد بتقرير لجنة طبية من الأطباء المختصين الثقات، وبناء على الفحوص الفنية، بالأجهزة والوسائل المختبرية، أن الجنين مشوه تشويهًا خطيرًا، غير قابل للعلاج، وأنه إذا بقي وولد في موعده، ستكون حياته سيئة وآلامًا عليه وعلى أهله، فعندئذ يجوز إسقاطه بناءً على طلب الوالدين، والمجلس إذ يقرر ذلك، يوصي الأطباء والوالدين بتقوى الله، والتثبت في هذا الأمر،والله ولي التوفيق( ).
• إذا ثبت ثبوتًا قطعيًّا بواسطة وسائل الطب الحديثة أن بالجنين عيوبًا وراثية خطيرة، لا تتلاءم مع الحياة العامة، وأنها تسري بالوراثة في سلالته، فإنه يجوز إجهاض هذا الجنين بشرط أن يكون ذلك قبل مرور أربعة أشهر على هذا الجنين في بطن أمه.
حكم إجهاض جنين الاغتصاب:
معنى الاغتصاب: أخذ الشيء قهرًا وظلمًا،والمراد بالاغتصاب هنا: إكراه المرأة على الزنا.
إن جنين الإغتصاب أثر من آثار فعل المغتصب الصائل (الظالم)، وثمرة من ثمراته. والاغتصاب بمعنى هتك العرض والإتيان بالفاحشة ظلمًا وقهرًا، جريمة مغلظة، تجمع بين ارتكاب فاحشة الزنا، التي هي كبيرة من الكبائر، وبين إيقاع الظلم والقهر بالمغتصبة، البريئة الشريفة، وهو نوع من البغي الذي اعتبره الإسلام كبيرة أخرى، وصدق الله تعالى حيث قال: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾( ).
وبناءً على ما سبق: فإنه يجوز إجهاض جنين الاغتصاب، وذلك بالضوابط التالية:
أولًا: التأكد من ثبوت حالة الاغتصاب.
ثانيًا: أن يتم الإجهاض بعد الاغتصاب مباشرة.
ثالثًا: ألا يكون الجنين قد نفخت فيه الروح، فإن مر على الجنين أربعة أشهر ونفخت فيه الروح، حرُم إجراء عملية الإجهاض.
رابعًا: يجب أن تتم عملية الإجهاض تحت إشراف طبي مأمون مراعاة لسلامة الأم.
خامسًا: تتم عملية الإجهاض بطلب من الأم المغتصبة أو من ينوب عنها أمام الجهات الحكومية الرسمية للتأكد من حالة الاغتصاب وإثباتها، وتتبع الجاني الظالم الذي اعتدى على هذه المرأة الشريفة( ).
لا مانع شرعًا من العمليات الجراحية التي تجرى للأنثى التي اختطفت وأكرهت على مواقعتها جنسيًّا لإعادة بكارتها، ولا مانع شرعًا من تفريغ ما في أحشائها من نطفة ملوثة للذئب البشري؛ بشرط ألا يكون قد مر على هذا الحمل مائة وعشرون يومًا؛ لأنه لا يحل في هذه الحالة إسقاط الجنين؛ لكونه أصبح نفسًا ذات روح يجب المحافظة عليها، والاعتداء عليها لا يجوز إلا إذا كان استمرار وجوده خطرًا على حياة الأم( ).
الحمد لله, والصلاة والسلام علي سيدنا رسول الله, وعلي آله وصحبه ومن تبعه بإحسان إلي يوم الدين ثم أما بعد:
الأطوار: جمع طور والطَّوْرُ: الحالُ والهيئة: نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم صبيانا ثم شبابًا ثم شيوخًا أو غير ذلك، وقيل الطَّوْرُهو: المرَّةُ والتَّارَة( ).
وكلمة (طور) الطاء والواو والراء أصل صحيح يدل على معنى واحد، وهو الامتداد في شيء من مكان أو زمان( ).
قال الله تعالى: ﴿وقد خَلَقكُم أَطْوَارًا﴾؛ معناه ضُرُوبًا وأَحوالًا مختلفةً؛ وقال ثعلب: أَطْوارا أي خِلَقًا مختلفة كلُّ واحد على حدة؛ وقال الفراء: خلقكم أَطْوارًا، أي كما قال نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم عظْمًا؛ وقال الأَخفش: طَوْرًا علقة وطَوْرا مضغة، وقال غيره: أَراد اختلافَ المَناظِر والأَخْلاقِ؛ قال الشاعر والمرْءُ يَخْلَقُ طَوْرًا بعْدَ أَطْوار وفي حديث سطيح فإِنّ ذا الدَّهْرَ أَطْوارٌ دَهارير الأَطْوارُ: الحالاتُ المختلفةُ والتاراتُ والحدودُ، واحدُها طَوْرٌ أَي مَرّةً مُلْكٌ ومَرَّةً هُلْكٌ ومَرّةً بُؤْسٌ ومَرّةً نُعْم( ).
وفي قوله تعالى: ﴿وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا﴾، أي: طورًا بعد طورٍ، نقلكم من حالٍ إلى حال ومن جِهَةٍ من الخلق إلى جهة - خلقكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة، ثم جعل المضغة عظْمًا، وكسا العظم لحمًا( ).
واصطلاحا: الأَطْوَار هي: الحالاَتُ المُخْتَلِفة والتَّارَات التي تعرض لها خلق الإنسان في بطن أمه حتي صار وليدًا.
ثانيا: المعني العام:
من المعلوم أن أطوار خلق الإنسان من بدايته من ماء مهين، حتي يصير إنسانا كاملا، لهو من أعظم آيات الله - عز وجل- الدالة على كمال قدرته وقوته وعظمته.
وإن من معجزات القرآن أن يتحدث عنها بالتفصيل والبيان ويوضح ذلك نبيبنا ، ففي الحديث الذي رواه الإمام مسلم بسنده عن عبدالله بن مسعود قال: (إن أحدكم يُجمَعُ خلقُه في بطن أمه أربعين يومًا، ثم يكون في ذلك علقة مثل ذلك، ثم يكون في ذلك مُضْغة مثل ذلك( ).
هذا حديث عظيم جامع لأحوال الإنسان من مبدأ خلقه ومجيئه إلى هذه الحياة الدنيا إلى آخر أحواله من الخلود في دار السعادة أو الشقاء نسأل الله العافية، بما كان منه في الحياة الدنيا من كسب وعمل وفق ما سبق في علم الله وقدره وقضائه.
إن مِن أعظم البحوثِ العلميةِ الطبيةِ الحديثةِ ما يعرف بعلمُ الأجنة( )، الذي يعدُّ آيةً من آيات الله - عز وجل- الدالة على عظمة الله تعالى وكمال قدرته؛ حيث إن الجنين كان في نظر الطبِّ القديم كائنًا حيًّا في أدنى مستويات الحياة وأقلها، ويصف حياته بحياة شبه عدم الوجود، وغير ذلك من المسميات ، وأن حركات الجنين ما هي إلا ردود أفعال على المؤثرات التي تصل إليه وهو في بطن أمه.
ولكن من خلال تطوُّر وسائل الملاحظة والمشاهدة، والتعمق داخل جسم الإنسان بالتصوير التليفزيوني - استطاع الطبُّ الحديث أن يصفَ أدق الأشياء والأطوار التي يمر بها الجنين، بدايةً مِن التقاء الحيوان المنوي والبُوَيضة، وحتى اكتمال نمو الجنين وخروجه إلى الحياة.وحول هذه الرحلة الربانية نتعرَّف على بعض الحقائق العلمية التي أثبَتَها العلم الحديث، فندخل هذا العالم العجيب، ونتعرَّف على حقائق ومعلومات؛ لنتعرَّف على سر وجودنا في هذه الحياة، فكلنا كنا يومًا ما حيوانات منوية، وكما أشرنا قبل ذلك إلى أن الرجل يبدأ بإنتاج الحيوانات المنوية عند البلوغ فقط، بخلاف المرأة التي تولد ومبيضها يحتوي على البُوَيضات، ويستغرق إنتاج الحيوان المنوي حوالي ستون يومًا، وحوالى من عشرة أيام إلى أربعة عشر يومًا للمرور خلال القنوات التناسلية الذَّكَرية( ).
وبالتالي فإن أول من أشار إلى علم الأجنة هو القرآن الكريم.
وعلم الأجنه هو: علمُ تكوُّن الجنينِ في رحم الأم، أو هو العلم الذي يتناول التطورات التي تعتري بويضة الأم منذ ساعة إخصابها إلى أن يخرج منها الكائن الحي المكتمل الأعضاء.
مراحل حياة الجنين في رحم الأم:
أثبت العلم الحديث أنه من المعلوم أن الجنين يمر بنوعين من التطور والنمو المرحلي في تكون حياته:
النوع الأول: هوتطور مادي محسوس، تتعاقب عليه أحوال التخلق والتسوية في تكوينه الجسدي.
والنوع الثاني: تطور غير محسوس يضاف إلى ذلك الجسد النامي، فيبعث الله تعالى فيه الحياة. والتعقل، والإرادة والتفكر، ويبدأ هذا التطور بنفخ الروح في جسده، وقد وردت الإشارة إلى كِلا النوعين من التطور في القرآن الكريم والسنة النبوية العطرة.
• ففي القرآن الكريم يقول الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا﴾( ).
وقال المولي سبحانه: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَعِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَفَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِين﴾( ).
روى ابن جرير الطبري عن عبدالله بن عباس: أنه قال في قوله تعالى: ﴿ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ﴾( )، أي: نفَخ الرُّوح فيه( ).
• وفي السنة النبوية: جاءت عدة أحاديث في سنة نبيِّنا ذكرت أطوار حياة الجنين وما يطرأ عليها من تطور، نذكر منها:
1- روى الشيخان عن عبدالله بن مسعودٍ: أن رسولَ الله وهو الصادق المصدوق - قال: (إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يومًا، ثم يكون علقةً مثل ذلك، ثم يكون مضغةً مثل ذلك، ثم يبعث الله ملَكًا، فيؤمر بأربع كلماتٍ، ويقال له: اكتب عمله ورزقه وأجله، وشقي أو سعيد، ثم ينفخ فيه الروح، فإن الرجل منكم ليعمل حتى ما يكون بينه وبين الجنة إلا ذراع فيسبق عليه كتابه فيعمل بعمل أهل النار، ويعمل حتى ما يكون بينه وبين النار إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة))( ).
2- روى مسلم عن عبدالله بن مسعودٍ: أن النبي قال: الشقي مَن شقِي في بطن أمه، والسعيد من وعظ بغيره، فأتى رجلًا من أصحاب رسول الله يقال له: حذيفة بن أسيدٍ الغفاري فحدثه بذلك من قول ابن مسعودٍ، فقال: وكيف يشقى رجل بغير عملٍ؟ فقال له الرجل: أتعجب من ذلك؟! فإني سمعت رسول الله يقول: ((إذا مر بالنطفة ثنتان وأربعون ليلةً، بعث الله إليها ملَكًا فصوَّرها وخلق سمعها وبصرها وجلدها ولحمها وعظامها، ثم قال: يا رب، أذكر أم أنثى؟ فيقضي ربك ما شاء، ويكتب الملَك، ثم يقول: يا رب، أجله؟ فيقول ربك ما شاء، ويكتب الملَك، ثم يقول: يا رب، رزقه؟ فيقضي ربك ما شاء، ويكتب الملَك، ثم يخرج الملك بالصحيفة في يده، فلا يزيد على ما أُمر ولا ينقص))( ). هذه الآيات القرآنية، وتلك الأحاديث النبوية، تتحدث عن علم الأجنة قبل مايزيد على أربعة عشر قرنا من قرون الزمن، وما هذا إلا ليكون برهانا على صدق النبي ، وصدق ما جاء به من عند ربه، وهو ما يعرف اليوم بعلم الأجنة.
بداية ظهور علم الأجنة:
من المعلوم أن بداية علم الاجنة كانت متأخرة جدا بالنسبة للقرآن الكريم، وكانت أبحاث علم الأجنة العلمية تبدأ في ظهورها في النصف الثاني من القرن السابع عشر.
يقول الدكتور كيث بور أستاذ علم الأجنة بجامعة تونتو في مؤلفه المشهور (الإنسان المتطور نبذة تاريخية لبحوث الأجنة): في عام 1651م قام هارفي بدراسة أجنة الدجاج باستخدام عدسات بسيطة وتوصل بعدها بإن الأجنة جاءت من إفرازات الرحم، وفي عام 1677م استخدم العالمان هام وليفين هوك ميكروسكوبا متطورا يريان من خلاله الحيوان المنوي الذكريإلا أنهما لم يفهمان دوره في عملية الإخصاب، وظنا أنه يحتوي على جنين مصغر للإنسان وبذلك لا دخل للمرأة في تكوين الجنين وتسمي بنظرية التخليق المسبق.
وقد انقضى الجدال نهائيا حول هذه النظرية عندما بين سبالانزاني أن كلا من بويضة الأنثي والحيوان المنوي ضروري لتكوين الجنين( ).
والذي ينظر بعين الفكر والصدق والاعتبار يعلم يقينا قوة إعجاز القرآن الكريم وأنه لايمكن أن يكون إلا كتاب الله رب العالمين.
وقد تقدم هذا العلم في السنوات الأخيرة تقدما كبيرا، حتى أصبح بإمكان الأطباء والعلماء أن يصوروا الجنين وهو في الرحم في مراحله كلها حيث نموه وتطوره وكبره وصغره، فهناك صورة للجنين في الأسبوع الثالث، وكذا صورة في الأسبوع الرابع، والأسبوع الخامس، وصورة في الأسبوع السادس، ويعنينا من كل هذه الصور صورة للجنين في رحم الأم وهو في بداية الأسبوع السادس، فماذا يرى الأطباء؟
يقول الأطباء: نرى الأنف مختلطا بالفم، متصلا اتصالا وثيقا بالعين، نرى اليد كأنها مجداف قصير ضعيف، نرى الرأس ملتصقة بالجذع، فهذه صورة الجنين في بداية الأسبوع السادس، فإذا انتهى هذا الأسبوع ابتعد الرأس عن الجذع، وتوضحت معالم العينين، وكذا معالم الأنف، وكذا معالم الفم، وأيضا ملامح اليدين، وكذا الرجلين، فهذه الملامح والصور هي ملامح نهاية الأسبوع السادس، والأسبوع سبعة أيام، فإذا ضربنا سبعة بستة، فالناتج هو: اثنان وأربعون وهذا بعينه ماقاله النبي فعن عبد الله بن مسعود قال: سمعت رسول الله يقول: ((إذا مر بالنطفة اثنتان وأربعون ليلة بعث الله إليها ملكا فصورها، وخلق سمعها، وبصرها، وجلدها، ولحمها، وعظامها، ثم قال: يا رب! أذكر أم أنثى؟ فيقضي ربك ما شاء، ويكتب الملك، ثم يقول: يا رب! أجله؟ فيقول ربك ما شاء، ويكتب الملك، ثم يقول: يا رب! رزقه؟ فيقضي ربك ما شاء، ويكتب الملك، ثم يخرج الملك بالصحيفة في يده، فلا يزيد على أمر، ولا ينقص))( ).
انظر كيف جاء هذا الحديث متطابقا تطابقا دقيقا جدا مع الصور التي تلتقط للجنين، وهو في نهاية الأسبوع السادس، قال الله - عز وجل-: ﴿وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى﴾( )( ).
وفي حديث أبي سعيد الخدري يقول رسول الله قال: ((ما من كل الماء يكون الولد، وإذا أراد الله خلق شيء لم يمنعه شيء))( ).
ويقول العلم الآن: يزيد عدد النطاف المنوية في اللقاء الزوجي على ثلاثمئة مليون، وكل نطفة لها رأس، ولها عنق، ولها ذيل، وتسبح في سائل يغذيها، ويسهل حركتها، ويتجه هذا العدد الكبير - ثلاثمائة مليون - على البيضة كي تلقح بحيوان واحد من ثلاثمئة مليون نطفة، لأنه "ما من كل الماء يكون الولد"، فكيف عرف النبي ذلك؟ من أي مخبر استقى معلوماته؟ من أي بحث علمي أخذ هذه الحقيقة؟ وكيف توصل إليها؟( )
ثالثا: الآيات المتعلقة بأطوار خلق الإنسان ودلالتها:
يقول الحق تبارك وتعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّىٰ وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَىٰ أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ﴾( ).
يقول ابن كثير: لما ذكر تعالى المخالف للبعث، المنكر للمعاد، ذكر تعالى الدليل على قدرته تعالى على المعاد، بما يشاهد من بدئه للخلق، فقال: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ﴾ أي: في شك ﴿مِنَ الْبَعْثِ﴾ وهو المعاد وقيام الأرواح والأجساد يوم القيامة ﴿فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ﴾ أي: أصل بَرْئه لكم من تراب، وهو الذي خلق منه آدم، ﴿ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ﴾ أي: ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين، ﴿ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ﴾ ذلك أنه إذا استقرت النطفة في رحم المرأة، مكثت أربعين يوما كذلك، يضاف إليه ما يجتمع إليها، ثم تنقلب علقة حمراء بإذن الله، فتمكث كذلك أربعين يوما، ثم تستحيل فتصير مضغة – قطعة من لحم لا شكل فيها ولا تخطيط - ثم يشرع في التشكيل والتخطيط، فيصور منها رأس ويدان، وصدر وبطن، وفخذان ورجلان، وسائر الأعضاء. فتارة تُسقطها المرأة قبل التشكيل والتخطيط، وتارة تلقيها وقد صارت ذات شكل وتخطيط؛ ولهذا قال تعالى: ﴿ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ﴾ أي: كما تشاهدونها، ﴿لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الأرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى﴾ أي: وتارة تستقر في الرحم لا تلقيها المرأة ولا تسقطها، كما قال مجاهد في قوله تعالى: ﴿مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ﴾ قال: هو السقط مخلوق وغير مخلوق.
فإذا مضى عليها أربعون يوما، وهي مضغة، أرسل الله تعالى إليها ملكا فنفخ فيها الروح، وسواها كما يشاء الله - عز وجل-، من حسن وقبيح، وذكر وأنثى، وكتب رزقها وأجلها، وشقي أو سعيد، كما ثبت في الصحيحين، من حديث الأعمش، عن زيد بن وهب، عن ابن مسعود قال: حدثنا رسول الله - وهو الصادق المصدوق-: ((إن خلق أحدكم يُجمع في بطن أمه أربعين ليلة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مُضغة مثل ذلك، ثم يبعث الله إليه الملك فيؤمر بأربع كلمات: بكتب عمله وأجله ورزقه، وشقي أو سعيد، ثم ينفخ فيه الروح))( ).
وروى ابن جرير، وابن أبي حاتم من حديث داود بن أبي هند، عن الشعبي، عن علقمة، عن عبدالله قال: النطفة إذا استقرت في الرحم، أخذها ملك بكفه قال: يا رب، مخلقة أو غير مخلقة؟ فإن قيل: "غير مخلقة" لم تكن نسمة، وقذفتها الأرحام دما. وإن قيل: "مخلقة"، قال: أي رب، ذكر أو أنثى؟ شقي أو سعيد؟ ما الأجل؟ وما الأثر؟ وبأي أرض يموت؟ قال: فيقال للنطفة: من ربك؟ فتقول: الله. فيقال: من رازقك؟ فتقول: الله. فيقال له: اذهب إلى الكتاب، فإنك ستجد فيه قصة هذه النطفة. قال: فتخلق فتعيش في أجلها، وتأكل رزقها، وتطأ أثرها، حتى إذا جاء أجلها ماتت، فدفنت في ذلك المكان، ثم تلا عامر الشعبي قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ﴾ فإذا بلغت مضغة نكست في الخلق الرابع فكانت نسمة، فإن كانت غير مخلقة قذفتها الأرحام دما، وإن كانت مخلقة نكست في الخلق( ).
ذكر الإمام ابن حجر العسقلاني في كتابه( ) قول الإمام ابن قيم الجوزية - رحمهما الله تعالى- عن تطور خلق الجنين ما نصّه: "إن داخل الرحم خشن كالإسفنج وجعل فيه قبولًا للمني كطلب الأرض العطشى للماء فجعله طالبًا مشتاقًا إليه بالطبع فلذلك يمسكه ولا يزلقه بل ينضم عليه لئلا يفسده الهواء فيأذن الله لملك الرحم في عقده أربعين يومًا، وفي تلك الأربعين يجمع خلقه، قالوا إن المني إذا اشتمل عليه الرحم ولم يقذفه استدار على نفسه واشتد (مرحلة الكرة الجرثومية في اصطلاح علم الأجنة الحديث) إلى تمام ستة أيام، فينقط فيه ثلاث نقط في مواضع القلب والدماغ والكبد، ثم يظهر فيما بين تلك النقط خطوط خمسة إلى تمام ثلاثة أيام ثم تنفذ الدموية فيه إلى تمام خمسة عشر يومًا، فتتميز الأعضاء الثلاثة ثم تمتد رطوبة النخاع إلى تمام اثني عشر يومًا، ثم ينفصل الرأس عن المنكبين بحيث يظهر للحس في أربعة أيام، فيكمل في أربعين يومًا.
قال تعالى: ﴿هَٰذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ﴾( ).
وقال تعالى في سورة فصلت: ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾( ).
وهذا لا يتم إلا عن طريق العقل الذي يدرك آيات الله ويفكر في معانيها، ويربط العلاقات بين الظواهر والأسباب حتى يتوصل إلى الحق.
وعن حذيفة بن أسيد - يبلغ به النبي - قال: "يدخل الملك على النطفة بعد ما تستقر في الرحم بأربعين أو خمس وأربعين، فيقول: أي رب، أشقي أم سعيد؟ فيقول الله، ويكتبان، فيقول: أذكر أم أنثى؟ فيقول الله ويكتبان، ويكتب عمله وأثره ورزقه وأجله، ثم تطوى الصحف، فلا يزاد على ما فيها ولا ينتقص( ).
يقول أستاذ علم التشريح في جامعة تورنتو بكندا، كيث مور: "إنني أشهد بإعجاز اللَّه في خلق كل طور من أطوار الجنين المذكورة في القرآن الكريم، ولا أعتقد أن محمدًا أو أي شخص آخر، يستطيع معرفة ما يحدث في تطور الجنين في ذلك الوقت، لأن هذه التطورات لم تكتشف إلَّا في الجزء الأخير من القرن العشرين، وأريد أن أؤكد أن كل شيء قرأته في القرآن الكريم عن نشأة الجنين وتطوره في داخل الرحم، ينطبق على كل ما أعرفه من علم الأجنة، كوني أحد العلماء المتخصصين في هذا العلم، وأن تفسير الآيات القرآنية المتعلقة بتكون الإنسان لم يكن ممكنًا في القرن السابع للميلاد،ولا حتى منذ مئة سنة"( ).
ويقول تعالى: ﴿مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا﴾( ).
في هذه الآية الكريمة إشارة إلى أن الله خلق الإنسان في أطوار مختلفة.
والأطوار هنا التي يخاطب بها المولي عزو جل قوم نوح في ذلك الزمان لابد وأن تكون أمرا يدركونه، أو أن يكون أحد المدلولات عليه مما يملك أولئك القوم في ذلك الزمان أن يدركوه، ليرجو من وراء تذكيرهم به أن يكون له في نفوسهم واقع مؤثر يقودهم إلى الاستجابة والطاعة.
والذي عليه أكثر أهل التفسير: أنها تلك الأطوار الجنينية، من النطفة إلى العلقة إلى المضغة إلى الهيكل ثم إلى الخلق الكامل، وهذا يمكن أن يدركه القوم إذا ذكر لهم، لأن الأجنة التي تسقط قبل اكتمالها في الأرحام يمكن أن تعطيهم فكرة عن هذه الأطوار( ).
وقال تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ﴾( ).
قال ابن كثير: أي: أولم يستدل من أنكر البعث بالبدء على الإعادة، فإن الله ابتدأ خلق الإنسان من سلالة من ماء مهين، فخلقه من شيء حقير ضعيف مهين،من نطفة من أخلاط متفرقة، فالذي خلقه من هذه النطفة الضعيفة أليس بقادر على إعادته بعد موته؟( )
سبب النزول: عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال إن العاص بن وائل أخذ عظما من البطحاء ففته بيده ثم قال لرسول الله - صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: أيحيى الله هذا بعد ما أرم؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: "نعم يميتك الله ثم يحييك ثم يدخلك جهنم". قال: ونزلت الآيات من آخر يس( ).
ومن الآيات الكريمة نستطيع أن نحدد معالم أطوار الجنين:
وهي: نطفة، علقة، مضغة مخلقة وغير مخلقة، عظام، لحم يكسو العظام، ثم نفخ الروح.
لقد كشف علم الأجنة الحديث عن المراحل التي يتم فيها خلق الإنسان وحدّدها بالأطوار التالية:
أ- مرحلة التخلق الأولى:
(النطفة، العلقة، المضغة، كساء العظام، ثم كسائه باللحم).
ب- طور النشأة. ج- طور قابلية الحياة.
د- طور الحضانة الرحمية. ه- طور المخاض.
ولقد ذكر القرآن الكريم المراحل الأساسية للتخلق البشري من لحظة الحمل إلى الولادة: كما في قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ﴾( ).
وقال تعالى: ﴿أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنثَى﴾( )، وقال تعالى: ﴿الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ﴾( ).
ووجه الإعجاز في الآية القرآنية: وجه الإعجاز أن المصطلحات الواردة في القرآن الكريم تعبِّر بدقة عن التطورات التي تقع في مختلف مراحل التخلق فهي تصف هذه الأحداث حسب تسلسلها الزمني كما تصف التغيرات التي تطرأ على هيئة الجنين مع التخلق في كل مرحلة وصفًا دقيقًا.وما كان في وسع رسول الله أن يعرف هذه الحقائق في القرن السابع الميلادي لأن معظمها لم يكتشف إلا في القرن العشرين، وهذا يشهد بأنها وحي من الله سبحانه وتعالى إلى رسوله الكريم ، فسبحان الله تعالى القائل: ﴿وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا﴾( ).
وتلك المراحل على ضوء الآيات الكريمة السابقة ما يلي:
أ- مرحلة التخلق الأولى (مرحلة الحمل):
وتشمل: النطفة والعلقة والمضغة، وتخلق العظام ثم كسوة العظام باللحم (العضلات) حيث قال - عليه الصلاة والسلام- فيما رواه مسلم عن عبد الله بن مسعود : ))إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يومًا، ثم يكون في ذلك علقة مثل ذلك، ثم يكون في ذلك مضغة مثل ذلك، ثم يرسل الملك فينفخ فيه الروح ويؤمر بأربع كلمات بكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد((.( )
إن هذا الحديث يدلّ على حقيقتين:
الحقيقة الأولى: أن جمع خلق الإنسان يتم في الأربعين يومًا الأولى.
والحقيقة الثانية: أن مراحل الخلق الأولى: النطفة، العلقة والمضغة إنما تتكون وتكتمل خلال هذه الفترة (الأربعين يومًا الأولى).
ب- مرحلة النشأة خلقًا آخر:
يبدأ هذا الطور بعد مرحلة الكساء باللحم، أي من الأسبوع التاسع، ويستغرق فترة زمنية يدل عليها استعمال حرف العطف (ثم) الذي يدل على فاصل زمني بين الكساء باللحم والنشأة خلقًا آخر، قال تعالى: ﴿فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ﴾( ) وفي خلال هذه المرحلة تتم عدة عمليات هامة في نمو الجنين تندرج بجلاء تحت الوصفين الذين جاءا في القرآن الكريم، ففي الفترة ما بين الأسبوعين التاسع والثاني عشر تبدأ أحجام كل من الرأس والجسم والأطراف في التوازن والاعتدال.
وفي الأسبوع الثاني عشر يتحدد جنس الجنين بظهور الأعضاء التناسلية الخارجية.
وفي نفس الأسبوع يتطور بناء الهيكل العظمي من العظام الغضروفية اللينة إلى العظام الكلية الصلبة، كما تتمايز الأطراف، ويمكن رؤية الأظافر على الأصابع.
ويظهر الشعر على الجلد في هذا الطور، ويزداد وزن الجنين بصورة ملحوظة، وتتطور العضلات الإرادية وغير الإرادية.
تبدأ الحركات الإرادية في هذا الطور، ثم تصبح الأعضاء والأجهزة مهيأة للقيام بوظائفها، وفي هذه المرحلة يتم نفخ الروح؛ طبقًا لما دلت عليه نصوص القرآن الكريم والسنة المطهرة ويمكن التعرف على نفخ الروح بمشاهدة ظاهرة النوم واليقظة في الجنين التي تدل نصوص قرآنية ونبوية عديدة على ارتباطها بالروح.
تمتد هذه المرحلة، مرحلة النشأة خلقًا آخر من الأسبوع التاسع إلى أن يدخل الجنين مرحلة القابلية للحياة خارج الرحم.
ج- طور القابلية للحياة: تبدأ تهيئة الجنين للحياة خارج الرحم في الأسبوع الثاني والعشرين وتنتهي في الأسبوع السادس والعشرين عندما يصبح الجهاز التنفسي مؤهلًا للقيام بوظائفه ويصبح الجهاز العصبي مؤهلًا لضبط حرارة جسم الجنين.
وتعادل الأسابيع الستة والعشرون تقريبًا ستة أشهر قمرية، وقد قدّر القرآن الكريم أن مرحلة الحمل والحضانة تستغرق ثلاثين شهرًا فقال تعالى: ﴿وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا﴾( ).
وبين أيضًا أن مدة الحضانة تستغرق عامين في قوله تعالى: ﴿وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ﴾( ).
وبذلك تكون مدة الحمل اللازمة ليصبح الجنين قابلًا للحياة هي ستة أشهر قمرية، وقبل الأسبوع الثاني والعشرين الذي يبدأ منه هذا الطور يخرج سقطًا في معظم الأجنة.
د- طور الحضانة الرحمية: يدخل الجنين بعد الشهر السادس فترة حضانة تتم في الرحم، فلا تنشأ أجهزة أو أعضاء جديدة فكلها قد وجدت وأصبحت مؤهلة للعمل، ويقوم الرحم فيها بتوفير الغذاء والبيئة الملائمة لنمو الجنين وتستمر إلى طور المخاض والولادة.
ه- طور المخاض: بعد مرور تسعة أشهر قمرية يبدأ هذا الطور الذي ينتهي بالولادة، ويمثل هذا الطور مرحلة التخلي عن الجنين من قبل الرحم ودفعه خارج الجسم، قال تعالى: ﴿ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ﴾( ).
ثالثا: الأبعاد الفقهية:(مسألة السقط والإجهاض في الفقه الإسلامي).
الإجهاض لغةً: مصدر لفعل لازم، وأجهضت المرأة: أسقطت حَمْلها لغير تمام، فهي "مُجْهِض"، كما يعني الإجهاضُ في اللغة إسقاطَ الجنين قبل أوانه، بحيث يؤدي ذلك إلى وفاته، ويُسنَد الفعل إلى المرأة نفسها، فيقال: أجهضت المرأة، فهي مُجهِض: إذا أسقطَتْ جنينها( ).
واصطلاحا: هو إلقاء المرأة جنينها قبل أن يستكمل مدة الحمل ميتًا أو حيًّا دون أن يعيش، وقد استبان بعض خلقه، بفعل منها؛ كاستعمال دواء أو غيره، أو بفعل من غيرها( ).
والإجهاض في الطب: هو خروج محصول الحمل من الرحم فيما بين بداية الحمل وقابلية الحياة، ومع أن هذا التعريف يبدو واضحًا وصريحًا، فإنه يقتضي تحديدَ تاريخين تكتنفُ كلًا منهما بعضُ الصعوبات، وهما تاريخ الحمل، وبَدْء قابلية الحياة؛ أما تاريخ بدء الحمل، أي تاريخ الإلقاح، فلا يمكن تحديدُه بدقة، سواء سريريًّا أو بالفحوص المخبرية، وكل الوسائل المستعملة تحتمل الخطأ، زيادة أو نقصًا ولو بنِسَب بسيطة( ).
حكم إجهاض الجنين بعد مُضي أربعة أشهر عليه:
اتفق فقهاء المسلمين على أنه لا يجوز إسقاط الحمل بعد أن تنفخ فيه الروح وتدب فيه الحياة، ويعتبر الإسقاط في هذه الحالة جناية على حي، وجريمة يعاقب مرتكبها دنيويًّا وأخرويًّا.
وإذا كان في بقاء الحمل إلى وقت الوضع خطرٌ على حياة الأم بتقرير الأطباء المختصين، ذوي الكفاءة والأمانة، فإنه يباح إسقاطه، بل يجب إذا تعين ذلك لإنقاذ حياة الأم( ).
• لا يجوز إسقاط الحمل في مختلف مراحله إلا لمبرر شرعي، وفي حدود ضيقة جدًّا.
• إن كان الحمل في الطور الأول، وهي مدة الأربعين، وكان في إسقاطه مصلحة شرعية، أو دفع ضرر متوقع، جاز إسقاطه.
أما إسقاطه في هذه المدة خشية المشقة في تربية الأولاد، أو خوفًا من العجز عن تكاليف معيشتهم أو تعليمهم، أو من أجل مستقبلهم، أو الاكتفاء بما لدى الزوجين من أولاد، فغير جائز.
كذلك فإنه لا يجوز إسقاط الحمل إن كان علقة أو مضغة، إلا إذا قررت لجنة طبية موثوقة أن استمراره خطر على سلامة أمه، بأن يخشى عليها الهلاك من استمراره، جاز إسقاطه بعد استنفاد كافة الوسائل لتلافي تلك الأخطار.
• بعد الطور الثالث، وبعد إكمال أربعة أشهر للحمل، لا يحل( ) إسقاطه حتى يقرر جمع من المختصين الموثوقين أن بقاء الجنين في بطن أمه يسبب موتها، وذلك بعد استنفاد كافة الوسائل لإنقاذ حياته( ).
إسقاط الجنين المشوه خلقيًّا:
إذا كان الحمل قد بلغ مائة وعشرين يومًا، لا يجوز إسقاطه( )، ولو كان التشخيص الطبي يفيد أنه مشوه الخلقة، إلا إذا ثبت بتقرير لجنة طبية من الأطباء الثقات المختصين أن بقاء الحمل فيه خطر مؤكد على حياة الأم، فعندئذ يجوز إسقاطه، سواء كان مشوهًا أم لا؛ دفعًا لأعظم الضررين،أما قبل مرور مائة وعشرين يومًا (أربعة أشهر) على الحمل، إذا ثبت وتأكد بتقرير لجنة طبية من الأطباء المختصين الثقات، وبناء على الفحوص الفنية، بالأجهزة والوسائل المختبرية، أن الجنين مشوه تشويهًا خطيرًا، غير قابل للعلاج، وأنه إذا بقي وولد في موعده، ستكون حياته سيئة وآلامًا عليه وعلى أهله، فعندئذ يجوز إسقاطه بناءً على طلب الوالدين، والمجلس إذ يقرر ذلك، يوصي الأطباء والوالدين بتقوى الله، والتثبت في هذا الأمر،والله ولي التوفيق( ).
• إذا ثبت ثبوتًا قطعيًّا بواسطة وسائل الطب الحديثة أن بالجنين عيوبًا وراثية خطيرة، لا تتلاءم مع الحياة العامة، وأنها تسري بالوراثة في سلالته، فإنه يجوز إجهاض هذا الجنين بشرط أن يكون ذلك قبل مرور أربعة أشهر على هذا الجنين في بطن أمه.
حكم إجهاض جنين الاغتصاب:
معنى الاغتصاب: أخذ الشيء قهرًا وظلمًا،والمراد بالاغتصاب هنا: إكراه المرأة على الزنا.
إن جنين الإغتصاب أثر من آثار فعل المغتصب الصائل (الظالم)، وثمرة من ثمراته. والاغتصاب بمعنى هتك العرض والإتيان بالفاحشة ظلمًا وقهرًا، جريمة مغلظة، تجمع بين ارتكاب فاحشة الزنا، التي هي كبيرة من الكبائر، وبين إيقاع الظلم والقهر بالمغتصبة، البريئة الشريفة، وهو نوع من البغي الذي اعتبره الإسلام كبيرة أخرى، وصدق الله تعالى حيث قال: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾( ).
وبناءً على ما سبق: فإنه يجوز إجهاض جنين الاغتصاب، وذلك بالضوابط التالية:
أولًا: التأكد من ثبوت حالة الاغتصاب.
ثانيًا: أن يتم الإجهاض بعد الاغتصاب مباشرة.
ثالثًا: ألا يكون الجنين قد نفخت فيه الروح، فإن مر على الجنين أربعة أشهر ونفخت فيه الروح، حرُم إجراء عملية الإجهاض.
رابعًا: يجب أن تتم عملية الإجهاض تحت إشراف طبي مأمون مراعاة لسلامة الأم.
خامسًا: تتم عملية الإجهاض بطلب من الأم المغتصبة أو من ينوب عنها أمام الجهات الحكومية الرسمية للتأكد من حالة الاغتصاب وإثباتها، وتتبع الجاني الظالم الذي اعتدى على هذه المرأة الشريفة( ).
لا مانع شرعًا من العمليات الجراحية التي تجرى للأنثى التي اختطفت وأكرهت على مواقعتها جنسيًّا لإعادة بكارتها، ولا مانع شرعًا من تفريغ ما في أحشائها من نطفة ملوثة للذئب البشري؛ بشرط ألا يكون قد مر على هذا الحمل مائة وعشرون يومًا؛ لأنه لا يحل في هذه الحالة إسقاط الجنين؛ لكونه أصبح نفسًا ذات روح يجب المحافظة عليها، والاعتداء عليها لا يجوز إلا إذا كان استمرار وجوده خطرًا على حياة الأم( ).