الدولة الإسلامية - صحيفة النبأ العدد 515 الافتتاحية: اقعدوا مع القاعدين! من عجائب أقدار الله ...

منذ 2025-10-06
الدولة الإسلامية - صحيفة النبأ العدد 515

الافتتاحية:
اقعدوا مع القاعدين!

من عجائب أقدار الله النافذة وحكمته البالغة المشاهَدة، شدّة التضاد وحدّة التباعد بين سبيل المجاهدين وسبيل المنافقين، فالنفاق عدو الجهاد دوما، وهما خصمان لا يجتمعان أبدا، ومساران لا يتقاطعان مطلقا.

وهذا الواقع لا تكاد تخطئه العين في ساحات الجهاد، فنفور المنافقين من طريق الجهاد لا يكافئه مقدارا ويخالفه مسارا، سوى نفور المجاهدين من النفاق، فلكل فعل ردّ فعل؛ مساو له في المقدار ومعاكس له في الاتجاه، كما يقول أرباب التفسيرات الفيزيائية.

والقاعد عن الجهاد المتخلّف عنه بغير عذر معتبر، تدركه لمّة من النفاق لا محالة! لقوله -صلى الله عليه وسلم- في الحديث الذي أخرجه مسلم: (مَنْ مَاتَ وَلَمْ يَغْزُ، وَلَمْ يُحَدِّثْ بِهِ نَفْسَهُ، مَاتَ عَلَى شُعْبَةٍ مِنْ نِفَاقٍ)، قال النووي في شرحه: "والمراد: أنّ من فعل هذا، فقد أشبه المنافقين المتخلفين عن الجهاد في هذا الوصف، فإنّ ترك الجهاد أحد شعب النفاق". أهـ.

ولشدّة وضوح معالم التباعد بين النفاق والجهاد؛ فإنها تبرز مبكرا حتى قبل أن تبدأ مراحله أو تنطلق قافلته! فقد جعل سبحانه إعداد العدة والأهبة للجهاد؛ دليلا على صدق نيّة طالبه ومريده، وبمفهوم المخالفة، فالقاعد البليد المتثاقل عن الإعداد المتقاعس عن أولى خطوات الجهاد؛ كاذب في سعيه ودعواه وإنْ أفنى عمره يدّعي محبته ووصله، والدليل قوله تعالى: {وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً}. قال القرطبي: "أي: لو أرادوا الجهاد لتأهبوا أهبة السفر، فتركهم الاستعداد دليل على إرادتهم التخلّف". أهـ.

ومن تلبيس إبليس على الناس في هذه الآية، إيهامهم أنها خاصة نزلت في أعيان من المنافقين المتخلّفين عن غزوة تبوك، وأنها مقتصرة عليهم لا تطال غيرهم، وكأنها قصة فردية انتهت بانتهاء زمانها وموت أشخاصها، متناسين أنها قصة تتكرر في واقعنا كل يوم، بل هي آفة عصرنا وبلية زماننا، وقد استفحلت حتى عمّت وطمّت، فتكاثرت جيوش المنافقين وقلت طائفة المجاهدين.

وقد تضمنت الآية السابقة ردودا على أولئك الذين يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم؛ من إرادة الخروج للجهاد دون الإعداد له، فلو كانوا صادقين في دعواهم وإرادتهم إيّاه؛ لتأهّبوا له وبذلوا جهدهم واستفرغوا وسعهم في التهيؤ له وأخذ عدته، ولكنهم لم يفعلوا شيئا من ذلك! فكيف يبغي الجهاد من لا يتأهب له؟! أرأيت لو أن أحدهم همَّ بسفر إلى بلاد أخرى، هل يخرج إليها بغير راحلة ولا زاد؟ وكذلك الجهاد لا يقصده ويحمل رايته إلا من أخذ له أهبته ومهّد له بين يديه، وهذا معلوم شرعا وعقلا ولذا قال: {وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً}.

ثم يخبرنا سبحانه في تمام الآية بالحقيقة المرعبة في قوله: {وَلَٰكِن كَرِهَ اللَّهُ انبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ}، يعني كره الله خروجهم للجهاد لما علمه من فساد أحوالهم، قال الإمام الطبري: "فثقَّل عليهم الخروجَ حتى استخفُّوا القعودَ في منازلهم، واستثقلوا السفر والخروج". أهـ.

أفما تخشى أيها القاعد عن الجهاد المتخلّف عن ميادين الإعداد، أن تكون ممن كره الله انبعاثهم وخروجهم؛ فثبطهم وثقّلهم؟! وكفى بقوله: (فَثَبَّطَهُمْ) زاجرا يقرع سمع المؤمن كقرع الحديد، بل كفى بالآية كلها أن تخلع فؤاده وهو يرى أنها نزلت في المنافقين، وقد نزل منازلهم وقعد مقاعدهم؛ بتخلُّفه عن الإعداد وتقاعسه عن أهبة الجهاد.

أما من كان صادقا في طلب الجهاد تجده يتهم نفسه ولا يعذرها، ويبذل كل الأسباب الموصلة إلى ساحات الجهاد، فلا يُبقِ بابا إليها إلا طرقه، ولا يدع مدخلا إليها إلا ولجه، ولم يتعذر بأعذار القاعدين، فلم يتعلل بزوج أو بنين، ولم يأسره شوق ولا حنين، بل خشي على نفسه سبيل المنافقين، فانطلق يشق طريقه نحو البراءة من شعابهم والخلاص من شرنقتهم، منتصرا على نفسه الأمارة قائدا لها لا مقودا، متجاهلا الشيطان ووساوسه، متجاوزا جميع عوائقه، كما أخبر النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إن الشيطان قعد لابن آدم بأطرقه، فقعد له بطريق الإسلام.. ثم قعد له بطريق الهجرة فقال: تهاجر وتدع أرضك وسماءك.. ثم قعد له بطريق الجهاد فقال: تجاهد فهو جهد النفس والمال، فتقاتل فتُقتل فتُنكح المرأة ويُقسم المال.. فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: فمن فعل ذلك كان حقا على الله عز وجل أن يدخله الجنة) [أحمد].والمتأمل في أحوال القاعدين المتخلّفين عن الإعداد والجهاد، يجد أعذارهم وقيودهم التي تشدهم إلى الأرض وتمنعهم من الخروج للجهاد، كلها لا تخرج عما ذكره الحديث النبوي السابق من الإخلاد لمسقط الرأس الذي سقط بسببه الكثيرون، وحب الدنيا وكراهية الموت، والتعلق بالزوج والولد، فاعلم أنّ ها هنا تتمايز النفوس وتتفاضل الشخوص، وتبرز معادن الرجال ويتغربل الأبطال، فهذا نافر ناج بفضل مولاه، وذلك قاعد محجوب قيّدته سريرته وأقعدته خطاياه.

وفي ذلك قال المجاهد المجرِّب ابن النحاس في المشارع: "هل سبب إحجامك عن القتال، واقتحامك معارك الأبطال، وبخلك في سبيل الله بالنفس والمال؛ إلا طول أمل، أو خوف هجوم أجل، أو فراق محبوب من أهل ومال، أو أخ لك شقيق، أو قريب عليك شفيق، أو ولي كريم، أو صديق حميم، أو حب زوجة ذات حسن وجمال، أو جاه منيع، أو منصب رفيع، أو قصر مشيد، أو ظل مديد، أو ملبس بهي، أو مأكل هني؟! ليس غير هذا يقعدك عن الجهاد". أهـ.

أيها القاعد المتخلّف عن الجهاد، خف على نفسك أن يكون قد كره الله انبعاثك؛ فحرمك بلوغ ساحات الجهاد، بما اقترفته يداك من سوء نية أو فساد طوية أو تقديم فانية على باقية؛ ثم يقال لك توبيخا وتقريعا كما قيل للمتخلّفين عن الجهاد قبلك: {وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ}، يعني اقعدوا مع "المرضى والزمنى، والنساء والصبيان!"، فأي تقريع يفوق هذا؟! وأي نفس أبية ترضى بهذا المقعد؟! الذي تأباه -والله- بعض الحرائر اليوم، ممن يتحرقن لحمل السلاح والمشاركة في الجهاد، بينما يتسابق أشباه الرجال إلى القعود والتدثر في الخدور! في زمان انقلاب المعايير وانتكاس الفطر.

إننا نجد الباحث عن الجهاد بصدق، متأهبا مستنفرا يسابق الريح نحو ساحاته وميادينه، فإن وصل أرض الجهاد ولم يُتح له مباشرة القتال، تجده مكثّرا سواد المؤمنين، مرابطا حارسا ثغور المسلمين، فرِحا بذلك مبتهجا لا يرتاح جسده على فراشه كما يرتاح في ثغره ومرابطته، حتى إذا نادى المنادي حي على الجهاد طار قلبه قبل بدنه وانطلق لا يلوي على شيء قاصدا مرضاة ربه، باذلا له روحه ومهجته، فهل يستوي حال هذا ومن قيل لهم: {اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ}؟! شتان شتان.

فيا طالب الجهاد بحق، ومبتغي مرضاة ربك بصدق، إنّ أمارة صدقك في طلبك ومبتغاك؛ أن تعدّ له عدته وتأخذ له أهبته، فإنْ تأخَّر نفيرك، لم يتوقف إعدادك فتلك عبادة بحد ذاتها، فأعدّ نفسك إيمانيا وشرعيا وبدنيا وأمنيا، فأنت في جهاد ما دمت في الإعداد، ثم اعلم أنّ إخلاص النوايا وإصلاح الطوايا، والصدق مع الله تعالى، هي بريد الوصول إلى أرض الجهاد، وهي أول الإعداد وأوسطه وآخره، وهي ملاكه كله، وهي التي عليها العهدة.



• المصدر:
صحيفة النبأ - العدد 515
السنة السابعة عشرة - الخميس 10 ربيع الآخر 1447 هـ

6873fbeab1767

  • 0
  • 0
  • 5

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً