أعذار المنافقين في التهرب من الجهاد (2) الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ...

منذ 2025-10-08
أعذار المنافقين في التهرب من الجهاد (2)

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه وبعد: ذكرنا سابقا، بعض شبه المنافقين والمرجفين في التهرب من الجهاد وعن أصول تلك الشبه ووجودها في شتى العصور والأزمنة:

الشبهة الخامسة: قالوا: لقد تسببتم في جهادكم بقتل الكثير من الأنفس والأرواح البريئة من (المدنيّين) الكفّار أو من المسلمين الذين فتك بهم الطّيران الصّليبي. فأمّا ما ذكرتم من قتلى الكفّار ممّن تسمّونهم بـ(المدنيّين) فقد أجاز لنا الشّرع كلّ بالغ من الذّكور إذا لم يكن لهم مع إمام المسلمين الشّرعي عهد ولا ذمّة، كما قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم جميع يهود بني قريضة..

وأما قتلى الكفار الأصليين ممّن ليس من أهل القتال من النّساء والأطفال والذمّي وغيرهم فأجاز لنا الشّرع قتلهم في بعض الحالات كاختلاطهم بالمحاربين وعدم القدرة على التّمييز بينهم كما في مسألة التترس.

وأمّا ما ذكرتم من سقوط قتلى من المسلمين جرّاء الطّيران الصّليبي:

فأولاً: أنّ من قتل وقصف هو الذي يلام، أمّا المجاهد الذي امتثل أمر ربّه في قتال أعداء الله فلا يلام على ذلك، والذين يجب أن تتوجه إليهم أصابع اللوم بل بنادق المسلمين وأسلحتهم هم الحكّام الطّواغيت الذين فتحوا بلاد المسلمين للصّليبين ليقيموا فيها قواعدهم وينطلقوا منها لقتل المسلمين وقصفهم.

وثانيًا: أنّ في ترك الدّفاع والقتال لتحكيم شرع الله تسلّط الطّواغيت على رقاب المسلمين وتبديل دينهم، وهذه ضريبة أشدّ فظاعة من القتل قال تعالى: {وَالفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ القَتْلِ...} [البقرة:191] قال ابن كثير "رحمه الله": (ولما كان الجهاد فيه إزهاق النّفوس وقتل الرّجال نبّه الله إلى أنّ ما هم مشتملون عليه من الكفر بالله والصدّ عن سبيله أعظم وأشدّ من القتل). انتهى

أمّا النّوع الثّاني من الشبهات فهي من أمثال التعذر بالأموال والأولاد والنساء، وأمر هذا النّوع أسهل بكثير من النّوع الأول؛ لأنّ الشّبهات أخطر من الشّهوات، فالشّهوات تقود صاحبها في الغالب إلى الكبائر والمعاصي، وأما الشّبهات فتقود صاحبها إلى الكفر عياذًا بالله، ومن أحسن الردود التي ذكرها العلماء: ما ذكره الإمام ابن النحّاس في كتابه النافع مشارع الأشواق،

قال "رحمه الله": "اعلم أيّها الرّاغب عمّا افترض عليه من الجهاد، النّاكب عن سنن التّوفيق والسداد، إنّك قد تعرّضت للطرد والإبعاد، وحرمت -والله- الإسعاد بنيل المراد، ليت شعري هل سبب إحجامك عن القتال، واقتحامك معارك الأبطال، وبخلك في سبيل الله بالنّفس والمال، إلا طول أمل، أو خوف هجوم أجل، أو فراق محبوب من أهل ومال، أو ولد وخدم وعيال، أو أخ لك شقيق، أو قريب عليك شفيق، أو وليّ كريم، أو صديق حميم، أو ازدياد من صالح الأعمال، أو حبّ زوجة ذات حسن وجمال، أو جاه منيع، أو منصب رفيع، أو قصر مشيد، أو ظلّ مديد، أو ملبس بهي، أو مأكل هني ؟!! ليس غير هذا يقعدك عن الجهاد، ولا سواه يبعدك عن ربّ العباد، وتالله ما هذا منك أيها الأخ بجميل، ألا تسمع قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِيْنَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيْلَ لَكُمُ انْفِرُوْا في سَبِيْلِ اللهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلى الأَرْضِ أَرَضِيْتُمْ باِلحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتاَعُ الحَياَةِ الدُّنْيَا في الآخِرَةِ إِلا قَلِيْلٌ..} [التوبة:38].

اصغ لما أملي عليك من الحجج القاطعة، واستمع ما ألقي عليك من البراهين السّاطعة، لتعلم أنه ما يقعدك عن الجهاد سوى الحرمان، وليس لتأخرك سبب إلا النفس والشيطان، أما سكونك إلى طول الأمل، وخوف هجوم الأجل، والاحتراز من الموت الذي لا بد من نزوله، والإشفاق من الطرّيق الذي لا بدّ من سلوك سبيله، فو الله إنّ الإقدام لا ينقص عمر المقدمين، كما لا يزيد الإحجام عمر المستأخرين،
قال تعالى: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ} [الأعراف:34].
وقال أيضا: {وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [المنافقون:11].
وقال جلّ جلاله: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} [العنكبوت:57].

وإنّ للموت لسكرات أيها المفتون، وإنّ هول المطلع شديد ولكن لا تشعرون، وإنّ للقبر عذابا لا ينجو منه إلّا الصّالحون وإنّ فيه لسؤال الملكين الفاتنين: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم:27]، ثم بعد ذلك الخطر العظيم، إمّا سعيدا فإلى النّعيم المقيم، وإمّا شقيّا فإلى عذاب الجحيم، والشّهيد أمِن من جميع ذلك، لا يخشى شيئا من هذه المهالك.وقد قال رسول الله -صلّ الله عليه وسلّم-: "ما يَجِدُ الشّهِيدُ مِنْ مَسّ القَتْلِ إلاّ كَمَا يَجِدُ أحَدُكُمْ مِنْ مَسّ القَرْصَةِ"(الترمذي وابن ماجة). فما يقعدك أيّها الأخ عن انتهاز هذه الفرصة، ثم تجار في القبر من العذاب، وتفوز عند الله بحسن المآب، وتأمن من فتنة السؤال، وما بعد ذلك من الشدائد والأهوال، فالشّهداء أحياء عند ربهم يرزقون، لا خوف عليهم ولا هم يحزنون: فرحين بما آتاهم الله من فضله مستبشرين أرواحهم في جوف طير خضر تسرح في علّيين فكم بين هذا القتل الكريم، وبين الموت الأليم.

لئن كانت الأرزاق قسما مقدرا
فقلة حرص المرء في الرّزق أجمل
وإن كانت الأموال للتّرك جمعها
فما بال متروك به المرء يبخل
وإن كانت الدّنيا تعدّ نفيسة
فقدر ثواب الله أعلى وأنبل
وإن كانت الأبدان للموت أنشئت
فقتل امرئ في اللّه بالسّيف أجمل
انتهى.

والحاصل أن هذا النوع من الشبهات يحتاج أولا إلى زيادة الإيمان في قلوب أصحابها، وكذلك اليقين بموعود الله، بالإضافة إلى المواعظ البالغة التي تنقاد لها القلوب، والمرجع كله إلى توفيق الله للعبد وهدايته.

هذا والله أعلم، وهو الهادي إلى سبيل الرشاد، وصلّ الله وسلّم على نبينا محمّد وعلى آله وصحبه أجمعين.



• المصدر:
صحيفة النبأ - العدد 154
الخميس 23 صفر 1440 هـ

6873fbeab1767

  • 0
  • 0
  • 5

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً