مقال - الابتلاء باب للاصطفاء إنّ من سنن الله سبحانه أن يبتلي المؤمنين، ويزيد في ابتلائهم بحسب ...

منذ 2025-10-14
مقال - الابتلاء باب للاصطفاء

إنّ من سنن الله سبحانه أن يبتلي المؤمنين، ويزيد في ابتلائهم بحسب ارتفاع مراتبهم، وذلك لينقّيهم وليؤدبهم فيكونوا بذلك أقوى إيماناً وأزكى نفساً وأصلب عوداً، ثم يكونوا أهلاً لاصطفاء الله لهم، فتسهل عندهم حينها حمل الأمانات الثقال، فيصبحوا قادرين على مواجهة المهام الجسام، فقد قرن سبحانه منحة الاصطفاء مع سنة الابتلاء، وجعل لعباده الصابرين على ابتلائه لهم، عوامل مثبتة ومسارات يسيرون عليها ووعوداً وعدهم بها، وقد ذكر الله سبحانه وتعالى الابتلاء في آيات كثيرة حيث قال:
[الملك:2] {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ}.

وفي الحديث: عن مصعب بن سعد، عن أبيه، قال: قلت: يا رسول الله، أي الناس أشد بلاء؟ قال: (الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل، فيبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان دينه صلبا اشتد بلاؤه، وإن كان في دينه رقة ابتلي على حسب دينه، فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض ما عليه خطيئة) [سنن الترمذي].

وممّا لا شك فيه أنّ الكل منا يعرف ما جرى لجماعة المسلمين يوم حوصروا في شِعب أبي طالب وما مسّهم من جوع وألم وحيرة، فكان حال المسلمين يصعب وصفه، إذ نحلت الأجساد وذبلت الأكباد وقرقرت البطون وظمِئت الأجواف، أطفال يصرخون وشيوخ يئنون ومرضى يتألمون ورجال ونساء حائرون، فقد كانت هذه أول تجربة شاملة لجماعة المسلمين عامة ولرسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة، حيث دامت مدة الحصار ثلاث سنين، فأخذ الجوع مأخذاً من المسلمين لحدٍ لا يكاد يصدّق، ولعل موقفاً من مواقف أحد الصحابة الذين حوصروا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يصور لنا ولو شيئاً من تلك الأيام، فهذا سعد بن أبي وقاص يقول: خرجت في ليلة لأقضي حاجتي فسمعت قرقعة تحت البول فحفرت فاذا هي قطعة يابسة من جلد بعير، فأخذتها فغسلتها ثم رضضتها وسففتها بالماء فتقويت بها ثلاث ليال، وهذه القصة كفيلة أن تعزينا فيما يجري من شدائد وابتلاءات وتكون من عوامل القوة للمسلم إذا ما أراد أن يثبت وينظر للابتلاء من منظور التأديب له والترويض لنفسه، وتستمر مسيرة الابتلاء، وهذه وقفة أخرى مع يوم من أيام الله ألا وهو يوم الأحزاب، ذلك اليوم الذي جعله الله مثلاً لشدة الابتلاء، إذ وصف سبحانه حال المؤمنين في قوله:
{هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا} [الأحزاب:11]، وقد تختلف الابتلاءات في هذا الموقف على أوجه كثيرة، منها ضعف القوة والحصار والجوع وخيانة الحلفاء، زيادة على ذلك انحسار الرقعة الجغرافية لتواجد المسلمين، وهنا بلغ ابتلاء المسلمين الذروة، فقد أدركت الطائفة المؤمنة أنها قد وصلت إلى مفترق مهم يميزهم عمّن ادعى الإيمان، ففي الوقت الذي نعق به المنافقون وبدءُوا يخذلون وينشرون أراجيفهم في صفوف المسلمين، وما أشبه اليوم بالأمس! ولكن ما كان من المؤمنين إلا أن قالوا كما في قوله تعالى:
{وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا}[الأحزاب:22].


• محنة ومنحة

وهنا تبدأ منحة الاصطفاء، ويكرّم الله عباده بجنود لم يكونوا بالحسبان، فكانت العناية الربانية واضحة، إذ لم يكن للسيف أي صوت في حسم المعركة، فكان جندي الريح يصول ويجول، يقتلع الخيام ويكفئ القدور ويشرد جموع الكافرين، لتنقلب الكفة لصالح المؤمنين، وكيف لا! وقد ذكر الله تعالى أيضاً الاصطفاء الذي يكون بعد انقضاء الابتلاء ويكون نتيجة الصبر على هذا الابتلاء في آيات عديدة فقال تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا...} [فاطر:32].


• إنما النصر من عند الله

فمن أشدّ صور الابتلاء هو الاستضعاف من قبل العدو، فمن الممكن أن يكون عدوك يمتلك من الإمكانيات والعوامل التي تجعل قتاله أو الوقوف بوجهه أشبه بالمستحيل، وهذا تقريبا حال المؤمنين في كل زمان، وقد بين الله تعالى لنا ما جرى للذين آمنو به وصدّقوا رسله من الاستضعاف على مرّ العصور فقال تعالى: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ}[القصص:4] وهنا نرى أنّ استضعاف فرعون لتلك الطائفة كان وجهاً من أوجه الابتلاء، فما كان لتلك الطائفة أي إمكانية للوقوف في وجه فرعون، وهنا قطعت أسباب الأرض وأصبحت تلك الطائفة مجردة من جميع الإمكانيات، وهنا أيضاً يأتي دور الاصطفاء والنجاة بعد الصبر والتنقية، فيقول الله تعالى: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ، وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ} [القصص:6،5]

وهنا تتجسد المنّة والاصطفاء بالإمامة والوراثة والتمكين مع هلكة عدوهم واندحاره، وللإمام ابن القيم قول في هذا الصدد عندما سئل ما الحكمة من ابتلاء الأنبياء؟ فقال: فإنه سبحانه كما يحمي الأنبياء ويصونهم ويحفظهم ويتولاهم فيبتليهم بما شاء من أذى الكفار لهم ليستوجبوا كمال كرامته وليتسلى بهم من بعدهم من أممهم وخلفائهم إذا أوذوا من الناس فرأوا ما جرى على الرسل والأنبياء فصبروا ورضوا وتأسوا بهم، ولتمتلئ صاع الكفار فيستوجبون ما أعد الله لهم من النكال العاجل والعقوبة الآجلة فيمحقهم بسبب بغيهم وعداوتهم ويعجل في تطهير الأرض منهم. وقال أيضاً "فإذا تأملت حكمته سبحانه فيما ابتلى به عباده وصفوته فيما ساقهم به إلى أجلّ الغايات وأكمل النهايات التي لم يكونوا يعبروا إليها إلا على جسر الابتلاء والامتحان، وكان ذلك الابتلاء والامتحان عين الكرامة في حقهم، فصورته صورة ابتلاء وامتحان وباطنه فيه الرحمة والمنّة، فكم لله من نعمة جسيمة ومنّة عظيمة تجنى من قطوف الابتلاء"، انتهى كلامه "رحمه الله".

وبعد هذا كله يجب على المسلم الموحد الذي رضي بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً ورسولاً أن لا يساورنّه الشك في أن ما يجري اليوم لمن سار على النهج النبوي من حصار وانحسار وعجز العدة وقلّة المؤن، إنما هو امتحان من الله سبحانه، وإنما هي أيام من أيام الله، وينبغي على كل مؤمن أن يري الله تعالى منه ما يحب من صبر واحتساب وإيمان وتسليم، ويترفع وينأى بنفسه عن الأراجيف والتحدث بكل ما تسمعه أذنه، وأن يسلي نفسه بقول الله تعالى: {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا}[الطور:48] واعلم أنّ وعد الله حق وأنّ دابر الكفار مقطوع بإذن الله وأنّ الله ناصر دينه بنا أو بغيرنا، وليكن شكرنا لله على أن اصطفانا قبل أن يبتلينا سبحانه، فقد فضّلنا على كثير من خلقه بأن جعلنا مسلمين، وانتقانا من بين أهل التوحيد فجنّدنا للدفاع عن دينه، ومنّ علينا أن ثبّتنا بعد كل هذه المصاعب والشدائد، والتي كانت كفيلة بانتكاس الكثير، فما بقي إلا أن ننتظر موعود الله ونسير على خطى من سبقنا من سلفنا الصالح، ولا ننسى أنّ أعمالنا بين القبول والرد، ولا يسعنا إلا أن نصدق مع الله ونسأله أن يتقبّل منا صالحها ويتجاوز عن سيئها، فحينئذٍ نكون جديرين باصطفاء الله سبحانه لنا. فالحمد لله الذي ابتلى وامتحن، والحمد لله الذي اصطفى ومكّن، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.



• المصدر:
صحيفة النبأ - العدد 160
الخميس 6 ربيع الثاني 1440 هـ

683b4c4f96693

  • 0
  • 0
  • 11

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً