اليقين بوعد الله ربّ العالمين الحمد لله وليّ الموقنين والصلاة والسلام على النبي الأمين وعلى آله ...

منذ 17 ساعة
اليقين بوعد الله ربّ العالمين

الحمد لله وليّ الموقنين والصلاة والسلام على النبي الأمين وعلى آله وصحبه الغر الميامين، أما بعد:

فإن اليقين هو الاعتقاد الجازم الثابت المطابق للواقع.
قال ابن تيمية رحمه الله: "وأما اليقين فهو طمأنينة القلب، واستقرار العلم فيه" [مجموع الفتاوى].

وقال ابن القيم رحمه الله تعالى: "ومن منازل {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} منزلة اليقين، وهو من الإيمان منزلة الروح من الجسد، وبه تفاضل العارفون، وفيه تنافس المتنافسون، وإليه شمّر العاملون، وعمل القوم إنما كان عليه، وإشاراتهم كلها إليه... فاليقين روح أعمال القلوب التي هي أرواح أعمال الجوارح، وهو حقيقة الصّدّيقيّة، وهو قطب هذا الشأن الذي عليه مداره". ا.ه [المدارج].

وقال ابن تيمية رحمه الله تعالى: "واليقين: استقرار الإيمان في القلب علما وعملا، فقد يكون علم العبد جيدا، لكن نفسه لا تصبر على المصائب بل تطيش، قال الحسن البصري رحمه الله تعالى: إذا شئت أن ترى بصيرا لا صبر له رأيته، وإذا شئت أن ترى صابرا لا بصيرة له رأيته، فإذا رأيت بصيرا صابرا فذاك" ا.ه [جامع المسائل].

- مراتب اليقين
واليقين له ثلاث مراتب:
1- علم اليقين.
2- حق اليقين.
3- عين اليقين.

قال ابن تيمية رحمه الله تعالى: "علم اليقين ما علمه بالسماع والخبر والقياس والنّظر، وعين اليقين ما شاهده وعاينه بالبصر، وحق اليقين ما باشره ووجده وذاقه وعرفه بالاعتبار، فالأولى مثل من أخبر أن هناك عسلا وصدق المخبر، أو رأى آثار العسل فاستدل على وجوده، و"الثاني" مثل من رأى العسل وشاهده وعاينه، وهذا أعلى كما قال النّبي صلى اللّه عليه وسلم: (ليس المخبر كالمعاين)، و"الثالث" مثل من ذاق العسل ووجد طعمه وحلاوته، ومعلوم أن هذا أعلى مما قبله... كما قال النبي صلى اللّه عليه وسلم في الحديث الصّحيح: (ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما ومن كان يحب المرء لا يحبه إلا لله ومن كان يكره أن يرجع إلى الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يلقى في النار) وقال صلى الله عليه وسلم (ذاق طعم الإيمان: من رضي بالله ربًا وبالإسلام دينا وبمحمد رسولًا) فالناس فيما يجده أهل الإيمان ويذوقونه من حلاوة الإيمان وطعمه على ثلاث درجات".ا.ه [الفتاوى، باختصار].


- من ثمار اليقين

واعلم أخي بارك الله فيك أن أهل اليقين يمتازون عن غيرهم بأمور ذكرها الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز منها:

أنّهم إن جمعوا إلى يقينهم الصبر حصلوا على مرتبة عظيمة وهي الإمامة في الدّين، كما قال تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة، 24].

قال ابن كثير رحمه الله تعالى: "أي: لما كانوا صابرين على أوامر الله وترك نواهيه وزواجره وتصديق رسله واتّباعهم فيما جاؤوهم به، كان منهم أئمة يهدون إلى الحق بأمر اللّه، ويدعون إلى الخير، ويأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر".ا.ه [التفسير]، وقال رحمه الله تعالى: "وقال بعض العلماء: بالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين" [التفسير]، وقال ابن القيم رحمه الله: "وإذا تزوج الصبر باليقين: ولد بينهما حصول الإمامة في الدين". ا.ه [المدارج].

ومنها انتفاعهم بآيات الله تعالى وحججه، قال عزّ وجلّ: {وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ} [الذاريات:20].

قال الإمام الطبري رحمه الله تعالى: "وفي الأرض عبر وعظات لأهل اليقين بحقيقة ما عاينوا ورأوا إذا ساروا فيها".ا.ه [تفسير الطبري].

قال ابن القيم رحمه الله تعالى: "وخصّ سبحانه أهل اليقين بالانتفاع بالآيات والبراهين" ا.ه [المدارج].

ومن فوائد اليقين وثماره أن أصحابه هم المهتدون الفائزون قال تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ * أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [البقرة: 6،5].

قال الإمام الطبري رحمه الله تعالى: "فأخبر أنهم هم أهل الهدى والفلاح خاصة دون غيرهم، وأن غيرهم هم أهل الضلال والخسارة" ا.ه [تفسير الطبري].

قال ابن كثير رحمه الله تعالى: "يقول اللّه تعالى: {أولئك} أي: المتّصفون بما تقدّم: من الإيمان بالغيب، وإقام الصلاة، والإنفاق من الذي رزقهم اللّه، والإيمان بما أنزل الله إلى الرسول ومن قبله من الرسل، والإيقان بالدار الآخرة، وهو يستلزم الاستعداد لها من العمل بالصّالحات وترك المحرمات، {على هدى} أي: نور وبيان وبصيرة من الله تعالى، {وأولئك هم المفلحون} أي: في الدنيا والآخرة".ا.ه [التفسير].

وقال ابن القيم رحمه الله تعالى: "وخص أهل اليقين بالهدى والفلاح من بين العالمين،... وأخبر عن أهل النار: بأنهم لم يكونوا من أهل اليقين، فقال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لَا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُمْ مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ}" ا.ه [المدارج].

ومن فوائد اليقين أن صاحبه ثابت لا يعتريه شك ولا يصيبه تردد بل يحمله اليقين على مباشرة الأهوال وركوب الأخطار.

ففي الصحيحين عن أنس رضي اللّه عنه، قال: غاب عمي أنس بن النضر عن قتال بدر، فقال: يا رسول الله غبت عن أول قتال قاتلت المشركين، لئن الله أشهدني قتال المشركين ليرين الله ما أصنع، فلما كان يوم أحد، وانكشف المسلمون، قال: اللهم إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء - يعني أصحابه - وأبرأ إليك مما صنع هؤلاء - يعني المشركين - ثم تقدم، فاستقبله سعد بن معاذ، فقال: يا سعد بن معاذ، الجنة ورب النّضر إني أجد ريحها من دون أحد، قال سعد: فما استطعت يا رسول الله ما صنع، قال أنس: فوجدنا به بضعا وثمانين ضربة بالسيف أو طعنة برمح، أو رمية بسهم ووجدناه قد قتل وقد مثل به المشركون، فما عرفه أحد إلا أخته ببنانه قال أنس: كنا نرى أو نظن أن هذه الآية نزلت فيه وفي أشباهه: {مِنَ المُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} الآية [الأحزاب: 23].

وقال ابن القيم رحمه الله تعالى: "ومتى وصل اليقين إلى القلب امتلأ نورا وإشراقا، وانتفى عنه كل ريب وشك وسخط، وهم وغم، فامتلأ محبة لله، وخوفا منه ورضا به، وشكرا له، وتوكلا عليه، وإنابة إليه. فهو مادة جميع المقامات والحامل لها" ا.ه [المدارج].


- التوصّل إلى اليقين

فإن قلت فكيف أتحصّل على اليقين؟ قلنا قد ذكر ذلك ابن تيمية رحمه الله تعالى بقوله: "وأما كيف يحصل اليقين فبثلاثة أشياء: أحدها: تدبّر القران، والثاني: تدبر الآيات التي يحدثها الله في الأنفس والآفاق التي تبيّن أنه حق، والثالث: العمل بموجب العلم قال تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} والضمير عائدٌ على القران" [مجموع الفتاوى].

فاجتهد أخي المبارك في تحصيل هذه المنازل السامقة الرفيعة بتعلّم العلم النافع والتدبّر في آيات الله العظيم والعمل بها فإنّ اليقين يزيد وينقص، وإيّاك وسلوك مسلك الساهين اللاهين والوقوف في مقام المغترّين، والتلّبس بأحوال البطّالين الذين ركنوا إلى أنفسهم وساروا مع أهوائهم ولم يتداركوا أحوالهم ولم يقدموا لآخرتهم نسوا الله فنسيهم..

واقتد بالموقنين بوعد ربهم من الصحابة ومن بعدهم فقد بذلوا أرواحهم طيبة بذلك قلوبهم فرحين مستبشرين بوعد خالقهم فهذا أنس بن النضر رضي الله عنه يقول: إنّي لأجد ريح الجنة دون أحدٍ، وذا عمير بن الحمام الأنصاري رضي الله عنه يقول: "لئن أنا حييت حتّى آكل تمراتي هذه إنها لحياة طويلة"، ورمى بما كان معه من التمر، ثم قاتلهم حتّى قتل [رواه مسلم].

وهذا عمرو بن الجموح رضي الله عنه يخرج في غزوة أحد وهو يقول: "والله إنّي لأرجو أن أستشهد فأطأ بعرجتي هذه في الجنة" [رواه البيهقي].

فكن موقنا بوعد ربك باذلا له نفسك صابراً محتسبا على طريقك وإن كنت في جوف المحنة فإنّ الله تعالى سينجز لك الوعد.

قال الله سبحانه وتعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا} [النور: 55].


• المصدر:
صحيفة النبأ - العدد 171
الخميس 23 جمادى الآخرة 1440 هـ

683b4f9a9ea34

  • 0
  • 0
  • 3

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً