رِحْلَةٌ فِي فِقْهِ النُّصُوصِ: قَوَاعِدُ ذَهَبِيَّةٌ لِطَالِبِ العِلْمِ فِي زَمَنٍ تَتَلَاطَمُ ...

منذ 2025-10-28
رِحْلَةٌ فِي فِقْهِ النُّصُوصِ: قَوَاعِدُ ذَهَبِيَّةٌ لِطَالِبِ العِلْمِ

فِي زَمَنٍ تَتَلَاطَمُ فِيهِ أَمْوَاجُ الشُّبُهَاتِ وَتَتَعَدَّدُ المَسَالِكُ، يَظَلُّ طَلَبُ العِلْمِ الشَّرْعِيِّ وَالتَّبَحُّرُ فِي العِلْمِ مِنْ أَجَلِّ الأَمَانَاتِ وَأَعْظَمِ الدَّرَجَاتِ الَّتِي يَسْعَى إِلَيْهَا العَبْدُ. إِنَّهَا دَعْوَةٌ صَادِقَةٌ لِكُلِّ سَالِكٍ فِي هَذَا الدَّرْبِ النَّبِيلِ لِيَتَسَلَّحَ بِالْمَنْهَجِيَّةِ الصَّحِيحَةِ، وَيَقْتَدِيَ بِسَلَفِ الأُمَّةِ الصَّالِحِ، فَلَا يَضِيعَ بَيْنَ دَعَوَاتِ التَّبْسِيطِ المُخِلِّ أَوِ التَّعْقِيدِ المُفْرِطِ.
المَسَارُ النَّبِيلُ لِطَلَبِ العِلْمِ
لَا شَيْءَ يَرْفَعُ العَبْدَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ مِثْلَ العِلْمِ المَقْرُونِ بِالْعَمَلِ وَالإِخْلَاصِ. لَطَالَمَا كَانَ الْعُلَمَاءُ الْعَامِلُونَ المُقْتَدُونَ بِالسَّلَفِ الصَّالِحِ هُمْ سَادَةَ طَرِيقِ الْهِدَايَةِ، وَبِهِمْ تَرْتَقِي الْأُمَّةُ.
إِنَّ الدَّعْوَةَ إِلَى اللَّهِ لَا تَسْتَقِيمُ إِلَّا بِالْعِلْمِ المُسْتَنْبَطِ مِنَ الكِتَابِ وَالسُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ، كَمَا كَانَ مَنْهَجُ السَّلَفِ الكِرَامِ.
التَّارِيخُ يَشْهَدُ أَنَّ الْإِسْلَامَ لَمْ يَسُدْ فِي بَلَدٍ إِلَّا بِوُجُودِ كَوْكَبَةٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ الرَّبَّانِيِّينَ، فَقَدْ كَانَ كِبَارُ الْأَئِمَّةِ يَرْحَلُونَ لِسَنَوَاتٍ طَوِيلَةٍ، وَيَلْقَوْنَ المِئَاتِ بَلِ الْآلَافَ مِنَ المَشَايِخِ، لِجَمْعِ الْعِلْمِ وَتَحْصِيلِهِ. هَذَا المَسَارُ لَا يَتَحَقَّقُ بِمُجَرَّدِ الْحَمَاسِ وَإِثَارَةِ العَوَاطِفِ، بَلْ بِالصَّبْرِ وَالمُثَابَرَةِ فِي حَلَقَاتِ الْعِلْمِ.
وَلِلَّهِ الْحَمْدُ، نَرَى اليَوْمَ بَارِقَةَ أَمَلٍ فِي شَبَابِ الْأُمَّةِ العَائِدِ لِلتَّمَسُّكِ بِشَرَائِعِ الْإِسْلَامِ، يَسْعَوْنَ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ.
وَهَذِهِ السِّلْسِلَةُ مِن المَقَالاتِ، مَا هِيَ إِلَّا عَوْنٌ لِلْمُبْتَدِئِينَ وَدَافِعٌ لَهُمْ وَتَصْوِيبَاتٌ لِبَعْضِ غَفَلَاتِهِمْ، وَتَذْكِرَةٌ لِلْمُنْتَهِي.
هَذَا الْجَهْدُ المُبَارَكُ هُوَ خُلَاصَةُ رَسَائِلَ وَمَسَائِلَ مُسْتَقِلَّةٍ، اسْتُخْلِصَتْ مَادَّتُهَا مِنْ أَئِمَّةِ هَذَا الزَّمَانِ المَشْهُودِ لَهُمْ بِالْفَضْلِ وَالْعِلْمِ وَاتِّبَاعِ مَنْهَجِ السَّلَفِ الصَّالِحِ، وَمِمَّا أَوْدَعَهُ السَّابِقُونَ فِي كُتُبِهِمْ.

🔍 اسْتِكْشَافُ مَنَاهِجِ الْعُلَمَاءِ: ابْنُ حَزْمٍ وَابْنُ تَيْمِيَةَ (كنِمَوذَج)
مِنَ الْأَهَمِّيَّةِ بِمَكَانٍ لِطَالِبِ الْعِلْمِ أَنْ يَتَعَرَّفَ عَلَى مَنْهَجِ العَالِمِ الَّذِي يَقْرَأُ لَهُ أَوْ يَدْرُسُ عَلَى يَدَيْهِ، فَلِكُلِّ عَالِمٍ مَنْهَجٌ فِي الِاسْتِدْلَالِ وَالتَّرْجِيحِ، هَذَا يَظْهَرُ فِي الْفُرُوعِ الْفِقْهِيَّةِ وَهُو المَقصُود هُنَا، أَمَّا فِي مَسَائِلِ الدِّينِ الكُبْرَى (الْأُصُولِ وَالِاعْتِقَادِ)، فَمَنْهَجُ العَالِمِ يَكُونُ أَوْضَحَ وَأَكْثَرَ تَمَيُّزًا.
لِنَأْخُذْ نَمُوذَجَيْنِ عَظِيمَيْنِ لِنَفْهَمَ هَذَا التَّبَايُنَ:
1. النَّمُوذَجُ الْأَوَّلُ: الْإِمَامُ ابْنُ حَزْمٍ الظَّاهِرِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ
كَانَ الْإِمَامُ ابْنُ حَزْمٍ قِمَّةً فِي العِلْمِ وَجَلَالَةِ القَدْرِ، تَمَيَّزَ بِجُرْأَتِهِ فِي قَوْلِ الْحَقِّ وَحِرْصِهِ عَلَى اتِّبَاعِ الدَّلِيلِ وَلَوْ خَالَفَ رَأْيَ كِبَارِ الْأَئِمَّةِ. لَكِنْ مِمَّا يُؤْخَذُ عَلَيْهِ إِنْكَارُهُ لِلْقِيَاسِ وَجُمُودُهُ أَحْيَانًا عَلَى ظَاهِرِ النُّصُوصِ. وَقَدْ رَدَّ عَلَيْهِ كَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ فِي ذَلِكَ، كَابْنِ الْقَيِّمِ فِي كِتَابِهِ "إِعْلَامُ المُوَقِّعِينَ".
مَنْهَجُ ابْنِ حَزْمٍ هُوَ الْأَخْذُ بِظَاهِرِ النُّصُوصِ، وَهُوَ أُسْلُوبُ أَهْلِ الْحَدِيثِ. لَكِنَّ الجُمُودَ عَلَيْهِ أَحْيَانًا كَانَ مَحَلَّ نَقْدٍ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يُؤَدِّي إِلَى الْخَطَأِ. وَمَعَ ذَلِكَ، وَضَعَ ابْنُ حَزْمٍ قَوَاعِدَ عَظِيمَةً أَدَّتِ الْغَفْلَةُ عَنْهَا إِلَى أَخْطَاءٍ وَتَنَاقُضَاتٍ لَا حَصْرَ لَهَا، مِثْلَ قَاعِدَةِ وُجُوبِ الْأَخْذِ بِالزَّائِدِ فِي الْأَحْكَامِ. لَقَدْ كَانَ رَحِمَهُ اللَّهُ حَرِيصًا عَلَى تَقْدِيمِ الدَّلِيلِ عَلَى آرَاءِ الرِّجَالِ، مَهْمَا بَلَغَتْ مَكَانَتُهُمْ.
2. النَّمُوذَجُ الثَّانِي: شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ
كَانَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَةَ بَحْرًا لَا سَاحِلَ لَهُ فِي العِلْمِ. وَقَدْ نَقَلَ الذَّهَبِيُّ أَنَّ فَتَاوَاهُ بَلَغَتْ ثَلَاثَمِائَةِ مُجَلَّدٍ وَأَكْثَرَ! تَمَيَّزَتْ مَنْهَجِيَّةُ ابْنِ تَيْمِيَةَ فِي الِاسْتِدْلَالِ وَالتَّرْجِيحِ بِجَمْعِ النُّصُوصِ، حَيْثُ كَانَ يَجْمَعُ بَيْنَهَا بَيْنَمَا يُرَجِّحُ غَيْرُهُ نَصًّا عَلَى آخَرَ أَوْ يَأْخُذُ بِنَصٍّ وَيُهْمِلُ آخَرَ.
كَانَ ابْنُ تَيْمِيَةَ يُولِي اهْتِمَامًا كَبِيرًا بِآثَارِ الصَّحَابَةِ وَمَذَاهِبِ الْعُلَمَاءِ، فَمَعْرِفَة ذَلك أَمْرٌ جَوْهَرِيٌّ لِمَنْ أَرَادَ فَهْمَ الكِتَابِ وَالسُّنَّةِ عَلَى الْوَجْهِ الصَّحِيحِ. فَالصَّحَابَةُ عَاصَرُوا التَّنْزِيلَ، وَشَاهَدُوا وَعَرَفُوا مِنْ دَلَالَاتِ الْحَالِ مَا لَمْ يَطَّلِعْ عَلَيْهِ غَيْرُهُمْ.
مَوْقِفُهُ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ النُّصُوصِ يَظْهَرُ فِي مَسَائِلَ عَدِيدَةٍ، مِنْهَا مَسْأَلَةُ اسْتِحْبَابِ الْوُضُوءِ مِنْ مَسِّ المَرْأَةِ، حَيْثُ جَمَعَ بَيْنَ النُّصُوصِ الَّتِي ظَاهِرُهَا التَّعَارُضُ، وَرَأَى أَنَّ المَسَّ يَكُونُ أَعَمَّ مِنَ الْجِمَاعِ.
وَقَدْ وَضَعَ قَوَاعِدَ مُهِمَّةً يَحْتَاجُهَا طَالِبُ الْعِلْمِ، مِثْلَ تَقْدِيمِ الْعَامِّ المَحْفُوظِ عَلَى المَخْصُوصِ عِنْدَ تَعَارُضِ نَصَّيْنِ عَامَّيْنِ.

📜 مَا وَرَاءَ ظَاهِرِ الكَلِمَاتِ: فِقْهُ النُّصُوصِ وَمَخَاطِرُهَا
إِنَّ فِقْهَ النُّصُوصِ هُوَ فَهْمُ الشَّرِيعَةِ بِأَدِلَّتِهَا السَّمْعِيَّةِ. هَذَا الْفَهْمُ يَجِبُ أَلَّا يَكُونَ بِمُجَرَّدِ العَقْلِ أَوِ القَوَاعِدِ اللُّغَوِيَّةِ الْعَامَّةِ، بَلْ بِجَمْعِ النُّصُوصِ مِنَ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ وَالْآثَارِ السَّلَفِيَّةِ فِي المَسْأَلَةِ الْوَاحِدَةِ، ثُمَّ الْخُلُوصِ بِفَهْمٍ صَحِيحٍ لِلنَّصِّ وِفْقَ مَا أَرَادَهُ الشَّارِعُ، مَعَ مُرَاعَاةِ المُجْمَلِ وَالمُبَيَّنِ، وَالْعَامِّ وَالْخَاصِّ، وَالمُطْلَقِ وَالمُقَيَّدِ.
مَا أَكْثَرَ مَا نَسْمَعُ اليَوْمَ مِنْ بَعْضِ المُعَاصِرِينَ مَنْ يَدَّعِي "إِنْزَالَ النُّصُوصِ عَلَى الْوَقَائِعِ" مِنْ خِلَالِ "فِقْهِ الْوَاقِعِ" وَالمُوَازَنَاتِ وَالْأَوْلَوِيَّاتِ وَالتَّغَيُّرِ وَالتَّمَكُّنِ وَالشُّمُولِيَّةِ، زَاعِمِينَ أَنَّ الشَّرِيعَةَ لَا تُفْهَمُ مِنْ ظَوَاهِرِ أَلْفَاظِهَا فَقَطْ.
وَرَغْمَ أَنَّ هَذَا القَوْلَ فِيهِ حَقٌّ وَبَاطِلٌ، إِلَّا أَنَّنَا نَرَى مَنْ يَتَشَدَّقُونَ بِهَذِهِ الشِّعَارَاتِ يُخَالِفُونَ وَيَسْتَهْجِنُونَ طَرِيقَةَ أَهْلِ العِلْمِ الرَّاسِخِينَ فِي فَهْمِ النُّصُوصِ.
مِنَ الْأَمْثِلَةِ عَلَى ذَلِكَ، مَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ النَّبَوِيِّ الشَّرِيفِ الَّذِي يَأْمُرُ بِحثو التُّرَابَ فِي وُجُوهِ المَدَّاحِينَ.
لَقَدْ سَمِعْتُ مَنْ يَدَّعِي أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ لَا يُؤْخَذُ عَلَى ظَاهِرِهِ، مُسْتَعْظِمًا حثوَ الْوَجْهِ بِالتُّرَابِ، قَائِلًا إِنَّ النُّصُوصَ تَحْتَاجُ إِلَى فِقْهٍ قَبْلَ الْعَمَلِ بِهَا. وَهَذَا خَطَأٌ فَادِحٌ، فَفِقْهُ هَذَا النَّصِّ وَغَيْرِهِ مِنْ نُصُوصِ الشَّرِيعَةِ يُعْرَفُ بِاسْتِقْرَاءِ النُّصُوصِ الْأُخْرَى المُبَيِّنَةِ وَالمُوَضِّحَةِ، وَإِعْمَالِ قَاعِدَةِ "جَرَيَانِ العَمَلِ" كَمَا فَعَلَ السَّلَفُ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ.

⚖ الْفَرْقُ بَيْنَ السُّنَّةِ وَالْبِدْعَةِ: قَاعِدَةٌ جَوْهَرِيَّةٌ
مِنْ أَهَمِّ الْأُمُورِ الَّتِي يَجِبُ أَنْ يُتْقِنَهَا طَالِبُ الْعِلْمِ هِيَ التَّفْرِيقُ بَيْنَ السُّنَّةِ وَالْبِدْعَةِ، وَأَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَ كَوْنِ الشَّيْءِ فِعْله خِلَاف السُّنَّةِ وَبَيْنَ كَوْنِهِ بِدْعَةً.
هَذَا الخَلْطُ الخَطِيرُ يَنْشَأُ مِنْ عَدَمِ تَنْزِيلِ النَّصِّ العَامِّ عَلَى وَجْهِهِ الصَّحِيحِ.
وَلِتَوْضِيحِ ذَلِكَ نَجِدُ أَنَّ الْإِمَامُ الشَّاطِبِيُّ فِي "الِاعْتِصَامِ" قَسَّمَ الْبِدْعَةَ إِلَى قِسْمَيْنِ:
بِدْعَةٌ حَقِيقِيَّةٌ: لَيْسَ لَهَا شَاهِدٌ فِي الشَّرِيعَةِ، مِثْلُ تَأْوِيلِ الصِّفَاتِ.
بِدْعَةٌ إِضَافِيَّةٌ: وَهِيَ الَّتِي إِذَا نَظَرْتَ إِلَيْهَا مِنْ وَجْهٍ وَجَدْتَهَا مَشْرُوعَةً (لِأَنَّ بَعْضَ العُمُومَاتِ يَشْهَدُ لَهَا)، وَإِذَا نَظَرْتَ إِلَيْهَا مِنْ وَجْهٍ آخَرَ وَجَدْتَهَا بِدْعَةً وَضَلَالَةً.
وَلِذَلِكَ قَدْ تَخْتَلِطُ الْبِدْعَةُ بِالْمَصْلَحَةِ المُرْسَلَةِ عِنْدَ بَعْضِهِمْ.
فَكَانَتِ القَاعِدَةُ فِي التَّفْرِيقِ بَيْنَ الْبِدْعَةِ المَذْمُومَةِ وَالمَصْلَحَةِ المُرْسَلَةِ هِيَ: أَنَّ "مَا وُجِدَ مُقْتَضَاهُ فِي زَمَنِ السَّلَفِ وَلَمْ يَكُنْ هُنَالِكَ مَانِعٌ مِنْ فِعْلِهِ وَلَمْ يَفْعَلُوهُ، فَفِعْلُهُ بِدْعَةٌ وَلَيْسَ مِنَ المَصَالِحِ المُرْسَلَةِ".

🏛 حُجِّيَّةُ قَوْلِ الصَّحَابِيِّ وَالإِجْمَاعِ: أُسُسُ التَّشْرِيعِ
حُجِّيَّةُ قَوْلِ الصَّحَابِيِّ
أَجْمَعَ أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ عَلَى عَدَالَةِ الصَّحَابَةِ جَمِيعًا دُونَ اسْتِثْنَاءٍ. وَقَدِ انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّ قَوْلَ الصَّحَابِيِّ أَوْ فِعْلَهُ، إِذَا احْتَفَّ بِالقَرَائِنِ، هُوَ حُجَّةٌ شَرْعِيَّةٌ.
لَكِنْ إِذَا نَقَلَ الصَّحَابِيُّ حَدِيثًا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ثُمَّ خَالَفَ فِعْلُهُ مَا رَوَاهُ، فَالْأَخْذُ بِرِوَايَتِهِ أَوْلَى، إِلَّا إِذَا كَانَ فِعْلُهُ جَاءَ كَتَفْسِيرٍ لِلنَّصِّ يَصْرِفُهُ عَنْ ظَاهِرِهِ وَاحْتَفَّتْ بِذَلِكَ قَرَائِنُ.
فَهُنَا يُقَالُ: الصَّحَابِيُّ أَدْرَى بِمَرْوِيِّهِ، لِأَنَّهُ شَاهَدَ مَا لَمْ نُشَاهِدْهُ مِنَ الْقَرَائِنِ وَالْأَسْبَابِ.
حُجِّيَّةُ الْإِجْمَاعِ
الْإِجْمَاعُ عِنْدَ الْأُصُولِيِّينَ لَهُ عِدَّةُ مَعَانٍ، وَقَدْ أَجْمَعَ الْأَئِمَّةُ المُحَقِّقُونَ كَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَابْنِ تَيْمِيَةَ عَلَى أَنَّ الْإِجْمَاعَ مَصْدَرٌ مِنْ مَصَادِرِ التَّشْرِيعِ، يَأْتِي مَرْتَبَةً بَعْدَ الكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. وَ يَكُونُ عِنْدَمَا لا يَجِدُ المُجْتَهِدُ نَصًّا مِنَ الكِتَابِ أَوِ السُّنَّةِ فِي قَضِيَّةٍ مَا، وَيَجِدُ رَأْيًا لِلْأَئِمَّةِ المُتَقَدِّمِينَ يُوَافِقُ عَلَيْهِ أَغْلَبُ الْعُلَمَاءِ دُونَ وُجُودِ مُخَالِفٍ بَعْدَ تَقَصٍّ تَامٍّ، فَيَكُونُ هَذَا هُوَ الْإِجْمَاعُ المُعْتَبَرُ.
وأَعْلَى دَرَجَاتِ الْإِجْمَاعِ هُوَ إِجْمَاعُ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ، ثُمَّ إِجْمَاعُ بَاقِي الصَّحَابَةِ. فَالصَّحَابَةُ هُمُ المَعْنِيُّونَ فِي الْآيَةِ الكَرِيمَةِ: ﴿وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَىٰ وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّىٰ وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ ۖ وَسَاءَتْ مَصِيرًا﴾. وَمِنْ هُنَا، وَجَبَ عَلَيْنَا اتِّبَاعُ سَبِيلِهِمْ.
⚠ الْحَدِيثُ الضَّعِيفُ: مَتَى يُعْمَلُ بِهِ وَمَتَى لَا؟
نَقَلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَةَ الْإِجْمَاعَ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ الِاحْتِجَاجِ بِالْحَدِيثِ الضَّعِيفِ فِي الْأَحْكَامِ.
فَلَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يَجْعَلَ الشَّيْءَ وَاجِبًا أَوْ مُسْتَحَبًّا بِحَدِيثٍ ضَعِيفٍ، فَمَنْ قَالَ بِذَلِكَ فَقَدْ خَالَفَ الْإِجْمَاعَ.
لَكِنْ قَدْ جَاءَ عَنْ بَعْضِ الْأَئِمَّةِ جَوَازُ رِوَايَتِهِ فِي بَابِ التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ وَفَضَائِلِ الْأَعْمَالِ.
وَهَذَا لَا يَعْنِي الْعَمَلَ بِالْحَدِيثِ الضَّعِيفِ، بَلِ التَّسَاهُلُ هُنَا يَكُونُ فِي الرِّوَايَةِ مِنْ بَابِ الِاسْتِئْنَاسِ لَا الْعَمَلِ.
فَالْمَقْصُودُ أَنَّ الْعَمَلَ بِالْحَدِيثِ الضَّعِيفِ فِي فَضَائِلِ الْأَعْمَالِ لَا يَكُونُ إِلَّا إِذَا ثَبَتَتْ مَشْرُوعِيَّة ذَلِكَ الْعَمَلِ بِحَدِيثٍ صَحِيحٍ، وَجَاءَ الْحَدِيثُ الضَّعِيفُ لِذِكْرِ فَضَائِلَ لِهَذَا الْفِعْلِ، فَحِينَئِذٍ يُروَى ذَلِك الْحَدِيث الضَّعِيفِ اسْتِئْنَاسًا بِمَا ذُكِرَ فِيهِ، رَجَاءَ أَنْ يَمُنَّ اللَّهُ بِذَلِكَ.
لَكِنْ بِشَرْطِ أَلَّا يَعْتَقِدَ ثُبُوتَ ذَلِكَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لِئَلَّا يُنْسَبَ إِلَيْهِ مَا لَمْ يَقُلْ كَمَا قَرَّرَ ذَلِكَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ وَغَيْرُهُ مِنَ المُحَقِّقِينَ.
وَبِذَلِكَ يَتَّضِحُ خَطَأُ مَنْ فَهِمَ كَلَامَ ابْنِ حَجَرٍ عَلَى غَيْرِ وَجْهِهِ الصَّحِيحِ، فَالتَّعَبُّدُ بِعَمَلٍ يُعْتَقَدُ عَدَمُ ثُبُوتِهِ هُوَ عَيْنُ الْبِدْعَةِ.

🚪 مَا تَرَكَ الْأَوَّلُ لِلْآخِرِ: هَلْ لَا يَزَالُ هُنَاكَ مَجَالٌ لِلْإِضَافَةِ؟
الْعِبَارَةُ الشَّائِعَةُ "مَا تَرَكَ الْأَوَّلُ لِلْآخِرِ شَيْئًا" غَالِبًا مَا تُفْهَمُ عَلَى أَنَّهَا لَا مَجَالَ لِلْإِضَافَةِ وَالِاجْتِهَادِ بَعْدَ السَّابِقِينَ.
لَكِنَّ الْحَقِيقَةَ أَنَّ الْعُلَمَاءَ المُحَقِّقِينَ لَمْ يَأخذوُا بهَذَا الْفَهْمِ، بَلْ يَرَى بَعْضُهُمْ أَنَّ هَذِهِ المَقُولَةَ مِنَ المَعَوِّقَاتِ لِطَالِبِ الْعِلْمِ، لِأَنَّ الْأَوَّلِينَ وَإِنْ تَرَكُوا مُؤَلَّفَاتٍ عَظِيمَةً فِيهَا مِنَ الْعِلْمِ وَالْفِقْهِ مَا شَاءَ اللَّهُ، إِلَّا أَنَّ كَثِيرٌ مِنْهَا فُقدَ فالْبَابَ لَا يَزَالُ مَفْتُوحًا لِلْبَحْثِ وَالتَّدْقِيقِ.
فيَجِبُ عَلَى طَالِبِ الْعِلْمِ أَنْ يَحْرِصَ عَلَى أَقْوَالِ المُتَقَدِّمِينَ، وَأَلَّا يُهْمِلَ أَقْوَالَ المُتَأَخِّرِينَ، بَلْ يَأْخُذَ بمَّا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ، وَلَوْ خَالَفَ فِي ذَلِكَ جُمْهُورَ المُتَقَدِّمِينَ، مَا لَمْ يُجْمِعُوا عَلَى شَيْءٍ. فَالْعِلْمُ لَا نِهَايَةَ لَهُ، وَالْحِكْمَةُ ضَالَّةُ المُؤْمِنِ.

✨ قَوَاعِدُ مُهِمَّةٌ لِلْفَقِيهِ وَالْعَالِمِ: مَنْهَجٌ مُتَكَامِلٌ
إِلَيْكَ بَعْضُ الْقَوَاعِدِ الذَّهَبِيَّةِ لِطَالِبِ الْعِلْمِ:
1. الْبَحْثُ وَالتَّدْقِيقُ: اسْتَدِلَّ ثُمَّ اعْتَقِدْ
مِنْ أَعْظَمِ الْأَخْطَاءِ الَّتِي يَقَعُ فِيهَا بَعْضُ طَلَبَةِ الْعِلْمِ أَنَّهُمْ يَسْلُكُونَ طَرِيقَ الِاعْتِقَادِ أَوَّلًا، ثُمَّ يَبْحَثُونَ عَنِ الْأَدِلَّةِ الَّتِي تُؤَيِّدُ اعْتِقَادَهُمْ. وَالصَّحِيحُ أَنْ تَجْمَعَ كُلَّ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْبَابِ مِنْ أَدِلَّةٍ وَأَقْوَالٍ لِلْعُلَمَاءِ، ثُمَّ تَبْدَأُ بِتَصْفِيَةِ الصَّحِيحِ مِنَ الضَّعِيفِ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِالسُّنَّةِ وَالْآثَارِ، ثُمَّ تَنْظُرُ فِي أَقْوَالِ الْعُلَمَاءِ، وَتَخْتَارُ مِنْهَا مَا كَانَ مُوَافِقًا لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ، وَتُعْرِضُ عَمَّا سِوَاهُ. حِينَئِذٍ، قُلْ: الْآنَ اعْتَقَدْتُ!
2. دَلَالَةُ الْحَالِ: مِفْتَاحُ فَهْمِ الْأَحْكَامِ
المَقْصُودُ بِدَلَالَةِ الْحَالِ هِيَ القَرَائِنُ المُصَاحِبَةُ لِكَلَامِ الشَّارِعِ، أَوْ إِقْرَارِهِ، أَوِ المُوَافَقَةِ عَلَيْهِ، وَغَيْرِهَا مِنْ صُوَرٍ تُعْرَفُ مِنْ حَالِ مَنْ نَزَلَ عَلَيْهِمُ التَّشْرِيعُ. فَبَعْضُ الْأَحْكَامِ تُؤْخَذُ مِنْ إِقْرَارِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهَذَا مَا يَغْفُلُ عَنْهُ كَثِيرٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ. فَدَلَالَاتُ السِّيَاقِ وَالْقَرَائِنُ الدَّالَّةُ عَلَى مُرَادِ المُتَكَلِّمِ هِيَ الَّتِي تَهْدِي إِلَى بَيَانِ المُجْمَلَاتِ وَتَعْيِينِ المُحْتَمَلَاتِ.
3. الْقِيَاسُ: عِنْدَ الضَّرُورَةِ فَقَطْ
لَا يَجُوزُ الِاحْتِجَاجُ بِالقِيَاسِ عَلَى أَمْرٍ تَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى (أَيْ مِمَّا يَحْتَاجُ النَّاسُ إِلَى مَعْرِفَةِ حُكْمِهِ)، إِلَّا عِنْدَ الضَّرُورَةِ. فَالْقِيَاسُ ضَرُورَةٌ عِنْدَ أَهْلِ الْحَدِيثِ. وَذَلِكَ لِأَنَّ الْأَحْكَامَ الشَّرْعِيَّةَ كُلَّهَا مَبْنَاهَا عَلَى النُّصُوصِ الصَّحِيحَةِ. فَإِذَا عَلِمْنَا أَنَّ الرَّسُولَ لَمْ يُحَرِّمْ أَوْ يُوجِبْ شَيْئًا شَائِعًا، عَلِمْنَا أَنَّهُ لَيْسَ بِحَرَامٍ وَلَا وَاجِبٍ.
4. صِحَّةُ الِاسْتِدْلَالِ: جَوْهَرُ الْحُكْمِ
يَقَعُ بَعْضُ طَلَبَةِ الْعِلْمِ فِي الْحُكْمِ فِي المَسَائِلِ بِقَوْلٍ يُرَجِّحُهُ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ، لَكِنَّهُمْ لَا يُوَفَّقُونَ فِي إِصَابَةِ صِحَّةِ الِاسْتِدْلَالِ لِذَلِكَ الْقَوْلِ. فَقَدْ يَكُونُ لِأُولَئِكَ الْعُلَمَاءِ مَلْحَظٌ أَوْ أَنَّهُمْ بَنَوْا قَوْلَهُمْ عَلَى أَمْرٍ لَا يَقُولُ بِهِ غَيْرُهُمْ. مِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ الْخِلَافُ فِي جَوَازِ الصَّلَاةِ فِي أَوْقَاتِ النَّهْيِ. الِاسْتِدْلَالُ لِهَذَا الْقَوْلِ لَا يَكُونُ بِمَا جَاءَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَائِشَةَ حَوْلَ رَكْعَتَيْنِ بَعْدَ العَصْرِ.
5. قَوَاعِدُ الِاسْتِقْرَاءِ: رُؤْيَةٌ شَامِلَةٌ
"عَدَمُ الدَّلِيلِ لَيْسَ دَلِيلًا عَلَى الْعَدَمِ": هَذِهِ القَاعِدَةُ لَيْسَتْ عَلَى إِطْلَاقِهَا. فَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ مِمَّا تَتَوَفَّرُ الدَّوَاعِي لِنَقْلِهِ وَلَمْ يُنْقَلْ، فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِهِ.
"الْعِبْرَةُ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ": هَذِهِ القَاعِدَةُ أَيْضًا لَيْسَتْ عَلَى إِطْلَاقِهَا. فَقَدْ يَكُونُ الشَّارِعُ قَصَدَ التَّخْصِيصَ بِقَرَائِنَ تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ.
"النَّهْيُ يَقْتَضِي الْفَسَادَ": هَذِهِ القَاعِدَةُ لَيْسَتْ عَلَى إِطْلَاقِهَا. فَالنَّهْيُ يَقْتَضِي الْفَسَادَ إِذَا كَانَ يَتَعَلَّقُ بِذَاتِ الشَّيْءِ أَوْ شَرْطِهِ، كَالصَّلَاةِ فِي المَقْبَرَةِ. أَمَّا إِذَا كَانَ لَا يَتَعَلَّقُ بِذَاتِ الشَّيْءِ أَوْ شَرْطِهِ، فَلَا يَقْتَضِي الْفَسَادَ، كَالْبَيْعِ بَعْدَ نِدَاءِ الْجُمُعَةِ.
6. احْتِرَامُ الِاصْطِلَاحِ: لَا تَخْلِطْ بَيْنَ السَّلَفِ وَالمُتَأَخِّرِينَ
مِنَ الْأَخْطَاءِ الَّتِي يَقَعُ فِيهَا بَعْضُ طَلَبَةِ الْعِلْمِ أَنَّهُمْ إِذَا وَقَفُوا عَلَى قَوْلٍ لِلسَّلَفِ فِي مَسْأَلَةٍ، فَهِمُوهُ عَلَى اصْطِلَاحِ المُتَأَخِّرِينَ. وَهَذَا يُؤَدِّي إِلَى مَفَاسِدَ كَثِيرَةٍ. فَكَلِمَةُ "النَّسْخِ" عِنْدَ السَّلَفِ كَانَ لَهَا مَعْنًى أَوْسَعُ مِمَّا هُوَ عَلَيْهِ عِنْدَ المُتَأَخِّرِينَ، حَيْثُ كَانَتْ تَشْمَلُ التَّخْصِيصَ وَالتَّقْيِيدَ وَالتَّفْسِيرَ. هَذَا الْخَلْطُ فِي المُصْطَلَحَاتِ يُورِثُ إِشْكَالَاتٍ كَثيرة.

🤲 دَعْوَةٌ إِلَى الْجِدِّ وَالْإِنْصَافِ
إِنَّ طَرِيقَ الْعِلْمِ طَوِيلٌ وَشَاقٌّ، لَكِنَّهُ مُمْتِعٌ وَذُو أَجْرٍ عَظِيمٍ. فَعَلَى طَالِبِ الْعِلْمِ أَنْ يَظَلَّ مُثَابِرًا، بَاحِثًا عَنِ الْحَقِّ بِأَدِلَّتِهِ، مُتَوَاضِعًا أَمَامَ عِلْمِ اللَّهِ، لَا يَغْتَرَّ بِقَوْلٍ وَلَا يَسْتَنْكِفُ عَنْ تَعَلُّمٍ. نَسْأَلُ اللَّهَ الْعَافِيَةَ وَالسَّلَامَةَ وَالسَّدَادَ.
https://drresni.com
  • 1
  • 0
  • 30

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً