لا يَرَ القوم فيكم غَمِيزَة بيّن الله تعالى لعباده الموحّدين صفة عداوة المشركين والمنافقين لهم، ...

منذ 2025-10-29
لا يَرَ القوم فيكم غَمِيزَة

بيّن الله تعالى لعباده الموحّدين صفة عداوة المشركين والمنافقين لهم، وأخبرهم أنّ من صورها أنّهم لا يودّون أن يروا المسلمين في خير قط، وأنّ ما يصيبهم من خير يحزنهم وما يبتليهم به ربّهم من الشّر يفرحون به، فقال جل جلاله: {مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [البقرة: 105]، وقال سبحانه: {إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} [آل عمران: 120].

وإن الله عزّ وجلّ يحبّ أن يغيظ الكفّار بظهور قوّة المسلمين، وأن تبدو عليهم سيما أهل الإيمان والصّلاح، وأن تتشابه صفاتهم مع صفات القوم المرضيين، كما قال سبحانه: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَہُ فَآزَرَہُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ} [الفتح: 29].


• إلا كتب لهم به عمل صالح

وإنّنا نرى مصداق هذا كلّه في أيّامنا هذه وما نعايشه فيها من أحداث، فالكفّار وأولياؤهم المنافقون في كل مكان يرقبون المعركة بين عباد الله الموحّدين من جنود الدّولة الإسلاميّة وبين أعدائه المشركين من صليبيين ومرتدّين، ويسرّهم أشدّ السّرور أن يروا من المسلمين ضعفا وقلّة.

ويسوء وجوههم أن يروا منهم قوّة وثباتا في جهادهم، ويملأ قلوبهم غيظا أن يسمعوا عن أخبار هجماتهم المستمرّة على الكفّار في مشارق الأرض ومغاربها، ويمزّق أكبادهم أن تكذّب الوقائع أمانيهم بزوال دولة الخلافة وانفراط عقدها، ومجاهدوها يكرّرون على مسامع الدّنيا يوما بعد يوما تجديد بيعتهم لإمامها -حفظه الله تعالى ونصره- على السّمع والطّاعة في المعروف، وعلى إقامة دين الله تعالى، وجهاد عدوّہ سبحانه، لا يغيّرون ولا يبدّلون، ولا يقيلون ولا يستقيلون منها أبدا.

ونسأل الله تعالى أن يجعل كلّ ما يلقاه المجاهدون من نصب ووصب، وكلّ ما يبذلونه من جهد وجهاد للنكاية في المشركين، والصّبر على أذاهم، وما يترتّب على ذلك كلّه من إغاظة لأعداء الله تعالى من جنس ما رتّب سبحانه لفاعله الأجر العظيم، قال ربنا: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [التوبة: 120].

فإدخال الغيظ على قلوب الكافرين هو عبادة يتقرّب بها العبد لمولاه العظيم، وكما أنّ إدخال الفرح والسّرور على قلوب المؤمنين عبادة يحبها سبحانه وتعالى.


• لا يرى القوم فيكم غميزة

وقد حرّض رسول الله صلّى الله عليه وسلّم صحابته الكرام يوم فتح مكة أن يُروا أهلها ما قدّرهم الله تعالى عليه من قوّة، ليَفرح من أحبّ رؤية ذلك منهم، ويُغيظوا من يكره ظهور الإسلام وأهله، ويُكذّبَ من زعم أن في المسلمين ضعفا ومرضا، وحذّرهم أن يَروا منهم أي شيء يعيبونهم به ولو مرضا وجوعا، فقال عليه الصّلاة والسّلام: (لَا يَرَى الْقَوْمُ فِيكُمْ غَمِيزَةً) [رواه أحمد]، ورُوي أنّه قال لهم: (رحم الله من أراهم اليوم من نفسه قوّة)، وقالوا:"وَلَيْسَ فِي فُلَانٍ غَمِيزة وَلَا غَمِيزٌ وَلَا مَغْمَزٌ أَي مَا فِيهِ مَا يُغْمَزُ فَيُعاب بِهِ وَلَا مَطْعَنٌ" [لسان العرب].ففعل الصحابة رضوان الله عليهم ما أُمروا به، حتّى فيما ليسوا مأمورين به لنفسه كالإسراع في طوافهم حول الكعبة، وذلك أنّ هذا الفعل أصبح وسيلة لإتمام مندوب إليه وهو إظهار قوة المسلمين، فعن ابْنِ عَبَّاسٍ"أنّ النّبي صلّى الله عليه وسلّم اضطبع فاستلم وكبّر، ثمّ رمل ثلاثة أطواف، وكانوا إذا بلغوا الركن اليماني وتغيّبوا من قريش مشوا، ثم يطلعون عليهم يرملون، تقول قريش: كأنّهم الغزلان ، قال ابن عباس: فكانت سنّة" [رواه أبو داود]، فالصحابة كانوا يرملون (أي يهرولون) أمام قريش ليُظهروا لهم القوّة، فإن غابوا عن أبصارهم لم يكلّفوا أنفسهم العناء في طوافهم.ويستدلّ بهذه القصّة وغيرها على مشروعية التظاهر بالقوّة أمام العدو، ولو كان من غير داعٍ شرعي آخر، بل ولو كان ذلك خلافا لحقيقة ما عليه المسلمون من ضعف، وما كان مكروها أو محرّما في هذا الباب أصلا قد يصبح مندوبا أو واجبا إليه في حال القتال، كما قال عليه الصّلاة والسّلام: (الخيلاء التي يحب الله اختيال الرّجل في القتال، واختياله في الصّدقة، والخيلاء التي يبغض الله الخيلاء في البغي أو قال: في الفخر) [رواه أحمد].

وحكى ابن حجر العسقلاني رحمه الله اتفاق فقهاء الإسلام على جواز صبغ الشعر بالسواد للمجاهد في الحرب [فتح الباري]، حتّى من رأى منهم حرمة ذلك لنفسه لنص الحديث، أو لغيره كمشابهة أهل الكتاب، أو مخادعة الخاطب والمخطوبة والمشتري للعبد أو الأمة، وذلك لإخفاء مشيب المجاهدين وهو مظهر ضعف، وخداع الأعداء بأن لا يروا أمامهم إلا شبابا أقوياء تُخشى فتوّتهم وترهب صلابتهم في القتال، فيضعفوا عن قتالهم، وقد قال عليه الصّلاة والسّلام: (الحَرْبُ خَدْعَةٌ) [متفق عليه].


• ألا تُجيبوا له

وكان من سنّة الصحابة رضوان الله تعالى عليهم أجمعين، إغاظة الكفّار بإظهار صلابة إيمانهم بالله عزّ وجلّ ورسوله الكريم صلّى الله عليه وسلّم، وقوّة ثباتهم عليه، وعدم مبالاتهم بما يلقونه من العذاب في سبيل ذلك على أيدي المشركين.
فهذا خبيب بني عدي رضي الله تعالى عنه لما حضره القتل صلّى ركعتين ولم يطل فيهما راغبا عن ثواب الصلاة النافلة إلى ما هو أعظم منه وهو إظهار قوّة المسلم، وإغاظة أعداء الله تعالى بذلك، فقال: (لولا أن تروا ما بي جزعا من الموت لزدت) [رواه أحمد]، فكانت هذه العبادة من آخر ما تقرّب به ذلك العبد الصالح إلى باريه ذي الجلال والإكرام، ونسأل الله تعالى أن يجعل كلّ صلاة يصليها مسلم قبل القتل في ميزان حسناته، قال أبو هريرة رضي الله تعالى عنه: "وكان أول من سن الركعتين عند القتل هو".

بل أمر النّبيّ عليه الصّلاة والسّلام أصحابه أن يصدعوا بقوّة الإسلام وعلوه، وهم في أشدّ حالات البلاء، وقد عظمت فيهم الجراح، وكثر فيهم القتل، وهم مختبؤون يخافون أن يجهز عليهم عدوّهم، كما حدث في غزوة أحد.

فقد كان أبو سفيان جعل يستفز الصحابة رضوان الله عليهم بعد المعركة يقول: " أعل هبل، أعل هبل، قال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: (ألا تجيبوا له)، قالوا: يا رسول الله، ما نقول؟ قال: (قولوا: الله أعلى وأجلّ)، قال: إنّ لنا العزى ولا عزى لكم، فقال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: (ألا تجيبوا له؟)، قال: قالوا: يا رسول الله، ما نقول؟ قَالَ: (قولوا الله مولانا، ولا مولى لكم)" [رواه البخاري].

وعلى كل مسلم مجاهد في سبيل الله تعالى، وكل مهاجرة صابرة على بلاء الله، قابضين على جمر دينهم بأياديهم، عاضين على أصل إيمانهم بنواجذهم، معتصمين بجماعة المسلمين، أن يسعوا في إغاظة الكفّار بكلّ مظهر من مظاهر القوّة والصّبر والثبّات، فأروا الله تعالى من أنفسكم ما يحبّ، وأروا المسلمين منكم ما يحبون، وأروا الكفّار منكم ما يكرهون، ولن يصيبنا وإيّاكم إلّا ما كتب الله ربّ العالمين.


• المصدر:
صحيفة النبأ - العدد 172
الخميس 30 جمادى الآخرة 1440 هـ

67944dd38c694

  • 2
  • 0
  • 5

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً