الدولة الإسلامية - قصة شهيد: • أبو أنس الفرنسي ترك الدعوة إلى عبادة الصلبان وطلب القتل في ...
منذ 2025-11-03
الدولة الإسلامية - قصة شهيد:
• أبو أنس الفرنسي
ترك الدعوة إلى عبادة الصلبان
وطلب القتل في سبيل الله تعالى
ولد أبو أنس الفرنسي تقبله الله تعالى في أسرة متمسّكة بدين النصرانيّة، وفتح عينيه على الدّنيا وهو يرى أمّه تدعو إلى هذا الدّين المحرّف، وتملأ منزلهم بصلبان النّصارى وأوثانهم، وتعلّمهم الدّعاء لغير الله تعالى، وعبادته على غير ما يريد سبحانه.
ومنذ أيّام مراهقته صار أبو أنس داعيا إلى هذا الدّين، يجادل أصدقاءه الملحدين ليعيدهم إلى دين آباءهم وأجدادهم، ويردّ على العلمانيين سخريتهم من هذا الدّين، ويعادي أهل الإسلام لمخالفتهم دينه، ولما كان يرى في بعض المنتسبين إليه من سوء أخلاق وتفلّت من كلّ دين.
وفي ظلّ تعمّقه أكثر في دراسة الدّين النّصراني على أيدي القساوسة الّذين يشرحون له بعض نصوص كتابهم المقدّس، بدأ يطّلع على نصوص من هذا الكتاب تخالف بوضوح ما تعلّمه في الكنيسة من شعائر الدّين الكاثوليكي.
فكان من أوّل ما صدمه قضية الوثنيّة في هذا الدّين، الّتي تناقض بوضوح ما ورد في كتابهم من نهي عن اتخاذ الصّور وتعظيمها، ومن تحذير صريح من هذا الشّرك العظيم، وقاده هذا إلى إخراج كلّ ما في منزله من صور وتماثيل، فلم يترك إلّا الصّليب معلّقا فيه، لينظر إليه ويدعو عنده الأنبياء والأولياء من دون الله تعالى، ليقوده تفكيره إلى التّخلي عنه أيضا بعد حين عندما تأكّد أنّ نبيّ الله عيسى عليه السّلام وحوارييه، لم يكونوا يحملون صلبانا على أبدانهم ولا يعلقونها في مساكنهم.
وعندما نظر إلى حاله وقومه وجد ما هم عليه من عبادات ومعاش مختلفان عمّا ورد في كتابهم المقدّس من عبادات ومعاش الأنبياء والمرسلين، ووجدوا أنّ الأحبار والرّهبان قد أحلّوا لهم ما حرّم الله تعالى، وحرّموا عليهم ما أحل سبحانه، فالخلاف كبير بين دين الكاثوليكيّة الّذي كان عليه وبين الدّين الّذي يقرأ عنه في كتابهم الّذي يفترض أن يكون أصلا للدين يُعمل به، ولا يخالف بكلام أحد من البشر، فقرّر أن يترك هذا الدّين ويبحث عن الحقّ ويتخذ لنفسه دينا آخر يعتمد على ما يقرأه في كتابهم فقط دون أخذ بكلام القساوسة والكنيسة، وأراد أن يحيا حياة الأنبياء في تمسّكهم بكلام الله تعالى ودعوتهم إليه وجهادهم في سبيله سبحانه.
يروي أبو أنس تقبله الله تعالى في قصّة إسلامه: "أنا وأختي لم نترك قراءة الكتاب المقدّس، حتّى وجدتها يوما تقرأ فيه، فقالت: تعال وانظر! فستُفاجأ ممّا قرأت في الكتاب: (والخنزير، فإنه مشقوق الحافر، ولكنه لا يجتر، فهو نجس لكم، لا تأكلوا شيئا من لحمها، ولا تمسّوا جيفها، فإنها نجسة لكم)، فأعدت القراءة مرات كثيرة، وقرأت ما قبلها وما بعدها حتّى أفهم، وكنت أحبّ الحقّ، ولا أريد أن أفارقه، عندها أصبحت غاضبا على القسّيسين لأنّهم لم يخبرونا بهذا التّحريم، وتركونا نناقش المسلمين في موضوع الخنزير، وكنت أسفّه عقولهم وحجّتهم، لكنني تفاجأت كثيرا..
فذهبنا إلى القسّيس نسأله عن هذا النّص الوارد، واستغربت كثيرا من إجابته حين قال: هذا التّحريم غير موجود، فقلت في نفسي: إمّا أنّه جاهل أو كذّاب، فأتيته بالنّص، فقرأه، وكأنّه نسي أنّه قال سابقا: أن هذا الكلام غير موجود!، كنت أحترم هذا الشيخ الوقور كثيرا، فقد كان عمره بين الستين والسبعين، رأيت في إجابته غير الحقّ، إذ كان يعرفه، ويمنعه استكباره من قبوله، ويكذّب على النّاس، ويخفي الحقيقة عنهم، فسقط من نظري.
بعدها رجعنا من الدّرس، فاتفقت مع أختي ونحن في الطريق، بأن لا نأكل لحم الخنزير أبدا بعد اليوم، وسنكون "مسيحيين" حقيقيين.
لمّا وصلنا إلى البيت أخبرنا أمّنا بما هو موجود في "الكتاب المقدّس"، فقالت: أنا أيضا لن آكله أبدا، فاتفقت العائلة كلها على عدم أكله، وأخرجنا كل ما هو موجود في الثلاجة، وكان هذا أوّل ما تخالف فيه عائلتنا كلّها محيطنا من النّصارى الكاثوليك.
بعد ذلك صرت أقرأ "الكتاب المقدّس" لأعمل به، لأني فقدت الثّقة في القسّيسين، وبدأت تطرق بالي بين آونة وأخرى أفكار حول مصداقيتي تجاه نفسي، فلقد كنت من قبل متجرّدا للحقّ، فلماذا عندما تبيّن الحقّ عند المسلمين في مسألة حرمة لحم الخنزير لا أصارحهم وأقول بأنّهم على حقّ..." انتهى كلامه رحمه الله تعالى.
• المسلمون أولى النّاس باتباع الأنبياء
وهكذا وجد كثيرا مما يقرأه في كتابهم المقدّس على ألسنة الأنبياء والمرسلين يعمل به المسلمون في عباداتهم ومعاشهم، حتّى بات يشعر بنفسه أقرب إلى المسلمين من أتباع دينه الّذي يؤمن به ويدعو إليه.
ولكن كان هناك عائق كبير أمامه، يتمثّل بأنّ إقراره بدين الإسلام يلزم منه إنكار لدينه ودين آبائه وأصحابه، والحكم على هؤلاء جميعهم أنّهم على كفر وضلال وأنّهم خالدون مخلّدون في النّار، وكان يحبّ أن تشاركه أسرته كلّها في قراره، فيسلموا جميعا لله ربّ العالمين.
وقد أنعم الله عليهم بعد حين، وهداهم للإسلام فدخل هو وأختا له فيه معا، ثم أسلمت أسرته إلّا أمّهم الّتي كانوا يدعون الله تعالى أن يهديها إلى الدّين الحقّ بعد أن تأخّرت عنهم لما كانت تجده في نفسها من مشقّة ترك دين كانت تدعو النّاس إليه وتدخل النّاس فيه لمدة 30 عاما، وتقرّ بأنّ أبويها الّذين كانت تحبّهما غاية الحبّ وتدعوا لهما بالرّحمة والمغفرة كانوا كفّارا مشركين وأنّهم ماتوا على ذلك فتتوقّف عن الاستغفار لهما.
وبعد إسلامهم وجدت النّساء مشقّة في الالتزام بالحجاب في منطقتهم (آلنصو) الّتي يسكنون، فلم يتأخّروا أن يقرّروا انتقالهم إلى منطقة أخرى في فرنسا، وهي (تولوز) حيث يكثر المسلمون، وتنتّشر المساجد، ولا يعد التزام المرأة بالحجاب مشهدا غريبا هناك، بالإضافة إلى أنّهم أرادوا الخروج من المنطقة الّتي تذكّرهم بتاريخهم القديم بما فيه من إشراك بالله تعالى والدعوة إليه.
• بحثٌ عن الحقّ ودعوة إليه
ولمّا أسلم أبو أنس أنعم الله الكريم عليه بأن يستعمله في الدّعوة إليه سبحانه، مثلما كان سابقا داعيا إلى الشّرك، فانطلق بهمّة كبيرة يدعو كلّ من يعرفه أو يصادفه للدّخول في دين الإسلام، ولا يترك فرصة لبيان حقيقة أو ردّ شبهة أو ترك أثر طيب عند إنسان يحبّب إليه الدّين وأهله إلّا اغتنمها، فنفع الله تعالى به عددا كبير من النّاس أسلموا لله ونبذوا ما كانوا عليه من شرك وجاهلية، أعانه على ذلك خلق رفيع، وأدب جم في مخاطبة النّاس، ومعرفة كبيرة في دين من يخاطبهم ويدعوهم إلى تركه.
ولم يتوقّف سعي أبي أنس للسير على خطى الأنبياء والمرسلين -سلام الله عليهم- بالدّخول في دينهم الّذي كانوا عليه، والانتساب إلى المسلمين، بل رأى في ذلك خطوة أولى نحو الارتقاء في هذا الدّين بالعلم والعمل، فكان تقبله الله تعالى يطوف على المنتسبين إلى الدّين ويسأل كلّ من يراه على علم به، ويجاور من يرى فيه معرفة به، ويعاون من يحسبهم من العاملين به والدّاعين إليه، فطاف في فترة إسلامه الأولى على كثير من الأحزاب والجماعات البدعيّة الّتي يزعم كلّ منها أنّهم وحدهم أهل الإسلام الّذين يفهمونه حقّ الفهم ويعملون به كما أنزل.
فكان يرى في كل طائفة من هذه الطوائف المبتدعة ما يذكّره بدينه القديم من عمل بغير ما هو مكتوب في القرآن واتّباع لغير ما هو مأثور عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ويرى في دعاتهم وزعمائهم ما يذكره بالقساوسة والأحبار والرّهبان من تحريف لكتاب الله تعالى، وتبديل لأحكام دينه وشريعته، فهداه الله تعالى إلى هجر التبليغيين والإخوان المرتدّين والتحريريين والمرجئة المدخليين، بعد أن عرف ما هم عليه من ضلال، وهيأ له من يدلّه على التّوحيد وأهله، ويحبّب إليه الهجرة والجهاد في سبيل الله تعالى.
وقرّر أن يهاجر إلى اليمن فلم يتيسر له الأمر، فسافر إلى مصر ليتعلّم العربيّة والقرآن، ومكث فيها سنتين، ولمّا عاد إلى فرنسا وجد السجن بانتظاره، إذ هاجر بعض إخوانه إلى العراق للجهاد في سبيل الله تعالى، وقدّر سبحانه اعتقال بعضهم على يد النّظام النصيري وسلّموا إلى فرنسا الّتي بدأت باعتقال كلّ من يعرفهم أو يرتبط بهم بعلاقة من الشّباب المسلمين المناصرين للجهاد والمجاهدين.
في السجن استمرّ بالدّعوة إلى الله تعالى، ومجادلة دعاة النّصرانيّة النّاشطين بين السّجناء، وهدى الله تعالى على يديه بعضهم إلى نطق الشّهادتين، وترك ملّة النّصرانيّة، وبقي على هذا طيلة فترة مكوثه في السّجن والّتي استمرت 5 سنين.
• الهجرة إلى دار الإسلام
وبعد خروجه من السّجن استمرّ أبو أنس في دعوته إلى الله تعالى، كما التحق بكلّيّة جامعيّة أملا في توسيع معارفه في علوم الشّريعة من خلالها.
ولمّا أعلنت الدّولة الإسلاميّة في الشّام، سبقه شقيقه أبو عثمان تقبّله الله تعالى بالهجرة إليها هو وأسرته، فقرّر أبو أنس أن يوقف كلّ نشاطه في فرنسا ويهاجر في سبيل الله رافقه بعض من إخوانه الّذين أعانوه -بعد الله تعالى- في تأمين مستلزمات الرّحلة، وتشجيعه على المخاطرة لكونه ممنوع من الخروج من أوروبا من قبل السّلطات الفرنسيّة الصليبيّة.
ويروي أبو أنس رحمه الله عن أهمّ أحداث تلك المرحلة من حياته:
"في هذا الوقت كان أخي قد انضمّ للدّولة الإسلاميّة، فبدأت أحاورُه من هناك، وأسأله عن كلّ ما يُثار حول ذلك من الجدل في الإنترنت، وفي وسائل الإعلام، لكونه أصبحَ على أرض الواقع، فكان يجيبني أجوبة مقنعة، في الوقت الّذي كانت تتهاوى أمام نظري صورة هاني السّباعيّ وغيره من الّذين كنت أحسبُهم يوما من أهل العلم العاملين به، إذ بي أراه يتكلّم بكلام، ليس في مقامه، كلام بذيء يهاجمُ به مجاهدي الدّولة الإسلاميّة وعلماءها.
في هذه الأثناء، وبينما أطالع عن كثب كلّ ما يحدث، جاءتني أمّي لتقول لي:
يا بنيّ متى نهاجر إلى الدّولة الإسلاميّة، فلا أريد الموت في أرض الكفر.
لقد فاجأتني رغبتها، فامرأة مثلها كبيرة في السّنّ، ومريضة تتوقُ نفسُها لكي تعيش ما بقي من عمرها في دار الإسلام، متحمّلة في سبيل تلك الغاية كلّ مخاطر الهجرة، بينما يهربُ شبابُ المسلمين من أرض الإسلام ليقدّموا أنفسَهم طعاماً للأسماك في أعماق البحار قبل أن يصلوا إلى بلادِ الكفّار...
قلتُ في نفسي: كيف يحدث هذا؟ فأمّي هذه المرأة، عاشت أكثر عمرها نصرانيّة تدعو إليها بعصبيّة، وتكره الإسلام وأهله، وما إِن أسلمت حتّى صار العيش بين المسلمين تحتَ ظلّ شريعةِ الإسلامِ أسمى غايتها.
لقد كانَ لها من العمر "63" سنة، وهي مصابة بمرض تشمّع الكبد، وكانت تشعرُ بالألم في رجليها، ومع أنّها كانت تسمعُ أنّ طريقَ الهجرةِ يتطلّب مشياً على الأقدام لمسافات طويلة، لم يُرهبها هذا، بل كانت تدعو الله تعالى، وتكثرُ البكاء، كلّ ذلكَ خوفا من أن يحول بينها وبينَ الهجرةِ إلى الدّولة الإسلاميّة حائل، فما إن سمعت بأنّ دولة قامت في العراق والشّام حتّى ما عاد يهدأ لها جفن من بكاء، حتّى صعب عليّ حال هذه المرأة المسكينة، فليسَ لها سؤال إلاَّ عن طريقِ الهجرة، فإن سمعت أنّ الطّريق أغلق بكَت، وإن سمعت أنّ الطّريق ميسّر استبشرت" انتهى كلامه رحمه الله تعالى.
وهاجر تقبله الله هو وجميع أفراد أسرته، بما فيهم أمّه المريضة، الّتي كانت تتمنّى أن تختم حياتها في ديار الإسلام، وهو ما كان لها رحمها الله تعالى فيما بعد، وبعد صعوبات ومشاق كثيرة في الرّحلة مكّنه الله تعالى من دخول دار الإسلام والالتحاق بجنود الدّولة الإسلاميّة والجهاد في صفوفهم.
عمل أبو أنس تقبله الله تعالى أكثر فترة جهاده في إذاعة البيان مسؤولا عن تسجيل الدّروس والمحاضرات العلميّة، والعناية بالهندسة الصوتيّة، كما كان يقدّم النّصح والمساعدة لشقيقه أبي عثمان تقبله الله تعالى أحد كوادر مؤسسة أجناد، وعلى يديهما أنتجت الكثير من الأناشيد والمقاطع الصوتيّة التحريضيّة والدّعوية، مستفيدين من خبرتهما السّابقة في المجال والّتي استقياها من عملهما السّابق في مجال الموسيقى والمؤثّرات الصوتيّة، حيث كان أبو أنس مغنيا يرى نفسه يدعو من خلال أغانيه إلى الحقّ والعدالة، ويساعده أبو عثمان العامل معه في فرقته الموسيقيّة.
وخاض مع إخوانه الكثير من الغزوات دفاعاً عن ديار المسلمين وأصيب فيها مرّتين، كما فقد تقبله الله تعالى أفراداً من أسرته -نحسبهم من الشهداء والله تعالى حسيبهم- كان آخرهم في حياته ابنته الكبرى، الّتي قتلت في الباغوز، ولم يعش بعدها حياتاً طويلة إذ استهدفته طائرة صليبيّة فقتل تقبله الله تعالى، ولحق به شقيقه أبو عثمان بعد أيّام قليلة بنفس الطريقة، نسأل الله الكريم أن يتقبّل هجرتهم وجهادهم في سبيله سبحانه، وأن يرزقهم الفردوس الأعلى من الجنّة.
• المصدر:
صحيفة النبأ - العدد 173
الخميس 7 رجب 1440 هـ
• أبو أنس الفرنسي
ترك الدعوة إلى عبادة الصلبان
وطلب القتل في سبيل الله تعالى
ولد أبو أنس الفرنسي تقبله الله تعالى في أسرة متمسّكة بدين النصرانيّة، وفتح عينيه على الدّنيا وهو يرى أمّه تدعو إلى هذا الدّين المحرّف، وتملأ منزلهم بصلبان النّصارى وأوثانهم، وتعلّمهم الدّعاء لغير الله تعالى، وعبادته على غير ما يريد سبحانه.
ومنذ أيّام مراهقته صار أبو أنس داعيا إلى هذا الدّين، يجادل أصدقاءه الملحدين ليعيدهم إلى دين آباءهم وأجدادهم، ويردّ على العلمانيين سخريتهم من هذا الدّين، ويعادي أهل الإسلام لمخالفتهم دينه، ولما كان يرى في بعض المنتسبين إليه من سوء أخلاق وتفلّت من كلّ دين.
وفي ظلّ تعمّقه أكثر في دراسة الدّين النّصراني على أيدي القساوسة الّذين يشرحون له بعض نصوص كتابهم المقدّس، بدأ يطّلع على نصوص من هذا الكتاب تخالف بوضوح ما تعلّمه في الكنيسة من شعائر الدّين الكاثوليكي.
فكان من أوّل ما صدمه قضية الوثنيّة في هذا الدّين، الّتي تناقض بوضوح ما ورد في كتابهم من نهي عن اتخاذ الصّور وتعظيمها، ومن تحذير صريح من هذا الشّرك العظيم، وقاده هذا إلى إخراج كلّ ما في منزله من صور وتماثيل، فلم يترك إلّا الصّليب معلّقا فيه، لينظر إليه ويدعو عنده الأنبياء والأولياء من دون الله تعالى، ليقوده تفكيره إلى التّخلي عنه أيضا بعد حين عندما تأكّد أنّ نبيّ الله عيسى عليه السّلام وحوارييه، لم يكونوا يحملون صلبانا على أبدانهم ولا يعلقونها في مساكنهم.
وعندما نظر إلى حاله وقومه وجد ما هم عليه من عبادات ومعاش مختلفان عمّا ورد في كتابهم المقدّس من عبادات ومعاش الأنبياء والمرسلين، ووجدوا أنّ الأحبار والرّهبان قد أحلّوا لهم ما حرّم الله تعالى، وحرّموا عليهم ما أحل سبحانه، فالخلاف كبير بين دين الكاثوليكيّة الّذي كان عليه وبين الدّين الّذي يقرأ عنه في كتابهم الّذي يفترض أن يكون أصلا للدين يُعمل به، ولا يخالف بكلام أحد من البشر، فقرّر أن يترك هذا الدّين ويبحث عن الحقّ ويتخذ لنفسه دينا آخر يعتمد على ما يقرأه في كتابهم فقط دون أخذ بكلام القساوسة والكنيسة، وأراد أن يحيا حياة الأنبياء في تمسّكهم بكلام الله تعالى ودعوتهم إليه وجهادهم في سبيله سبحانه.
يروي أبو أنس تقبله الله تعالى في قصّة إسلامه: "أنا وأختي لم نترك قراءة الكتاب المقدّس، حتّى وجدتها يوما تقرأ فيه، فقالت: تعال وانظر! فستُفاجأ ممّا قرأت في الكتاب: (والخنزير، فإنه مشقوق الحافر، ولكنه لا يجتر، فهو نجس لكم، لا تأكلوا شيئا من لحمها، ولا تمسّوا جيفها، فإنها نجسة لكم)، فأعدت القراءة مرات كثيرة، وقرأت ما قبلها وما بعدها حتّى أفهم، وكنت أحبّ الحقّ، ولا أريد أن أفارقه، عندها أصبحت غاضبا على القسّيسين لأنّهم لم يخبرونا بهذا التّحريم، وتركونا نناقش المسلمين في موضوع الخنزير، وكنت أسفّه عقولهم وحجّتهم، لكنني تفاجأت كثيرا..
فذهبنا إلى القسّيس نسأله عن هذا النّص الوارد، واستغربت كثيرا من إجابته حين قال: هذا التّحريم غير موجود، فقلت في نفسي: إمّا أنّه جاهل أو كذّاب، فأتيته بالنّص، فقرأه، وكأنّه نسي أنّه قال سابقا: أن هذا الكلام غير موجود!، كنت أحترم هذا الشيخ الوقور كثيرا، فقد كان عمره بين الستين والسبعين، رأيت في إجابته غير الحقّ، إذ كان يعرفه، ويمنعه استكباره من قبوله، ويكذّب على النّاس، ويخفي الحقيقة عنهم، فسقط من نظري.
بعدها رجعنا من الدّرس، فاتفقت مع أختي ونحن في الطريق، بأن لا نأكل لحم الخنزير أبدا بعد اليوم، وسنكون "مسيحيين" حقيقيين.
لمّا وصلنا إلى البيت أخبرنا أمّنا بما هو موجود في "الكتاب المقدّس"، فقالت: أنا أيضا لن آكله أبدا، فاتفقت العائلة كلها على عدم أكله، وأخرجنا كل ما هو موجود في الثلاجة، وكان هذا أوّل ما تخالف فيه عائلتنا كلّها محيطنا من النّصارى الكاثوليك.
بعد ذلك صرت أقرأ "الكتاب المقدّس" لأعمل به، لأني فقدت الثّقة في القسّيسين، وبدأت تطرق بالي بين آونة وأخرى أفكار حول مصداقيتي تجاه نفسي، فلقد كنت من قبل متجرّدا للحقّ، فلماذا عندما تبيّن الحقّ عند المسلمين في مسألة حرمة لحم الخنزير لا أصارحهم وأقول بأنّهم على حقّ..." انتهى كلامه رحمه الله تعالى.
• المسلمون أولى النّاس باتباع الأنبياء
وهكذا وجد كثيرا مما يقرأه في كتابهم المقدّس على ألسنة الأنبياء والمرسلين يعمل به المسلمون في عباداتهم ومعاشهم، حتّى بات يشعر بنفسه أقرب إلى المسلمين من أتباع دينه الّذي يؤمن به ويدعو إليه.
ولكن كان هناك عائق كبير أمامه، يتمثّل بأنّ إقراره بدين الإسلام يلزم منه إنكار لدينه ودين آبائه وأصحابه، والحكم على هؤلاء جميعهم أنّهم على كفر وضلال وأنّهم خالدون مخلّدون في النّار، وكان يحبّ أن تشاركه أسرته كلّها في قراره، فيسلموا جميعا لله ربّ العالمين.
وقد أنعم الله عليهم بعد حين، وهداهم للإسلام فدخل هو وأختا له فيه معا، ثم أسلمت أسرته إلّا أمّهم الّتي كانوا يدعون الله تعالى أن يهديها إلى الدّين الحقّ بعد أن تأخّرت عنهم لما كانت تجده في نفسها من مشقّة ترك دين كانت تدعو النّاس إليه وتدخل النّاس فيه لمدة 30 عاما، وتقرّ بأنّ أبويها الّذين كانت تحبّهما غاية الحبّ وتدعوا لهما بالرّحمة والمغفرة كانوا كفّارا مشركين وأنّهم ماتوا على ذلك فتتوقّف عن الاستغفار لهما.
وبعد إسلامهم وجدت النّساء مشقّة في الالتزام بالحجاب في منطقتهم (آلنصو) الّتي يسكنون، فلم يتأخّروا أن يقرّروا انتقالهم إلى منطقة أخرى في فرنسا، وهي (تولوز) حيث يكثر المسلمون، وتنتّشر المساجد، ولا يعد التزام المرأة بالحجاب مشهدا غريبا هناك، بالإضافة إلى أنّهم أرادوا الخروج من المنطقة الّتي تذكّرهم بتاريخهم القديم بما فيه من إشراك بالله تعالى والدعوة إليه.
• بحثٌ عن الحقّ ودعوة إليه
ولمّا أسلم أبو أنس أنعم الله الكريم عليه بأن يستعمله في الدّعوة إليه سبحانه، مثلما كان سابقا داعيا إلى الشّرك، فانطلق بهمّة كبيرة يدعو كلّ من يعرفه أو يصادفه للدّخول في دين الإسلام، ولا يترك فرصة لبيان حقيقة أو ردّ شبهة أو ترك أثر طيب عند إنسان يحبّب إليه الدّين وأهله إلّا اغتنمها، فنفع الله تعالى به عددا كبير من النّاس أسلموا لله ونبذوا ما كانوا عليه من شرك وجاهلية، أعانه على ذلك خلق رفيع، وأدب جم في مخاطبة النّاس، ومعرفة كبيرة في دين من يخاطبهم ويدعوهم إلى تركه.
ولم يتوقّف سعي أبي أنس للسير على خطى الأنبياء والمرسلين -سلام الله عليهم- بالدّخول في دينهم الّذي كانوا عليه، والانتساب إلى المسلمين، بل رأى في ذلك خطوة أولى نحو الارتقاء في هذا الدّين بالعلم والعمل، فكان تقبله الله تعالى يطوف على المنتسبين إلى الدّين ويسأل كلّ من يراه على علم به، ويجاور من يرى فيه معرفة به، ويعاون من يحسبهم من العاملين به والدّاعين إليه، فطاف في فترة إسلامه الأولى على كثير من الأحزاب والجماعات البدعيّة الّتي يزعم كلّ منها أنّهم وحدهم أهل الإسلام الّذين يفهمونه حقّ الفهم ويعملون به كما أنزل.
فكان يرى في كل طائفة من هذه الطوائف المبتدعة ما يذكّره بدينه القديم من عمل بغير ما هو مكتوب في القرآن واتّباع لغير ما هو مأثور عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ويرى في دعاتهم وزعمائهم ما يذكره بالقساوسة والأحبار والرّهبان من تحريف لكتاب الله تعالى، وتبديل لأحكام دينه وشريعته، فهداه الله تعالى إلى هجر التبليغيين والإخوان المرتدّين والتحريريين والمرجئة المدخليين، بعد أن عرف ما هم عليه من ضلال، وهيأ له من يدلّه على التّوحيد وأهله، ويحبّب إليه الهجرة والجهاد في سبيل الله تعالى.
وقرّر أن يهاجر إلى اليمن فلم يتيسر له الأمر، فسافر إلى مصر ليتعلّم العربيّة والقرآن، ومكث فيها سنتين، ولمّا عاد إلى فرنسا وجد السجن بانتظاره، إذ هاجر بعض إخوانه إلى العراق للجهاد في سبيل الله تعالى، وقدّر سبحانه اعتقال بعضهم على يد النّظام النصيري وسلّموا إلى فرنسا الّتي بدأت باعتقال كلّ من يعرفهم أو يرتبط بهم بعلاقة من الشّباب المسلمين المناصرين للجهاد والمجاهدين.
في السجن استمرّ بالدّعوة إلى الله تعالى، ومجادلة دعاة النّصرانيّة النّاشطين بين السّجناء، وهدى الله تعالى على يديه بعضهم إلى نطق الشّهادتين، وترك ملّة النّصرانيّة، وبقي على هذا طيلة فترة مكوثه في السّجن والّتي استمرت 5 سنين.
• الهجرة إلى دار الإسلام
وبعد خروجه من السّجن استمرّ أبو أنس في دعوته إلى الله تعالى، كما التحق بكلّيّة جامعيّة أملا في توسيع معارفه في علوم الشّريعة من خلالها.
ولمّا أعلنت الدّولة الإسلاميّة في الشّام، سبقه شقيقه أبو عثمان تقبّله الله تعالى بالهجرة إليها هو وأسرته، فقرّر أبو أنس أن يوقف كلّ نشاطه في فرنسا ويهاجر في سبيل الله رافقه بعض من إخوانه الّذين أعانوه -بعد الله تعالى- في تأمين مستلزمات الرّحلة، وتشجيعه على المخاطرة لكونه ممنوع من الخروج من أوروبا من قبل السّلطات الفرنسيّة الصليبيّة.
ويروي أبو أنس رحمه الله عن أهمّ أحداث تلك المرحلة من حياته:
"في هذا الوقت كان أخي قد انضمّ للدّولة الإسلاميّة، فبدأت أحاورُه من هناك، وأسأله عن كلّ ما يُثار حول ذلك من الجدل في الإنترنت، وفي وسائل الإعلام، لكونه أصبحَ على أرض الواقع، فكان يجيبني أجوبة مقنعة، في الوقت الّذي كانت تتهاوى أمام نظري صورة هاني السّباعيّ وغيره من الّذين كنت أحسبُهم يوما من أهل العلم العاملين به، إذ بي أراه يتكلّم بكلام، ليس في مقامه، كلام بذيء يهاجمُ به مجاهدي الدّولة الإسلاميّة وعلماءها.
في هذه الأثناء، وبينما أطالع عن كثب كلّ ما يحدث، جاءتني أمّي لتقول لي:
يا بنيّ متى نهاجر إلى الدّولة الإسلاميّة، فلا أريد الموت في أرض الكفر.
لقد فاجأتني رغبتها، فامرأة مثلها كبيرة في السّنّ، ومريضة تتوقُ نفسُها لكي تعيش ما بقي من عمرها في دار الإسلام، متحمّلة في سبيل تلك الغاية كلّ مخاطر الهجرة، بينما يهربُ شبابُ المسلمين من أرض الإسلام ليقدّموا أنفسَهم طعاماً للأسماك في أعماق البحار قبل أن يصلوا إلى بلادِ الكفّار...
قلتُ في نفسي: كيف يحدث هذا؟ فأمّي هذه المرأة، عاشت أكثر عمرها نصرانيّة تدعو إليها بعصبيّة، وتكره الإسلام وأهله، وما إِن أسلمت حتّى صار العيش بين المسلمين تحتَ ظلّ شريعةِ الإسلامِ أسمى غايتها.
لقد كانَ لها من العمر "63" سنة، وهي مصابة بمرض تشمّع الكبد، وكانت تشعرُ بالألم في رجليها، ومع أنّها كانت تسمعُ أنّ طريقَ الهجرةِ يتطلّب مشياً على الأقدام لمسافات طويلة، لم يُرهبها هذا، بل كانت تدعو الله تعالى، وتكثرُ البكاء، كلّ ذلكَ خوفا من أن يحول بينها وبينَ الهجرةِ إلى الدّولة الإسلاميّة حائل، فما إن سمعت بأنّ دولة قامت في العراق والشّام حتّى ما عاد يهدأ لها جفن من بكاء، حتّى صعب عليّ حال هذه المرأة المسكينة، فليسَ لها سؤال إلاَّ عن طريقِ الهجرة، فإن سمعت أنّ الطّريق أغلق بكَت، وإن سمعت أنّ الطّريق ميسّر استبشرت" انتهى كلامه رحمه الله تعالى.
وهاجر تقبله الله هو وجميع أفراد أسرته، بما فيهم أمّه المريضة، الّتي كانت تتمنّى أن تختم حياتها في ديار الإسلام، وهو ما كان لها رحمها الله تعالى فيما بعد، وبعد صعوبات ومشاق كثيرة في الرّحلة مكّنه الله تعالى من دخول دار الإسلام والالتحاق بجنود الدّولة الإسلاميّة والجهاد في صفوفهم.
عمل أبو أنس تقبله الله تعالى أكثر فترة جهاده في إذاعة البيان مسؤولا عن تسجيل الدّروس والمحاضرات العلميّة، والعناية بالهندسة الصوتيّة، كما كان يقدّم النّصح والمساعدة لشقيقه أبي عثمان تقبله الله تعالى أحد كوادر مؤسسة أجناد، وعلى يديهما أنتجت الكثير من الأناشيد والمقاطع الصوتيّة التحريضيّة والدّعوية، مستفيدين من خبرتهما السّابقة في المجال والّتي استقياها من عملهما السّابق في مجال الموسيقى والمؤثّرات الصوتيّة، حيث كان أبو أنس مغنيا يرى نفسه يدعو من خلال أغانيه إلى الحقّ والعدالة، ويساعده أبو عثمان العامل معه في فرقته الموسيقيّة.
وخاض مع إخوانه الكثير من الغزوات دفاعاً عن ديار المسلمين وأصيب فيها مرّتين، كما فقد تقبله الله تعالى أفراداً من أسرته -نحسبهم من الشهداء والله تعالى حسيبهم- كان آخرهم في حياته ابنته الكبرى، الّتي قتلت في الباغوز، ولم يعش بعدها حياتاً طويلة إذ استهدفته طائرة صليبيّة فقتل تقبله الله تعالى، ولحق به شقيقه أبو عثمان بعد أيّام قليلة بنفس الطريقة، نسأل الله الكريم أن يتقبّل هجرتهم وجهادهم في سبيله سبحانه، وأن يرزقهم الفردوس الأعلى من الجنّة.
• المصدر:
صحيفة النبأ - العدد 173
الخميس 7 رجب 1440 هـ