{يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ} يضل كثير من الناس رغم معرفتهم الحق، ...

منذ 2025-11-16
{يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ}


يضل كثير من الناس رغم معرفتهم الحق، ووصوله إليهم واضحا أبلج، بلا ملابسات تحول بينهم وبين فهمه، أو تعقيدات تمنعهم من إدراكه، خصوصا وأنه سهل يسير لا يحتاج لتكلف، بل يوائم فطرة الإنسان الذي لم تصرفه شياطين الإنس والجن عنها، الذي خلقه الله تعالى حنيفا مسلما بالفطرة، كما قال سبحانه في الحديث القدسي: (وإنّي خلقت عبادي حنفاء كلّهم، وإنّهم أتتهم الشّياطين فاجتالتهم عن دينهم، وحرّمت عليهم ما أحللت لهم، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا). [مسلم]

فضلال أكثر الناس اليوم هو ضلال على علم وإعراض عن الحق وزهد وتقصير في إصابته، كما أن ضلالهم ليس من جانب النقص في الأدلة التي تقودهم للحق، فهي كافية وافية لمن أراد الله به خيرا، وقد هدى الله بها كثيرا من الناس غيرهم، لكنه في الواقع الهروب من الانقياد للشرع الحنيف، والكبر عن التنازل عن العقائد الفاسدة.

وإن ظهر هؤلاء الضّلّالُ أمام الناس حريصين على معرفة الأدلة الشرعية، والبحث عنها والمناظرة دونها، فذاك لأجل أن يُظهروا أنهم باقون على ما هم عليه من الكفر لأنه لم يأتهم ما يصرفهم عنه من الدلائل الشرعية الكافية! وتأمل ما قاله الله تعالى عن أمثال هؤلاء في زمن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِن جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَّيُؤْمِنُنَّ بِهَا..}، فهذا القسم بالله العظيم (الذي يشركون به!) والتأكيد على أن ما يمنعهم من الإيمان هو عدم مجيء الآيات، يبينه واقعهم بيانا واضحا، أنه رغم الأدلة على صدق النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- والآيات التي جاءهم بها فإنهم أصروا على الكفر وقاتلوا دونه، ما يوضح بشكل قاطع كذبهم في هذا الادعاء، وعدم رغبتهم في الانقياد للحق من الأساس، لأنهم مكذبون له في كل الأحوال، جاءت الآيات أم تأخرت.

وبسبب هذه الآفات المستحكمة من قلوبهم، فإن الله تعالى يصرفهم عن الإيمان بآياته، كما قال عز وجل: {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِن يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَّا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِن يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِن يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ}، فهم حتى لو رأوا الدلائل الواضحة التي تقودهم للحق فإنهم يختارون بمحض إرادتهم سلوك سبيل الباطل، قال ابن كثير: "وقوله: {وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها..} كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ * وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّىٰ يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ}.. ثم علّل مصيرهم إلى هذه الحال بقوله: {ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا..} أي: كذبت بها قلوبهم، {وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ}، أي: لا يعلمون شيئا مما فيها" [التفسير]، وهكذا، فإن الآيات واضحة بإبطال دخائل هؤلاء المعاندين، وكشف حقيقة مجادلاتهم، وهذا واضح أيضا في قوله سبحانه: {وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَىٰ وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَّا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ}.

وهؤلاء الصنف من الناس، الذين يدّعون أنهم يبحثون عن الحق بألسنتهم بينما يحاربونه فعليا في واقعهم، موجودون في كل زمان، فإننا نرى اليوم كثيرا من أمثالهم تقول ألسنتهم بالخطب والمحاضرات، وتكتب أقلامهم في الكتب والمنشورات، أنهم من أهل الحق المتبعون له، الحريصون على الانقياد له، المطالبون بتحكيمه بين الناس، والتحاكم إليه فيما شجر بينهم، لكن أفعالهم تكذب هذه المزاعم أشد تكذيب، وتمتنع عن الانقياد لما يقولون ويكتبون أشد الامتناع! ولئن سألتهم عن ضلالهم لنافحوا عنه وتأولوا، وحشدوا المتشابهات وجادلوا، ولو صدقوا القول وتخلوا عن كل ضجيجهم لصرّحوا أنهم لا يريدون اتباع الشرع الذي نزل على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كما هو، وأن كل ما في الأمر أنهم يريدون إضفاء الشرعية على ما يدينون به من أهواء، وما وصلته عقولهم من آراء، رأوها تُحقق مصالح دنياهم، بعيدا عن شرع الله تعالى، فالحقيقة هي أنهم يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم!

وهذا الضلال أخطر من ضلال من استعلن بالكفر، وجاهر بالعداوة لأهله، ورفض الإسلام جملة وتفصيلا، فهؤلاء يدّعون الانتساب للحق، ويتكلمون بلسانه، فالفتنة بهم أشد والخطر منهم أكبر، ومن ثَمّ فهم أعدى من الكافر الأصلي وأكثر ضررا منه على الإسلام.والكلام هنا لا يقتصر على الكفار الأصليين أو المجاهرين بالكفر المرتدين بل ينسحب على من يدّعون الجهاد! واستعراض سريع للحركات والتنظيمات العاملة في الساحة اليوم، نجد أن كثيرا منهم يتكلمون بالكتاب والسنة وسلف الأمة، وتحكيم الشريعة والقتال على ذلك، فترى هؤلاء "ذوي فكر إسلامي" وتلك "إمارة إسلامية" وذاك فصيل جهادي، ولكن على أرض الواقع نجدهم أبناء العلمانية الأقحاح، ومطبقي الوطنية الأفذاذ! والمقاتلين تحت رايات وطنية وغايات جاهلية!

ولا بد لأهل الحق أن يعرضوا ما عندهم من نور الوحي، واضحا ناصعا مباشرا، يقيم الحجة ويبلّغها، بالحكمة والموعظة الحسنة، والتطبيق العملي الميداني، فإن وافق هذا فطرة سليمة لم تلوّثها شياطين الإنس والجن، ستنقاد له وتستضيء به، وإلا فما على الرسول إلا البلاغ، والله المستعان، ولا حول ولا قوة إلا بالله.


• المصدر:
صحيفة النبأ – العدد 427
السنة الخامسة عشرة - الخميس 13 رجب 1445 هـ

67944dd38c694

  • 1
  • 0
  • 2

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً