مقال: آمنوا بربهم وزدناهم هدى إن من أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة أن الإيمان يزيد بالطاعات ...

منذ 2025-11-24
مقال: آمنوا بربهم وزدناهم هدى


إن من أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة أن الإيمان يزيد بالطاعات وينقص بالمعاصي، وكذلك فإن طاعة العبد لربه تزداد بزيادة إيمانه، كما أنه معرّض أكثر للمعاصي بنقصان ذلك الإيمان، وهكذا فإن الطاعات يقوي بعضها بعضا، كما أن المعاصي يقوي بعضُها داعيَ بعضها الآخر، وليست عبادة الجهاد، ولا معصية التولي يوم الزحف، بخارجتين عن هذا الأمر.

ولما كان المجاهد في سبيل الله تعالى من أكثر الناس تعرضا للفتن التي يسعى من خلالها الشيطان وأولياؤه إلى صرفه عن هذه العبادة العظيمة التي هي ذروة سنام الدين، كان هو أولى الناس بطلب ما يثبّت به فؤاده، بالقيام بكل ما يقدر عليه من الطاعات المختلفة لزيادة إيمانه بشكل دائم، ما يؤدي بالمحصلة إلى تقوية داعي الجهاد في نفسه، وكذلك الابتعاد عن المعاصي صغيرها وكبيرها، ليضعف بمقدار بعده عنها داعيه إلى المزيد من المعاصي ومنها معصية ترك الجهاد في سبيل الله تعالى عندما يكون فرضا عليه.

وإن المجاهد في سبيل الله تعالى يجد في نفسه أحيانا نشاطا وهمّة وطلبا للشهادة في سبيل الله تعالى ما لا يجده في أوقات أخرى، وهو غير منتبه إلى سبب ذلك، وأنه نتيجة لزيادة في إيمانه تحقق له -بفضل الله تعالى- إثر عبادة أخرى قام بها، من صلاة أو صيام أو صدقة أو ذكر، أو طاعة في معروف، أو إحسان إلى أخ مسلم، أو قضاء لحاجة مسلم، أو حتى أعمال قلبية من محبة لله وتوكل عليه وخوف منه سبحانه.

وبالمثل فإنه قد يجد في نفسه فتورا عن الطاعات ومنها الجهاد في سبيل الله، ورغبة في الركون إلى الدنيا ونعيمها الزائل، وهو غافل عن أن سبب ذلك كله إنما هو معاص اقترفها أضعفت إيمانه كله، فقوى بذلك الشيطان وشهوات نفسه التي تميل إلى القعود والبعد عن المخاطر، فحصل له ما حصل.

ومثلما ضلّ كثير من أهل التصوف والفلسفة الذين جعلوا معرفة الله تعالى هي غاية الدين، وجعلوا العبادات مجرد وسيلة للوصول إلى تلك الغاية، حتى قالوا أن من وصل إلى الغاية لم يعد يحتاج إلى الوسيلة، فأسقطوا فرائض الدين عمن يعتقدون فيه معرفة الله سبحانه حقا، فكذلك يسعى الشيطان أن يُلبّس على المجاهدين في سبيل الله تعالى بما هو قريب من ذلك الضلال.

فيوسوس لهم الملعون بأنهم بتوفيق الله سبحانه لهم للجهاد في سبيل واصطفائه لهم من بين عباده للقيام بذروة سنام دينه، فإن حاجتهم للتزود من الطاعات هي أقل من سواهم من البشر، وأنهم أبعد عن الوقوع في المعاصي الظاهرة والباطنة منهم، حتى يقع بعضهم في شر هذا الضلال فلا يشعر بنفسه إلا وقد تغيرت نية جهاده، أو ثقلت نفسه عن القيام به بعد حين، أو تغيرت علاقته مع أعداء الله من البغض والمعاداة، إلى المودة والموالاة بدرجات مختلفة، بحسب كبر المعاصي التي هو واقع فيها.

ولقد بيّن ربنا جلّ وعلا أن هدايته لعباده تكون بمقدار أعمالهم الصالحة، التي هي الإيمان، وبمقدار طلب المسلم لها بما يؤديه من عبادات، فقال سبحانه: {إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى * وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا} [الكهف:13-14]، وقال أيضا: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت: 69].

وبالمثل بيّن -تعالى شأنه- أن الظالمين من عباده يحرمون من هدايته بمقدار معصيتهم له، حتى إن خرجوا عن طاعته بالكلية، حُرموا من هدايته بالكلية أيضا، وهذا من أكبر عقوباته لمن عصاه في الدنيا، قال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [المائدة: 51]، وقال سبحانه: { إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [المنافقون: 6]، وقال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} [المائدة: 67].

فإذا علم المجاهد ذلك، نظر إلى حاله في كل حين، فإن وجد في نفسه نشاطا على الطاعات وتعلقا بالجهاد في سبيل الله ورغبة في الآخرة عن الدنيا، حمد الله تعالى أن يسّر له من العبادات ما يقوي به إيمانه، وأبعده عن معاصيه، وإن وجد في نفسه فتورا وانصرافا إلى الدنيا ورغبة فيها عن الآخرة، سأل الله تعالى لنفسه الهداية واستعان على ذلك بالطاعات الظاهرة والباطنة، وتاب من المعاصي، واستغفر الله من ذنبه، لعل الله تعالى أن يهديه إلى صراط مستقيم.


• المصدر:
صحيفة النبأ - العدد 190
الخميس 8 ذو القعدة 1440 هـ

6873fd2836f8b

  • 0
  • 0
  • 9

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً