تعيش العلاقات الجزائرية - الأوروبية اليوم لحظة دقيقة تتجاوز التقلبات الظرفية، وتعيد تشكيل آليات ...
منذ 8 ساعات
تعيش العلاقات الجزائرية - الأوروبية اليوم لحظة دقيقة تتجاوز التقلبات الظرفية، وتعيد تشكيل آليات تفاعل جديدة بين ضفتي المتوسط. فالوساطة الألمانية في ملف الكاتب الجزائري الأصل بوعلام سنصال لم تكن مجرد تدخل تقني لإنهاء أزمة فردية، بل نقطة تماس كشفت بوضوح كيف أعادت كل من فرنسا وألمانيا والجزائر تعريف موقعها في منظومة متحركة، حيث تتشابك الملفات شائكةً مثل الطاقة والذاكرة والهجرة والأمن مع نسيج المصالح المتداخل. الجزائر التي كانت تنظر اليها باريس على أنها امتداد لمساحتها الدبلوماسية جنوب المتوسط، اتجهت في السنوات الأخيرة إلى توسيع دوائر شراكاتها الأوروبية، تحرك لم يكن اندفاعاً أو انتقاماً، بل انتقالاً محسوباً من علاقة مركزية واحدة، إلى هندسة متعددة الأطراف، تأخذ بعين الاعتبار العديد من المقاييس من التحولات الطاقوية في أوروبا، وتراجع القدرة الأميركية على ضبط توازنات شمال إفريقيا، إلى اشتداد المنافسة حول موارد الغاز والهيدروجين. في هذا السياق الدولي والأوروبي، وأمام هذه الظرفية اللافتة، برزت ألمانيا وإيطاليا كشريكين قادرين على تقديم ما لا تستطيع باريس تقديمه، ألا وهي البراغماتية المتحررة من ثقل الذاكرة، واستعداد كبير لترجمة المصالح الاقتصادية إلى تعاون سياسي أوسع. دخلت ألمانيا تحديداً إلى الساحة الجزائرية عبر بوابة الطاقة والهيدروجين الأخضر، مستفيدة من اندفاع أوروبي نحو إعادة بناء أمن الطاقة بسبب حرب أوكرانيا، فالمشاريع التي تم إمضاؤها بين الجزائر وبرلين لم تكن مجرد عقود تجارية، بل مقدمات لشراكة طويلة الأمد. وبفضل هذه العلاقة السلسة، تحركت ألمانيا بسهولة حين اختارت الجزائر أن تجعل منها قناة لمعالجة ملف حساس، مثل ملف سنصال. أما فرنسا التي وجدت نفسها أمام مشهد متغير وغير مألوف، فقد أدركت أن المقاربات التقليدية لم تعد نافعة: لا الضغط القنصلي، ولا التصريحات العالية اللهجة، ولا التلويح بورقة الذاكرة والاتفاقات التي أفرغت من محتواها. وبهذا المعنى، قدمت الوساطة الألمانية نموذجاً جديداً تجسد في أن أوروبا تتحرك كوحدة سياسية متعددة الأصوات، فيما تعاملت معها الجزائر بمنطق المصلحة، لا بمنطق المحاور، كل ذلك في وقت اختارت فيه فرنسا الانسحاب التكتيكي لإعادة بناء التوازن على المدى الطويل، دون أن تخلق قطبين أحدهما منتصر والآخر منهزم ما يعني انتقالاً تدريجياً جماعياً نحو براغماتية فرضتها المتغيرات. وراء هذا المشهد، دفع اعتراف الولايات المتحدة بسيادة المغرب على الصحراء الغربية -وإن كان قراراً سياسياً وعليه الكثير من التحفظات القانونية- دفع الجزائر إلى إعادة صياغة بوصلتها الاستراتيجية، ليس عبر قطيعة مع واشنطن، بل عبر الاقتراب أكثر من أوروبا بوصفها فضاءً أقل تقلباً وأكثر قابلية لبناء تفاهمات بعيدة المدى. في العمق، لقد كشفت هذه التحولات أن العلاقات الجزائرية - الفرنسية - الأوروبية دخلت مرحلة تعدد المسارات لا تعدد الولاءات. فحتى وإن استطاعت الجزائر توسيع حضورها الاقتصادي مع ألمانيا وإيطاليا، فإنها لا تستطيع تجاوز تأثير فرنسا داخل مؤسسات الاتحاد الأوروبي. فرنسا تتراجع تكتيكياً في بعض الملفات، لكنها تبقى الفاعل الأكثر قدرة عل التأثير في البنية الأوروبية، التي تحكم علاقة الاتحاد الأوروبي بجيرانه الجنوبيين، وحتى وإن قدمت ألمانيا نفسها كشريك موثوق، إلا أنها تعمل دائماً ضمن سقف التنسيق مع باريس. فالوساطة الألمانية التي سرعت حل أزمة الكاتب بوعلام سنصال ليست دليلاً على انقلاب موازين القوى، بل على ضرورة تجديد القواعد التي تحكم تفاعل أوروبا مع الجزائر، وإطلاق سراح هذا الكاتب أظهر أن الجميع بدأ يتحرك وفق منطق جديد. فالجزائر تبحث عن مساحة أوسع، وفرنسا عن أدوات أذكى، وألمانيا عن دور أعمق داخل المتوسط. إنها بداية مرحلة نضج، تتعايش فيها الذاكرة مع المصالح، وتبنى فيها الشراكات على قاعدة واقعية لا مكان فيها للرمزية.