ويفعل الحسنة فلا يزال يمنّ بها على ربه، ويتكبر بها، ويرى نفسه ويعجب بها ويستطيل بها ويقول فعلت ...

منذ 2025-11-27
ويفعل الحسنة فلا يزال يمنّ بها على ربه، ويتكبر بها، ويرى نفسه ويعجب بها ويستطيل بها ويقول فعلت وفعلت، فيورثه من العجب والكبر والفخر والاستطالة ما يكون سبب هلاكه.

فإذا أراد الله تعالى بهذا المسكين خيراً ابتلاه بأمر يَكْسرُه به ويُذِلُّ به عُنُقَه ويُصَغّرُ به نفسه عنده، وإن أراد به غير ذلك خلّاهُ وعُجْبَه وكِبْرَه، وهذا هو الخذلان الموجب لهلاكه، فإن العارفين كلهم مجمعون على أن التوفيق أن لا يكِلَكَ اللهُ تعالى إلى نفسك، والخذلان أن يكِلَكَ اللهُ تعالى إلى نفسك.

فمن أراد الله به خيراً فتح له باب الذل والانكسار، ودوام اللَّجَأِ إلى الله تعالى والافتقار إليه، ورؤية عيوب نفسه وجهلها وعدوانها، ومشاهدة فضل ربه وإحسانه ورحمته وجوده وبِرّه وغَناه وحمده.
فالعارف سائر إلى الله تعالى بين هذين الجناحين، لا يمكنه أن يسير إلا بهما، فمتى فاته واحد منهما فهو كالطير الذي فقد أحد جناحيه.


- وإذا أذنب استغفَر

قال شيخ الإسلام: "العارف يسير إلى الله بين مشاهدة المِنّة ومطالعة عيب النفس والعمل".

وهذا معنى قوله (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) في الحديث الصحيح من حديث بريدة رضي الله تعالى عنه: (سيد الاستغفار أن يقول العبد: اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت، خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء بنعمتك علي وأبوء بذنبي، فاغفر لي، إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت) [رواه البخاري].

فجمع في قوله (صلى الله عليه وسلم): "أبوء لك بنعمتك عليّ وأبوء بذنبي"، بين مشاهدة المنة ومطالعة عيب النفس والعمل.

فمشاهدة المنة توجب له المحبة والحمد والشكر لوليّ النعم والإحسان، ومطالعةُ عيب النفس والعمل توجب له الذل والانكسار والافتقار والتوبة في كل وقت، وأن لا يرى نفسه إلا مُفلساً.

وأقربُ باب دخل منه العبد على الله تعالى هو الإفلاس فلا يرى لنفسه حالاً ولا مقاماً ولا سبباً يتعلق به ولا وسيلة منه يمنّ بها، بل يدخل على الله تعالى من باب الافتقار الصِّرْف، والإفلاس المحْض، دخولَ من كسر الفقرُ والمسكنةُ قلبَه حتى وصلت تلك الكسرة إلى سويدائه فانصدع، وشملته الكَسْرةُ من كل جهاته، وشهد ضرورته إلى ربه عز وجل، وكمال فاقته وفقره إليه، وأن في كل ذرة من ذراته الظاهرة والباطنة فاقة تامة، وضرورة كاملة إلى ربه تبارك وتعالى، وأنه إن تخلى عنه طرفة عين هَلَكَ وخسِر خسارة لا تُجْبَر، إلا أن يعود اللهُ تعالى عليه ويتداركه برحمته.

ولا طريق إلى الله أقرب من العبودية، ولا حجاب أغلظ من الدعوى. والعبودية مدارها على قاعدتين هما أصلها: حب كامل، وذل تام.

ومنشأ هذين الأصلين عن ذيْنِكَ الأصليْن المتقدميْن، وهما: مشاهدة المنة التي تورث المحبة، ومطالعة عيب النفس والعمل التي تورث الذل التام، وإذا كان العبد قد بنى سلوكه إلى الله تعالى على هذين الأصلين لم يظفر عدوه به إلا على غِرّة وغفلة، وما أسرع ما يُنْعشُهُ اللهُ عز وجل ويَجْبُره ويتداركه برحمته". [التبويبات بتصرف].



• المصدر:
صحيفة النبأ - العدد 194
الخميس 7 ذو الحجة 1440 هـ

68715fd0aeabb

  • 0
  • 0
  • 8

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً