{قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني} (2) بسم الله الرحمن الرحيم، وبه نستعين، والصلاة والسلام على ...

منذ ساعتين
{قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني} (2)


بسم الله الرحمن الرحيم، وبه نستعين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، وبعد:

قال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ} ومن هنا يتبين أن محبة الله الصادقة ينتج عنها اتباع العبد لرسول الله، وكلما عظُم شأنُ الرب وازدادت محبته في نفس العبد تولّد عنهما اتباع لرسوله على قدر محبته وتعظيمه، والعباد في هذه المحبة والتعظيم يتفاوتون، فأهل الإيمان فيهما يتفاضلون، وكذلك اتباع الطاغوت ناتج عن محبته وتعظيمه، وأهل الكفر والعناد يتفاوتون في هذه الدركات بقدر محبتهم وتعظيمهم لطواغيتهم، فأكثرهم كفراً وعناداً هم أكثرهم حباً واتباعاً لطواغيتهم، وفي المقابل أكثر أهل الإيمان حباً وتعظيماً لله ولرسوله هم أكثرهم التزاماً لأمر ربهم واتباعاً لهدي رسوله واقتفاءً لأثره، ولهذا كان الصحابة متابعين للنبي في أقواله وأفعاله وهديه وسنته لِما بلغوا من عظيم محبة الله ورسوله وإجلالهما.

ثم إنه سبحانه لما بيّن أن محبته توجب اتباع الرسول، وأن اتباع الرسول يوجب محبته سبحانه للعبد، فهذه محبة يمتحن اللهُ بها من ادعى تلك المحبة، حتى يعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه، ومن لزِم طريق السنة ممن تركها ولزم طريق الهوى والبدعة.

قال شيخ الإسلام: "لا يصل أحد من الخلق إلى الله وإلى رضوانه وجنته وكرامته وولايته، إلا بمتابعته باطنا وظاهرا؛ في الأقوال والأعمال الباطنة، والظاهرة في أقوال القلب وعقائده". [الفتاوى الكبرى].

وإذا كان اتباع الرسول واجباً لصلاح الدين فكذلك نحن مأمورون بملازمة أصحاب الدعوات الخالصة الذين اتجهت قلوبهم لخالقهم سبحانه وتعالى، مأمورون بترك من اعتنقوا الدعوات لتحقيق أطماع أو ابتغاء جاه ومتاع، وبهذا ورد النص القرآني المحكم؛ قال تعالى: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ} ثم إنه سبحانه حدد وصفهم بأنهم {يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} فمنه وحده يرجون الثواب ولأجله فقط تقوم دعوتهم، لأن غير هؤلاء لا تقام عليهم الدعوات وإذا قامت لم تلبث أن تنهدم لأنها بنيت على أصول فاسدة وعلى أساس مهترئ يوشك أن ينهار بصاحبه.

{وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} أي لا تجاوزهم إلى غيرهم، والزمهم ما حييت والزم منهجهم، ذلك المنهج الرباني، {ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا} واترك الأهواء وأصحابها ممن أُغفلت قلوبهم فمُلئت حباً وولاءً وتعظيماً لأعداءه سبحانه فلم يعد لله فيها متسع، فأعمالهم كلها سفاهة وتفريط وضياع، فلا تتبعهم ولا تتبع أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيراً وضلوا عن سواء السبيل.


- الاتباع الحق

فالاتباع هو اتباع الحق وأهله والتزام منهجهم، وليس اتباع الآباء أو اتباع الأكثرية، ولا هو اتباع الطواغيت من أحبار السوء الذين يُحلون الحرام شهوة، ويحرمون الحلال شبهة، ويدعون إلى الباطل ضلالاً وكفراً، ولهذا يقول تعالى: { يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالًا طَيِّباً، وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ، إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ}[البقرة:168].

فحذر سبحانه من اتباع الشيطان، الذي يأمر بالخبائث، ويأمر بالادعاء على الله في التحليل والتحريم بغير إذن منه ولا تشريع.

فليس بمُتَبِعٍ من قَدّمَ اتباع عادات الآباء على اتباع منهج الرسل، بل إن هذه من أبرز صفات مشركي الجاهلية، وهذه هي النقطة الفاصلة بين أهل الإيمان وأهل الكفر، فإما أن ينخلع المرء من متابعة غير الله أو يبقى في ظلمات الكفر والجهل، إما أن يكون متجرداً لله وحده، أو لا يكون؛ فحينئذ يكون كالدابة العمياء فما له من مرشد ولا عقل له ليهتدي، وليس بينهما مرتبة وسط. قال تعالى: { وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ}[لقمان:21].

ومَن تدبر كلام الله وجد أن اتباع الآباء ما ذكر في القرآن إلا في مواضع الذم، وهو اختيار تنكره الفطرة ويستنكره العقل أن يٌترك المنهج السماوي الكريم لأجل اتباع عادات الآباء والأجداد ولذلك فهو طريق خبره الشيطان فهو يهديهم إلى عذاب السعير، ولا يكون الاتباع أيضاً بتفضيل اتباع الأكثرية على اتباع الحق.

قال شيخ الإسلام: "فأهل المعاصي كثيرون في العالم؛ بل هم أكثر كما قال تعالى: {وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله}".[مجموع الفتاوى].

ولا تتم حقيقة الاتباع حتى يتقدم الحقُ على النفس، فيُتحمل لأجله جميع المشاق والمحن، ويُنقاد له انقياداً تاماً بلا شك ولا ريب، عندئذٍ يكون المرء متبعاً، وبخلاف هذا يخرج المرء من دائرة الاتباع إلى دائرة الابتداع ويخسر دنياه وآخرته.

- عاقبة اتباع أهل الضلال

ثم إن عاقبة اتباع أهل الضلال أن يتبرأ المتبوعون من تابعيهم وتنقطع بينهم أواصر المحبة الواهنة ويلعن بعضُهم بعضاً، وهذا حين يرون العذاب، وحين تنقضي هذه الحياة الدنيا، ينشغل كل واحد منهم بنفسه، ويظهر عجز المتبوعين وضعفهم وكذبهم وخداعهم أمام قوة الله وأمام غضبه وعذابه، حين يعجزون عن وقاية أنفسهم فضلاً عن وقاية أتباعهم.

قال تعالى: {وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذابِ إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ}.[البقرة:166].

أي تقطعت بهم أسباب الوصال التي كانت في الدنيا قاله مجاهد، وحينئذ يتمنى التابعون أن لو كانت لهم الكرة فيتبرؤوا من تلك التبعية التي أهلكتهم وأحلت عليهم العذاب، وحينئذ تنقلب أسباب المحبة والاتباع إلى تبرؤ وتعادي وتخاصم، كذلك يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم وما هم بخارجين من النار.


- عاقبة اتباع أهل الحق

أما أهل الحق فمشتاقون إلى لقاء ربهم، يرجون لقاء مرشدهم إلى طريق الحق، يقف على حوضه سيدُ أهل الحق فيسقيهم شربة لا يظمؤون بعدها أبداً، في ذلك اليوم الشديد.

ثم يتلاقى أهل الحق جميعاً، تابعهم مع متبوعهم في جنان خلد، إخواناً على سرر متقابلين، فشتان شتان بين عاقبة أهل الحق وبين عاقبة أهل الضلال، فنهاية أمرهم خزي وندامة وحسرة على هذه التبعية والولاء، أما أهل الحق فنهاية أمرهم حمد وشكر وتجديد لأواصر المحبة والولاء في ظل المنحة الربانية والنعيم والمقيم والحمد لله رب العالمين.


• المصدر:
صحيفة النبأ - العدد 196
الخميس 21 ذي الحجة 1440 هـ

683b4f9a9ea34

  • 1
  • 0
  • 4

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً