ومن يعمل مثقال ذرة خيراً يره إن الله تعالى لا يظلم عبادَه مثقال ذرةٍ من أعمالهم، فيجازيهم ...

منذ 2025-12-01
ومن يعمل مثقال ذرة خيراً يره


إن الله تعالى لا يظلم عبادَه مثقال ذرةٍ من أعمالهم، فيجازيهم عليها في الدنيا أو الآخرة، وهم مجزيّون على أجزائها وإن لم ينلْهم جزاءَ تمامِها، فإذا تقاعس العبدُ عن إتمامِ عملٍ ما، كان له من الأجر بمقدار ما عمِل منه لا يحبط عنه إلا بخروجه من الإسلام بالكلية، وإن كان أعظم الأجرِ في إتمامِ العمل، إذ أن الحسنات تتضاعف بصبر المسلم على طاعة الله وثباته عليها رغم كثرة الصوارف عنها.

وقد قال ربنا جل جلاله: {مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذلك بأنَّهمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ * وَلَا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [التوبة: 120، 121].

وهذه الحقيقة في غاية الأهمية أن يوقن بها المجاهد في سبيل الله تعالى، ويتزود بها في سيره الطويل إلى رضوان ربه الجليل، لتتشوق نفسُه أكثر للبذل، ويهون عليه ما يلقاه من تعبٍ وبلاءٍ، خاصة عندما تبعد عن بصره القاصر صورةَ النصر الذي يرجوه، ويسعى في تثبيطه عن جهاده شياطينُ الإنس والجن، بتشكيكه في جدوى ما يبذله من جهدٍ قد يبدو له غير ذي فائدة طالما أن الهدف الدنيوي منه قد تأخر عنه.

ولنا أن ندرك أهمية ذلك إن وضعنا في الاعتبار أن تلك الآيات من سورة التوبة نزلت على المسلمين لتحثهم على المسير مع رسول الله عليه الصلاة والسلام في تبوك، حين بعُدت الشُقّة وعظُمت المشقّة، وقويَ المشركون وضعُف المسلمون، وكانت احتمالاتُ النصرِ على الروم قليلةً في حسابات الناس، فبشّر ربُّنا عبادَه أن لهم في كل عملٍ يعملونه في سيْرهم إلى عدوهم أجراً عليهم أن يطلبوه ولا يزهدوا فيه، ثم منّ عليهم مرة أخرى أن كفاهم لقاءَ عدوِهم، فعادوا بالأجر العظيم ولم يمسسهم سوء، وخاب من رغِب بنفسه عن رسول الله وصحبه رضوان الله عليهم.

فالمجاهد يضع في اعتباره أن الغاية الأخروية من جهاده -وهي الأجر من الله تعالى- متحصلةٌ له ولو لم يحقق النصر أو الفتح أبداً، ولو فاته كل ما كان يحبه من الغنيمةِ والظفَر، والعز والتمكين، والسلامة له والنكاية في أعدائه، أضعاف ما لو تحققت له تلك الغايات الدنيوية، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (مَا مِنْ غَازِيَةٍ، أَوْ سَرِيَّةٍ، تَغْزُو فَتَغْنَمُ وَتَسْلَمُ، إِلَّا كَانُوا قَدْ تَعَجَّلُوا ثُلُثَيْ أُجُورِهِمْ، وَمَا مِنْ غَازِيَةٍ، أَوْ سَرِيَّةٍ، تُخْفِقُ وَتُصَابُ، إِلَّا تَمَّ أُجُورُهُمْ) [رواه مسلم].

وإنكار هذه الحقائق أو السهو عنها كان سبباً في ضلال كثير من العباد، ونكوصهم عن طاعة الله جلّ جلاله، بجهادِ أعدائه وبذل الجهد لإقامة دينه وتحكيم شرعه وتطهير أرضه من الشرك وأهله، وذلك أنهم أوحت إليهم شياطينُ الإنس والجن أن لا فائدة لهم من جهادٍ وبلاءٍ لا يُلازمه نصرٌ وتمكينٌ، فالجهاد بالنسبة إليهم ليس أكثر من وسيلةٍ دنيويةٍ لغايةٍ دنيويةٍ، يسهل عليهم تركه إن تأخر جنْيُ الثمرة التي يرجونها منه، وهكذا قعَد أكثرُ المنافقين عن جهاد الروم في تبوك لأنه جهادٌ لا تُرجى منه غنيمة، ولا يُؤمن فيه هلاك.

ويغفل الكثيرون عن حقيقة أن الجهاد له ولا شك ثمارٌ دنيويةٌ كبيرةٌ مهما طال الزمان، من الفتح والتمكين وإقامة الدين، ولا شك أن النصر متحققٌ لهم أو لإخوانهم الذين يأتون من بعدهم، فيكون دورهم دورُ الزارعِ للنبتةِ، المتعهدِ لها حتى يشتد ساقها وتضرب جذورها في الأرض، وتصبح قادرة على الإثمار، فينتفع بها هو نفسُه أو من يأتي بعده، وقد روى الإمام أحمد في مسنده عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: (إِنْ قَامَتْ عَلَى أَحَدِكُمُ الْقِيَامَةُ، وَفِي يَدِهِ فَسِيلَةٌ فَلْيَغْرِسْهَا)، فيكون غرسه لها من باب العبادة لا من باب انتظار الثمر، وكذلك المجاهد في سبيل الله تعالى فإنه يستمر في جهاده حتى تقوم الساعةُ أو يهلك قبلها وقد أدى ما عليه من طاعة لأمر ربه جلّ وعلا.

وقد رأينا الكثيرَ ممن كانوا يزعمون الجهاد لتحكيم شرع الله تعالى، فتَح اللهُ عليهم الأرض ومكنّهم فيها، وابتلاهم بذلك، فكان فيه خسارتهم وحبوط أجرِ جهادهم الذي قاموا به وتحملوا ما تحملوه فيه من الضيق والشدة ليقيموا به الدين كما زعموا، فلمّا صارت الثمرةُ بأيديهم داسوها بأقدامهم، وأقاموا دين الكفر وامتنعوا عن شريعة الله سبحانه، أو سلّموا تلك الثمرة لأعداء الله من العلمانيين والديموقراطيين وعملاء الصليبيين.

فالواجب على المسلم إذن أن يعتقد أن جهاده طاعة لله سبحانه، هو مأجورٌ على القيام به إن أخلص واتبع، وأن يحرص على النصر في جهاد المشركين، ليزيل شركَهم ويقيم دينَ الله في الأرض، وأن يسأل الله سبحانه الثبات على جهاده، وأن يعينه على إقامة الدين في نفسه ومن يرعاهم، قبل أن يقيمه في الأرض وبين الناس، وأن لا يحبط ذلك كله وينكث غزله من بعد قوة كما فعل القوم الظالمون، ومن يصدق الله يصدقه، ومن يخنه فإن الله لا يحب الخائنين.


• المصدر:
صحيفة النبأ - العدد 197
الخميس 28 ذو الحجة 1440 هـ

683b4f9a9ea34

  • 1
  • 0
  • 4

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً