التواصي بالحق والصبر اقتضت مشيئة الله تعالى وحكمته البالغة أن يبتلي عباده المؤمنين ويختبر صدق ...

منذ 5 ساعات
التواصي بالحق والصبر


اقتضت مشيئة الله تعالى وحكمته البالغة أن يبتلي عباده المؤمنين ويختبر صدق إيمانهم بصور الابتلاء والتمحيص التي لا ينفكّ عنها زمن من الأزمان حتى تقوم الساعة، ومِن رحمته سبحانه بعباده أن بيّن لهم الأمور التي تساعدهم في الثبات على هذا الدين العظيم، وهداهم بفضله إلى ما يعينهم على مواصلة السير في طريق الحق القويم.

ومع أنّ عوامل الثبات كثيرة فصّلتها آيُ القرآن الكريم والسنة النبوية في مواضع عديدة، لكن هناك عامل مهم قد يغفل عنه البعض كونه لا يندرج في العادة ضمن عوامل الثبات بشكل مباشر، إنه التواصي بالحق والتواصي بالصبر.

قال تعالى: { وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [سورة العصر]. قال المفسرون: أي تحابوا وأوصى بعضهم بعضا، وحثّ بعضهم بعضا. بالحق: أي بالتوحيد والإيمان والقرآن، والصبر على طاعة الله تعالى، والصبر عن معاصيه، وعلى ما يصيبهم من البلاء والمصائب، فبالإيمان والعمل الصالح يُكمل المرء نفسه، وبالتواصي بالحق والصبر يُصلح جماعته.

لقد قررت السورة العظيمة أن جميع الناس في خسر إلا مَن حقَّق الايمان والعمل الصالح والتواصي بالحق والصبر، ولقد ربطت السورة وقرنت بين هذه الأمور الأربعة؛ فإن المؤمن الذي يعمل الصالحات بحاجة إلى مَن يوصيه بالحق ويذكّره به، ويوصيه بالصبر على أعبائه وتكاليفه ويحثه على ذلك، فإن للحق ضريبة لا بدّ من دفعها، يبذلها أهل الحق طوعا وطاعة لله ورضا بقضائه وقدره سبحانه.

ويلحق بذلك خصلة أخرى مكمّلة وهي التواصي بالمرحمة، قال تعالى: { ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ}[البلد: 17]. قال المفسرون: أي تواصوا بالرحمة على الخلق، فكما أوصى بعضهم بعضا رحم بعضهم بعضا.
ولقد جاء التواصي هنا أيضا مقرونا بالإيمان والصبر ليؤكد مرة أخرى أن المؤمنين لا بدّ لهم من التواصي فيما بينهم ليستمروا على طريق الإيمان ويثبتوا عليه.

ويكون التواصي آكد في أوقات المحن والشدائد التي تصيب المسلمين كما هو الحال في ظل اشتداد هجمة الصليبيين والمرتدين، ولكَم كان التواصي سببا في تثبيت الصفوف المؤمنة في أوقات الكرب عندما تزيغ الأبصار وتبلغ القلوب الحناجر!، وكم مِن مجاهد كان له دور في تثبيت إخوانه وشدِّ أزرهم بالتواصي بالحق والتواصي بالصبر؟، بل كم كان التواصي سببا في تثبيت صاحبه قبل أن يكون سببا في تثبيت إخوانه؟، وكل ذلك ببركة هذه الخصلة المباركة.

والقرآن الكريم حافل بالتواصي والوصايا العظيمة ومِن أعظمها وصية إمام الحنفاء وأبي الأنبياء إبراهيم عليه السلام، تلك الوصية العظيمة بأن يحرص المرء كلّ الحرص على أن يختم حياته وهو محقق للإسلام، قال تعالى: { وَوَصَّىٰ بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَىٰ لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} [البقرة: 132]، ومِن أشهر وصايا القرآن، وصايا لقمان الحكيم لابنه والتي ابتدأها بالتحذير من الشرك: { يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13] ومثْل القرآن، احتوت السنة النبوية على الكثير من الوصايا التي أوصى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم أمته لتنال بها السيادة والسعادة في الدارين، وعلى هذا المنهج القرآني النبوي سار السلف الصالح في تحقيق التواصي بالحق والصبر وخصوصا في أوقات الشدة، حيث نقلت لنا مرويات السلف ومصنفاتهم الكثير من قصص التواصي بالحق والصبر وكيف كانت سببا في تثبيت المسلمين في أحلك الظروف، ومِن ذلك وصية الصحابي الجليل عبد الله بن رواحة رضي الله عنه لأصحابه يوم مؤتة وقد حشد لهم الروم والمشركون مئتي ألف مقاتل أمام ثلاثة آلاف من المسلمين! فقال لهم موصيا مثبِّتا: يا قوم، والله إن التي تكرهون لَلتي خرجتم تطلبون الشهادة، وما نقاتل الناس بعدد ولا قوة ولا كثرة، ما نقاتلهم إلا بهذا الدين الذي أكرمنا الله به، فانطلقوا فإنما هي إحدى الحسنيين، إما ظُهور وإما شهادة، فقال الناس: قد والله صدق ابن رواحة.

ومِن ذلك أيضا قصة الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله في محنته وكيف ثبّته رجل أعرابي من بسطاء القوم لا يعرفه، قال الإمام أحمد: "ما سمعت كلمة منذ وقعت في هذا الأمر أقوى من كلمة الأعرابي، قال: يا أحمد إن يقتلك الحق متَّ شهيدا، وإن عشت عشت حميدا... فقوِي قلبي"[سير أعلام النبلاء]
وعلى دربهم يسير جنود الخلافة اليوم، فيوصى بعضهم بعضا بالحق والتوحيد والجهاد والبراءة من الشرك والصبر على ذلك والثبات عليه؛ فالتواصي بالحق ضرورة لتذكير المؤمن ليبقى الحق مُشرَعا أمام ناظريْه، حاضرا في قلبه، حيا في واقعه، يُطبّقه في حياته، فلا تذبل صورته ولا تخبو جذوته.

وإن مِن حقوق المسلم على أخيه المسلم أن يوصيه ويذكّره ويشدّ أزره في كربته ويسلّي عنه في محنته، فهذه هي حقيقة الأخوة الإيمانية، قال تعالى مخاطبا موسى عليه السلام: {سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ}[القصص: 35] أي: سنقويك ونعاونك ونعزّ جانبك به. كما أن التواصي من عوامل قوة جماعة المسلمين وترابط صفوفها واشتداد بنيانها، قال صلى الله عليه وسلم: (المؤمن لِلمؤْمن كالبُنْيان يَشُدُّ بَعْضُه بَعْضا)[البخاري] وإذا كان هذا شأن التواصي بالحق والصبر؛ فإن التواصي بالمرحمة لا يقل عنه شأنا وفضلا، فبه يرحم المسلمون إخوانهم من خلال السعي في قضاء حوائجهم وتفقد أحوالهم وإعانتهم ونخص منهم الأسرى والأرامل واليتامى، فيكون ذلك سببا في نزول رحمة الله تعالى ونصره على عباده المؤمنين.
ومن التواصي، أن نوصي إخواننا المجاهدين وأنصارهم في كل مكان بأن يعتنوا بهذا الجانب ويُحيوا سنة التواصي بالحق والصبر والمرحمة فيما بينهم، ويتعاهدوا إخوانهم بالوصية والتذكير والتثبيت فإن فيه من البركة والخير ما لا يخفى، فثماره في الدنيا ثبات على الحق، وفي الآخرة رضوان من الله أكبر، والحمد لله رب العالمين.



• المصدر:
صحيفة النبأ - العدد 281
الخميس 25 شعبان 1442 هـ

683b4c4f96693

  • 1
  • 0
  • 4

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً