التراجعات الصامتة قبل نحو 14 عاما اهتزت الأوساط الجهادية بموجة ما عُرف بـ"المراجعات الفكرية" ...

منذ ساعتين
التراجعات الصامتة


قبل نحو 14 عاما اهتزت الأوساط الجهادية بموجة ما عُرف بـ"المراجعات الفكرية" لجماعة "الجهاد" والتي ابتدأت أواخر التسعينيات داخل سجون مصر، وبلغت ذروتها بعد نشر ما أسموه "وثيقة ترشيد العمل الجهادي في مصر والعالم" والتي لاقت معارضة وهجوما حادا من قبل قادة تنظيم القاعدة آنذاك واعتبروها تراجعات لا مراجعات، وعدّوها تخليا عن الجهاد وانقلابا على المبادئ، وهي كذلك.

وسارع الظواهري يومها إلى مهاجمة المتورطين في هذه التراجعات وأصدر كتابا قال فيه إن هذه الوثيقة "كُتبت بإشراف وتوجيه وتدبير وتمويل وإمكانات الحملة الصليبية اليهودية" وإن الهدف منها هو "تعجيز أو إيقاف العمل الجهادي".

إلا أن هذا الموقف الصارم من تلك التراجعات لم يدم طويلا وسرعان ما تبدل وتغير بعد موجة "الربيع العربي" التي افتُتنت بها القاعدة، فسارع الظواهري نفسه إلى إصدار وثيقة ترشيد جديدة باسم "توجيهات عامة للعمل الجهادي" لم تكن في حقيقتها إلا صورة أخرى من صور التراجعات لكن بثوب جديد يناسب مقاس الحواضن والثورات، وهو ما أوصل القاعدة في نهاية المطاف إلى الالتقاء مع حركات الإخوان المرتدين في معظم الطريق وليس منتصفه فحسب.

فقرر قادة تنظيم القاعدة بعد سنوات من التراجعات السرية بعيدا عن الكاميرات، الانخراط في العمل السلمي الثوري، والتركيز بشكل أكبر على فقه الأولويات بدلا من فقه الجهاد الذي لم يكن سوى مرحلة عابرة كانت تمثل حالة الاندفاع والحماسة بينما هم اليوم أكثر حكمة ووعيا بمتطلبات المرحلة!، فصارت الانحرافات والتراجعات أصلا لدى القاعدة وأخواتها، وأصبحت وثائق الترشيد دستورا جديدا لهذه الحركات.

وهكذا كلما اصطدمت القاعدة بفتنة جديدة من فتن الحواضن والعواطف أظهرت نُسخا جديدة من التراجعات الصامتة نلحظها بوضوح في بياناتها الطويلة ومطوياتها المملة، وقد رأينا موقف القاعدة الأخير من الأحزاب والحركات المرتدة الممولة إيرانيا في فلسطين، وكيف غمرت قيادة القاعدة تلك الحركات بعبارات الموالاة والثناء والإشادة ما لم تقله تلك الحركات عن نفسها! ما جعل أتباع القاعدة وخصوصا في الشام يشعرون بحرج كبير لم يستطيعوا كتمه وهم يرون قاعدتهم توالي أولياء قتلَتهم في الشام، بعد أن انتقلت من مرحلة "عظم الله أجركم في قيادة حماس" إلى مرحلة "الإجلال والإكبار" لقادة نفس الحركة الذين ازدادوا صلة ووثوقا بإيران الرافضية، وحرصا وإصرارا على مواصلة طريق الديمقراطية والتحرر الوطني.

وكان مما هاجم به "الظواهري" حركة حماس يومها، قوله: إنها "تنازلت عن التحاكم للشريعة"، وقوله: "اعتدت قيادة حركة حماس على حقوق الأمة الإسلامية عندما قبلت باحترام الاتفاقات الدولية"، فهل تراجعت حماس عن شيء من ذلك؟ فما الذي تغيّر لتُغيِّر القاعدة موقفها تجاه حماس من النقيض إلى النقيض؟!

إن موقف القاعدة اليوم من حماس لا يعتبر إلا مثالا واحدا على التراجعات الصامتة وحصادا مرا جديدا من حصاد وثائق الترشيد التي هاجمها وخوّنها الظواهري قديما.

إن القاعدة أقدمت على التصريح بموقفها الداعم والمؤيد لقيادة حماس وهي تعلم علم اليقين علاقة هذه القيادة العسكرية والسياسية بإيران، وهو ما عجز أتباع القاعدة عن فهمه فراحوا يخبطون خبط عشواء يمدحون حماس ويسبّون إيران! على طريقة مَن يسبّ إبليس في النهار ويمدحه أيضا في النهار!!

ولا عجب أن تخنس القاعدة عن ذلك، فكيف تعيب على حماس علاقتها بإيران؟ بينما طالبان تسير على نفس الخطى وتسعى لتوثيق صلتها بإيران والانتقال من العلاقة السرية إلى العلاقة الرسمية تحت بند "العلاقات مع دول الجوار".

لكنّ حصر المشكلة فقط في علاقة حماس بإيران الرافضية، هو من قبيل التضليل المتعمد لمنظّري القاعدة الذين راحوا يرقّعون ويبررون للقاعدة موقفها، وإلا فإن علاقة حماس بالرافضة واحدة من قائمة انحرافات تطول تعرفها جميعا القاعدة لكنها سكتت عنها، إما موافقة أو مداهنة ولا شيء غير ذلك.

إن هذه الانقلابات والتغيرات في مواقف القاعدة جعلت البعض يتساءل ما هو الفرق إذن بين القاعدة والإخوان وطالبان وحماس وسائر هذه الحركات المنحرفة؟! علام يقسّمون أنفسهم ويصنّفون بعضهم إلى تيارات ومدراس وهم في الحقيقة يجتمعون ويلتقون في أغلب المواقف والتصورات؟! فكل ما أنكرته القاعدة على حركات الاخوان سابقا تفعله اليوم بينما تنتقد فقط ما عجزت عن إتيانه! وكل ما أنكرته على حماس بالأمس فعلته طالبان بل تحرص على أن تأتي ما هو أكثر منه؟! فما الفرق بينهم إذا؟

إن هذه المنعطفات الحادة في دورة حياة القاعدة من مهاجمة التراجعات إلى شرعنتها وجعلها منهاجا وأصلا لن يتوقف عند هذا الحد، في ظل أن الساحة بأسرها تشهد ذوبانا لهذه الحركات في بوتقة واحدة قوامها التراجعات والتنازلات والتحرر من قيود الحق.

لقد حرفت القاعدة الجهاد وحرّفته، وأماتت الولاء والبراء وعطّلته، فوالت طلاب الديمقراطية والانتخابات الكفرية وصحّحت دين مَن أبدل بالقرآن الدساتير الكفرية.

فإن كانت كل هذه المتغيّرات قد اجتاحت ثوابت القاعدة وأخواتها، فما هي الثوابت التي لم تتغير عندهم؟! هل هي عدد الركعات في الصلوات أم صيغة التشهد في التحيات؟!وإن كان ضغط الواقع يُغيّر اعتقاد المرء من الإيمان إلى الكفر! ومن البراءة من المشركين إلى موالاتهم؟ فما الفرق بين الثابت والمتغير؟! وبين الاتباع والهوى؟! وبين الاستسلام لله تعالى والاستسلام للواقع؟

إن الله تعالى ما فرّط في كتابه من شيء وقد دلّ عباده على الطريق إليه فلم يتركهم هملا بغير دليل حاشاه سبحانه، فمن اتبع الدليل واقتفى أثر الأنبياء يوشك أن يصل، ومن اتبع الهوى ولم يحسم منهجه ابتداء ولم يقف على أرضية صلبة سلفا، سوف يهوي مع كل هاو، ويتقلب مع كل موجة، تُغريه الأكثرية وتغلبه العاطفة، ولا شيء أثقل عليه من العقيدة والثبات عليها، ولذلك تجد أكثر هؤلاء صاروا يرون التوحيد عبئا عليهم وثقلا جاثما على صدورهم وعائقا في وجه مصالحهم الموهومة، فقرروا إغفال العقيدة وإزالة البراء من واقعهم، فالتقوا مع كل منحرف وضال وصاروا يحكمون على كل شيء بكل شيء إلا ميزان الشريعة.

إن التراجعات الصامتة التي أجرتها القاعدة سرا لسنوات أخطر بكثير من التراجعات العلنية القديمة، لأن خطر ما استتر أشد من خطر ما انفضح وظهر، إلا أن الله تعالى بعدله اقتضى أن يُظهر الحق من الباطل، ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حيّ عن بينة، فاللهم ثباتا على الإيمان حتى نلقاك.


• المصدر:
صحيفة النبأ - العدد 290
الخميس 29 شوال 1442 هـ

683b4c4f96693

  • 1
  • 0
  • 5

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً