مقال: تُحف الذاكرين (2) الحمد لله محبّ التوّابين وغافر زلات المذنبين، والصلاة والسلام على ...

منذ 10 ساعات
مقال: تُحف الذاكرين (2)


الحمد لله محبّ التوّابين وغافر زلات المذنبين، والصلاة والسلام على إمام المرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد، نواصل في هذا العدد ما ابتدأناه في العدد الماضي من تحف الذاكرين التي أعدها الله تعالى لعباده الذاکرین.

التحفة الثالثة: النجاة من المصائب والنكبات، قال عز وجل: {فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [الصافات:١٤٣-١٤٤]، قال الإمام ابن جرير الطبري رحمه الله: "يقول: لبقي في بطن الحوت إلى يوم القيامة!، يوم يبعث الله فيه خلقه محبوسا، ولكنه كان من الذاکرین الله قبل البلاء، فذكره الله في حال البلاء، فأنقذه ونجَّاه... وعن ميمون بن مهران، قال: سمعت الضحاك بن قيس يقول على منبره: اذكروا الله في الرخاء يذكركم في الشدّة، إن يونس كان عبداً لله ذاكرا، فلما أصابته الشدّة دعا الله فقال الله: {فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ}، فذكره الله بما كان منه، وكان فرعون طاغيا باغيا فلمَّا {أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ * آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ}". [التفسير]

وكما أنجي الله نبيه يونس عليه السلام فكذا سينجی سبحانه كل مَن عمل ما عمله يونس عليه السلام وأخذ بالسبب نفسه، قال الله عز وجل: {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَٰلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ} [الأنبياء:٨٨]، قال الطبري رحمه الله: "يقول جلّ ثناؤه: وكما أنجينا يونس من كرب الحبس في بطن الحوت في البحر إذ دعانا، كذلك ننجي المؤمنين من كربهم إذا استغاثوا بنا ودعونا ". [التفسير]

وسل نفسك كم مرة مرّت عليك مصيبة ونكبة وكنت من قبل مفرطا في جنب الله لم تَعُدّ لها عملا صالحا، وصرت تفتّش حينها يمينا وشمالا لا ترى عملا مخلَصا يصلح ذكره في ذلك الموطن، ثم سل نفسك كم مرة أنجاك الله من غم ألمّ بك وقد عزمت حينه أنك بعد النجاة تكون من أهل العبادة والاجتهاد والأعمال الصالحات؟.

فتدارك نفسك الآن لتعمل لقدَر نازل بك، وغدٍ هو عليك آت، فقد جُبلت الدنيا على الكدر ومصاعب القَدر، ولن تجد عُدة أيسر من ذكر الله تعالى، قال صلى الله عليه وسلم: (تعرّف على الله في الرخاء، يعرفك في الشدة) [رواه أحمد].

وإن كلمات الذكر لتذكّر بصاحبها عند العرش قال صلى الله عليه وسلم: (الذين يذكرون من جلال الله من تسبيحه وتحميده وتكبيره وتهليله يتعاطفن حول العرش لهن دوي كدوي النحل، يذكّرون بصاحبهن ألا يحب أحدكم أن لا يزال له عند الله شيء يذكر به) [رواه أحمد].

وما أحوج المجاهد في سبيل الله إلى أن يكون له عند الله شيء يُذكر به؛ لأن المدلهمات حوله كثيرة والكل متربص به ويطلبه.

التحفة الرابعة: طمأنينة القلب وانشراحه، قال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:٢٨]، وقال نبينا عليه الصلاة والسلام: (من لزم الاستغفار؛ جعل الله له من كل هم فرجا، ومن كل ضيق مخرجا، ورزقه من حيث لا يحتسب) [ابن ماجه]، وراحة الصدر لن يجدها إلا أهل الذكر، وهذه خاصية لهم من بين المتنافسين في الخيرات.

وخير أهل كلّ عبادة أكثرهم لله ذكرا، فعن معاذ رضي الله عنه، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم: أنَّ رجلاً سأله فقال: "أيُّ الجهاد أعظمُ أجراً یا رسول الله ؟ قال: (أكثرُهم للهِ ذِكرا)، قال: فأيُّ الصَّائمين أعظمُ؟ قال: (أكثرهم لله ذِكرا)، ثم ذكر لنا الصَّلاة والزَّكاة والحجَّ والصدقة كلٌّ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (أكثرهم لله ذكرا)، فقال أبو بكر: يا أبا حفص، ذهب الذاكرون بكلِّ خيرٍ، فقال رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم: (أجل). [رواه أحمد]

لذلك كان النبي عليه الصلاة والسلام يحث على ذكر الله كثيرا، وكان هو عليه الصلاة والسلام كثير الذكر لله، فعن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر الله عز وجل على كل أحيانه" [متفق عليه]، فقد كان عليه الصلاة والسلام حريصا على قلبه، يظهر ذلك من قوله صلى الله عليه وسلم: (إنَّه لَيُغانُ على قلبي، وإنِّي لأستغفرُ الله في اليوم مئة مرة)، وإن كان نبينا صلى الله عليه وسلم حريصا على قلبه، وهو الذي يُوحى إليه، وهو المغفور له، فكيف بنا نحن؟!

وكان بعض السلف رحمهم الله يذكرون الله بالمئات وبعضهم بالألوف، قال ابن رجب رحمه الله: "وكان بعضُهم يسبِّحُ كلَّ يوم اثني عشر ألفَ تسبيحة بقدر دِيَتِه، كأنَّه قد قتل نفسه، فهو يَفْتَكُّها بديتها" [جامع العلوم والحكم].

ولذلك تجد الذاکرین هم أبعد الناس عن الهمّ والكآبة والسخط، وبمقدار الذكر يكون الانشراح في الصدر، وضيق الصدر أقرب لأهل المعاصي والمسرفين في المباحات وأهل الغفلة، قال ابن القيم رحمه الله: "وصدأ القلب الغفلة والهوى وجلاؤه الذكر والتوبة والاستغفار" [الوابل الصيب].

ومن عجيب حال الناس بحثهم السعادة واطمئنان القلب في غير ذكر الله وطاعته، ولو أنهم عملوا بما قاله خالق القلوب وباريها لكان خيرا لهم وأشد تثبيتا، إذ لا يعرف ما يصلح هذه القلوب إلا خالقها فهو بما خلق أعلم، قال سبحانه: {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ}، ولذلك نجد من طاف بين المعاصي ونال بغيته منها وغرق في ملذات الدنيا لم يحصّل بعدها إلا قسوة القلب وضيق الصدر، بل بعضهم لم يجد للحياة طعما فاختار الانتحار! ظانا أن ما بعد الموت أهون مما قبله، بينما نجد المجاهد في سبيل الله المتفرغ لعبادة الله العامل بما يرضي الله أسعد الناس قلبا وأشرحهم صدرا وإن فقد أهله وماله أو فقد أحد أعضائه أو أصابه أسر أو شدة؛ وما ذاك إلا لكثرة ذكرهم لله، واستعدادهم الدائم للقاء الله وجعلهم الدنيا خلف ظهورهم، قال عليه الصلاة والسلام: (عليكم بالجهاد في سبيل الله تبارك وتعالى، فإنه باب من أبواب الجنة يذهب الله به الهم والغم). [رواه أحمد]

فاللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، وصلّ اللهم وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.


• المصدر:
صحيفة النبأ - العدد 297
الخميس 19 ذي الحجة 1442 هـ

683b4c4f96693

  • 1
  • 0
  • 6

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً