مقال / تُحف الذاكرين (3) الحمد لله حمدا حمدا والشكر له شكرا شكرا، والصلاة والسلام على نبيا ...

منذ حوالي ساعة
مقال / تُحف الذاكرين (3)


الحمد لله حمدا حمدا والشكر له شكرا شكرا، والصلاة والسلام على نبيا محمد خير الورى طُرا، وعلى آله وأصحابه الصابرين على الحق حلوا ومرّا، ومَن تبعهم بإحسان إلى يومٍ يُجازى فيه العباد على ما عملوه خيرا وشرا، وبعد.
فهذه تتمة لتُحف الذاكرين التي أعدها الله تعالى لهم، والتي بدأناها فيما سبق:

التحفة الخامسة: الفلاح والفوز، قال الله عز وجل: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الجمعة:10]، ولم يرضَ ربُّنا سبحانه وتعالى مِن ذكره إلا بالكثير، قال ابن عباس رضي الله عنهما: "لا يفرض سبحانه على عباده فريضة إلا جعل لها حدًّا معلومًا، ثم عذر أهلها في حال عذر غير الذكر، فإن الله لم يجعل له حدًّا ينتهي إليه، ولم يعذر أحدا في تركه إلا مغلوبا على عقله، قال: {فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ}، بالليل والنهار في البر والبحر، وفي السفر والحضر، والغنى والفقر، والسقم والصحة، والسر والعلانية، وعلى كل حال" [تفسير الطبري].

فحال المؤمن أنه كثير الذكر لله، ولذلك وصف الله مَن قلّ ذكره له بالنفاق، فقال تعالى: {وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا} [النساء:142]، وجعل الله مآل الذاكرين الفلاح وهو الفوز بدخول الجنة والنجاة من النار؛ لأن ذكر الله يثقّل الموازين ويقود الإنسان إلى ترك المعاصي وبغضها، بل فيه مغفرة للذنوب وبذلك يُحصّل الإنسان الغاية المطلوبة {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ} [آل عمران:185].

والذاكرون يسبقون غيرهم كما قال صلى الله عليه وسلم: (سبق المفَرِّدون قالوا: و ما المفَرِّدون يا رسول الله قال: الذاكرون الله كثيرا والذاكرات)، وفي رواية: (المستهترون لذكر الله عز وجل، يضع الذكر عنهم أثقالهم فيأتون يوم القيامة خفافا) [مسلم] (والمستهترون أي: المولعون بالذكر المداومون عليه)، وهذا فوز عظيم أن توضع عنهم أثقالهم فيأتوا يوم القيامة خفافا، ثم تكون لهم الجنة بعد ذلك، جعلنا الله منهم.

التحفة السادسة: الخروج من الظلمات إلى النور، قال عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا * هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا} [الأحزاب:41-43]، فبذكر الله كثيرا يُصلي الله على عبده، روى البخاري عن أبي العالية: "صلاة الله: ثناؤه عليه عند الملائكة، وصلاة الملائكة الدعاء"، وقال الطبري رحمه الله: "إذا أنتم فعلتم ذلك، الذي يرحمكم، ويثني عليكم هو، ويدعو لكم ملائكته. وقيل: إن معنى قوله {يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ}: يشيع عنكم الذكر الجميل في عباد الله. وقوله: {لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} يقول: تدعو ملائكة الله لكم؛ فيخرجكم الله من الضلالة إلى الهدى، ومن الكفر إلى الإيمان. [التفسير]

وأول نور الذكر ما يجده الذاكر من النور في قلبه بمعرفته الحق وأهله وانشراحه للحق ومحبته له، كما قال تعالى: {وَلَٰكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَٰئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ} [الحجرات:7]، بينما تارك الذكر لله مغمور في ظلمة الغفلة قلبه مظلم مشمئز من الذكر، {وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} [الزمر:45]، وقال تعالى: {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَىٰ نُورٍ مِّنْ رَّبِّهِ فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِّنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَٰئِكَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ} [الزمر:22]، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تكثروا الكلام بغير ذكر الله فإن كثرة الكلام بغير ذكر الله قسوة للقلب، وإن أبعد الناس من الله القاسي) [الترمذي].

ويُعطى الذاكر نورًا في اتباع الحق بعدما وُفق لمعرفته، بينما قليل الذكر لا يوفق لاتباعه والعمل به!؛ فهو في ظلمة الهوى وظلمة تزيين الباطل وظلمة التعلق بالدنيا، ولم يوفَق الكثير من الناس للنفير والجهاد بسبب تلك الظلمات، ويُعطى الذاكر نورَ الفراسة وتمييز الحق من الباطل حين اشتباه الأمور، فيرى بنور الله ما لا يراه الغافلون ويُدرك مآلات الأحداث ويتفطّن لخطوات الشيطان من أولها.


وهذا النور لمن ذكَر الله بقلبه ولسانه معاً، فكثير يذكرون الله بألسنتهم لا بقلوبهم فلا ينتفعون، أما من تواطأ قلبه ولسانه الذكرَ فإنه يستشعر عظمة الله، فمحال لمثله أن يقول: "سبحان الله" وينزّه الله عما لا يليق به ثم يرضى بمشّرع سوى الله جاعلا نفسه نداً لله، ومحال أن يقول: "الحمد لله" ثم يعزو الفضائل والنعم للطاغوت الكافر بالله المبدل لشرع الله، ومحال أن يقول: "لا إله إلا الله" ويشرك بالله في حكمه ويُقر بمعبود سوى الله، ومحال أن يقول: "الله أكبر" فيخشى سواه أو يترك منهاج الحق نزولا تحت ضغط الواقع وهو يعلم أنه لا أكبر من الله شيء، هذه معاني النور في الذكر يوفَّق إليها من كان صادقًا وأراد هيمنة نور الله في الأرض.

التحفة السابعة: القوة على طاعة الله، قال هود عليه السلام لقومه: {وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِّدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَىٰ قُوَّتِكُمْ} [هود:52] وقال تعالى حين أرسل موسى عليه السلام إلى فرعون: {اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي} [طه:42] قال ابن كثير: "والمراد أنهما لا يفتران في ذكر الله، بل يذكران الله في حال مواجهة فرعون، ليكون ذكر الله عونا لهما عليه، وقوة لهما وسلطانا كاسرا له، كما جاء في الحديث: "إن عبدي كل عبدي الذي يذكرني وهو مناجز قِرْنه". [التفسير]، والمعنى: أي أن عبدي الحقيقي، الذي أخلص في العبادة، ولم يغفل عن ذكري، هو من ذكرني في ساحة القتال مع قرنه وخصمه.

فذكر الله قوة للمؤمن على طاعة الله، وتركه ضعف وعجز، وسبب لاقتراف الذنوب والوهن النفسي، والقوة الحقيقية هي قوة الإيمان ولزوم الحق لا قوة الجسد، ومنه قوله عليه الصلاة والسلام: (ليس الشديد بالصرعة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب) [البخاري].

وفي المقابل فإن الكسل حقيقته كسل القلب لا كسل البدن؛ لأنه من الشيطان، وقد كان عليه الصلاة والسلام يستعيذ بالله من الكسل، وإن أول مراتب الضعف قلة ذكر الله لذلك قرَن الله بين الكسل وقلة الذكر في كلامه عن المنافقين فقال سبحانه: {وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَىٰ يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا} [النساء:142]، ومن أراد علاج ما به من ضعف أو عجز أو كسل، فأول ما عليه أن يكثر من ذكر الله، ليطرد وساوس الشيطان، وسيجد بعد ذلك عزمًا على الطاعة وقوة على النفس في كبح جماحها عن المساوئ أو ترويضها على الشدائد، وعلى من أراد التوفيق للجهاد أن يكثر من الذكر، والمجاهد أيضا إن أراد العون على جهاده فليكثر من ذكر الله، فإنه من أعظم أسباب العون.

هذه بعض تحف الذاكرين وإنها كثيرة لمن تدبّرها وتبحّثها في كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، وقد أفرد لها العلماء كتبا وأجزاء حديثية، ومع يُسْر هذه العبادة إلا أنه لا يوفق لها إلا النُدرة الطيّبة من عباد الله، فحرصًا حرصًا على ركوب مطايا الذاكرين، وحذرًا حذرًا من ارتضاء سبيل الغافلين الغاوين.

والمجاهد في سبيل الله بهذه الوصية أخص؛ لأنه المأمور بعدم الفتور عن ذكر الله، فهو الأحوج إليه، والشياطين حوله تنتظر منه غفلة لتتهجّم عليه، فليحذر من الثغْرة ولينتبه من الغِرّة، والله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.


• المصدر:
صحيفة النبأ - العدد 298
الخميس 26 ذي الحجة 1442 هـ

6873fd2836f8b

  • 1
  • 0
  • 6

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً