مقال: جاه الأكارم (5) -النصيحة- الحمد لله الحليم العليم، محب التوابين ومحب المتطهرين، والصلاة ...
منذ يوم
مقال: جاه الأكارم (5) -النصيحة-
الحمد لله الحليم العليم، محب التوابين ومحب المتطهرين، والصلاة والسلام على خير النبيين وسيد الواعظين، وعلى آله وصحبه الصادقين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وبعد.
الدين النصيحة، منهجٌ نبويٌ ونظام صفاءٍ وتكاتفٍ جماعيٍ جاءت به الشريعة، ليتدارك المسلمون بعضَهم حين يزلّ أحدهم؛ لأنه لا يكفي الاقتصار على صلاح النفس فقط، فالمؤمن مرآة أخيه، وهو من باب محبة الخير للناس وهو من كمال الإيمان، قال صلى الله عليه وسلم: (لا يؤمن أحدكم حتى يُحب لأخيه ما يحب لنفسه) [البخاري ومسلم]
ولأهمية النصيحة بين المسلمين؛ بايع بعض الصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم عليها، فعن جَريرِ بنِ عبدِ اللهِ رضي الله عنه قَال: "بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والنصح لكل مسلم" [متفق عليه]، وعَنْ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (الدين النصيحة قلنا: لمن؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم) [متفق عليه].
قال ابن الأثير رحمه الله: "نَصيحةُ عامّةِ المسلمين: إرشادُهم إلى مصالِحِهم" [النهاية في غريب الحديث]، ويقصد بالنُّصح أيضا: تحري فِعل أو قول فيه صلاح صاحبه، أو هو إخلاص العمل عن شوائب الفساد، أمَّا النصيحة: فهي الدُّعاء إلى ما فيه الصلاح، والنَّهي عمَّا فيه الفساد. [التعريفات للجرجاني]
وأنصح الخلق للخلق هم الأنبياء عليهم أفضل الصلاة وأتم التسليم، الذين تحملوا أذى أقوامهم في سبيل إخراجهم من الشرك إلى توحيد رب العالمين، الذي فيه في نجاتهم وصلاحهم في الدنيا والآخرة، فنبي الله نوح عليه الصلاة والسلام خاطب قومه قائلا لهم: {أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [الأعراف:62]، وهذا هود عليه السلام يقول لقومه: {أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ} [الأعراف:68]
والنصح أحد حقوق المسلم على أخيه المسلم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (حقُّ المسلم على المسلم سِتٌّ، قيل: ما هنَّ يا رسول الله؟ قال: إذا لقيتَه فسلِّم عليه، وإذا دعاك فأجِبه، وإذا استنصحك فانصح له، وإذا عطس فحمد اللهَ فشمِّته، وإذا مرِض فعُدْه، وإذا مات فاتَّبعه) [رواه مسلم]، بل ولِما في النصيحة من أثر عظيم متعدٍ لسائر الناس، لم تكن مقتصرة على الحر دون العبد المسلم، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا نَصح العبدُ سيِّدَه وأحسن عبادة ربِّه، كان له أجرُه مرَّتين). [أخرجه البخاري]
• من آداب النصيحة
وللنصح آداب لا بد أن يتحلى بها الناصح الشفيق ما أمكن؛ كي يُقبل منه الخير الذي أراد إيصاله بالنصيحة، قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: "وأما النصيحة للمسلمين: فأنْ يحب لهم ما يحب لنفسه، ويكره لهم ما يكره لنفسه، ويشفق عليهم ويرحم صغيرهم، ويوقر كبيرهم، ويحزن لحزنهم، ويفرح لفرحهم، وإنْ ضره ذلك في دنياه، كرخص أسعارهم، وإنْ كان في ذلك فوات ربح ما يبيع في تجارته، وكذلك جميع ما يضرهم عامة، ويحب ما يصلحهم، وألفتهم، ودوام النعم عليهم، ونصرهم على عدوهم، ودفع كل أذى ومكروه عنهم، وقال أبو عمرو بن الصلاح: النصيحة كلمة جامعة تتضمن قيام الناصح للمنصوح له بوجوه الخير إرادةً وفعلاً". [جامع العلوم والحكم]
ومن آداب النصيحة، قول ابن رجب أيضا: "فإذا أخبر الرجل أخاه بعيب ليَجتنبه، كان ذلك حَسَنًا لمن أخُبِر بعيبٍ من عيوبه أن يعتذر منها إنْ كان له منها عذرٌ، وإنْ كانَ ذلك على وجه التوبيخ بالذنب، فهو قبيحٌ مذمومٌ، وكان السَّلَف يَكرهون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في العَلَن، ويحبُّون أن يكون سرًّا فيما بين الآمر والمأمور؛ فإن هذا من علامات النُّصْح، فإن الناصح ليس له غرض في إشاعة عيوب مَنْ ينصح له؛ وإنما غرضه إزالة المفسدة التي وقع فيها، فشتَّان بين مَنْ قَصْده النصيحة وبين مَنْ قَصْده الفضيحة، ولا تلتبس إحداهما بالأخرى إلَّا على مَنْ ليس من ذوي العقول الصحيحة، ومِنْ أظهرِ التعييرِ إظْهارُ السوء، وإشاعتُه في قالبِ النُّصْح، وزعْمُ أنه إنما يحمله على ذلك العيوب؛ إمَّا عامًّا أو خاصًّا، وكان في الباطن إنما غرضُه التعيير والأذى، ومَنْ بُلِيَ بشيء مِنْ هذا المكْر، فليتَّقِ الله، وليستعِنْ به ويصبر؛ فإن العاقبة للتقوى، والواقع يشهد بذلك، فإنَّ مَنْ سَبَر أخبار الناس، وتواريخ العالم، وَقفَ على أخبار مَنْ مَكَرَ بأخيه، فعاد مَكْرُهُ عليه، وكان ذلك سببًا لنجاته وسلامته على العجب العُجاب". انتهى كلامه رحمه الله [الفرق بين النصح والتعيير باختصار]
• الفرق بين التعيير والنصح!
كما أن الناصح لا بد أن يضع بحسبانه أنه وكما يحب أن يُنصح بالسر فهذا ينطبق على غيره من المسلمين أيضا فما من أحد إلا ويحب أن يُنصح سرا، قال ابن رجب رحمه الله: "كان السَّلفُ إذا أرادوا نصيحةَ أحدٍ، وعظوه سراً، حتّى قال بعضهم: مَنْ وعظ أخاه فيما بينه وبينَه فهي نصيحة، ومن وعظه على رؤوس الناس فإنَّما وبّخه. وقال الفضيل: المؤمن يَسْتُرُ ويَنْصَحُ، والفاجرُ يهتك ويُعيِّرُ" [جامع العلوم والحكم]، وقال ابن حزم رحمه الله: "إِذا نصحت فانصح سرا لَا جَهرا، وبتعريض لَا تَصْرِيح، إِلَّا أَن لَا يفهم المنصوح تعريضك، فَلَا بدُ من التَّصْرِيح... فَإِن تعديت هَذِه الْوُجُوه فَأَنت ظَالِم لَا نَاصح" [الأخلاق والسير]، إلا إذا اقتضت المصلحة أن يجهر بالنصح أمام الملأ في حال كان الأمر يخص رد شبهة أو بدعة دعى الحال للجهر بها كي يتبين الحق من الباطل فهنا يكون الجهر مشروعا في حق الناصح، قال ابن رجب رحمه الله: "إن كان مقصوده مجرد تبيين الحق، ولئلا يغتر الناس بمقالات من أخطأ في مقالاته: فلا ريب أنه مثاب على قصده، ودخل بفعله هذا بهذه النية في النصح لله ورسوله وأئمة المسلمين وعامتهم". [الفرق بين النصيحة والتعيير]
ومن آداب النصيحة أن يختار العبارات اللينة، وكلٌ على حسب حاله والأصل في النصح أن يكون باللين، قال تعالى: {فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَىٰ} [طه:44]، وهذا خطاب من الله لنبيه موسى عليه السلام لطريقة خطاب فرعون الذي طغى وكان يقول: {أنا ربكم الأعلى}، وقد كان في علم الله إعراض فرعون وتكذيبه، ولكن الله أراد أن يؤدب أولياءه ويدلهم إلى طريقة النصح وإقامة الحجة، ولا شك أن من كان أقل حالا من فرعون طغيانا وجبروتا كان أولى باللين في الخطاب والنصح.
ومن آداب النصيحة كتمان السر للمسلمين -وهذا إن لم يتعلق الأمر بشيء من أمور المسلمين العامة، فإن كان كذلك كفساد في العقيدة والدين وجب إفشاؤه للتحذير منه- ولا بد أن يستند في ذلك على شيء يقيني هو متأكد من حدوثه فيمن عزم على نصحه، لا على أمور ظنية وأوهام لا حقيقة لها؛ وذلك لتكون النصيحة في مكانها.
لا تنصح على شرط القبول
ومن آداب النصيحة أن يضع بحسبانه أن الصبر بمثابة الرأس للجسد في الأمور كلها، وأن يتوقع أسوأ الردود ولو كانت نصيحته نابعة عن محبة وإرادة للخير للمنصوح، فالأنفس تختلف في استقبالها وردها، وما دام أنه أراد وجه ربه جل في علاه فسيكون لها أثر ولو بعد حين بإذن الله، قال ابن حزم رحمه الله: "لا تنصحْ على شرط القَبول، ولا تشفعْ على شرط الإجابة، ولا تَهَب على شرط الإثابة، لكن على سبيلِ استعمالِ الفضل وتأديةِ ما عليك من النصيحة والشفاعة وبذلِ المعروف" [الأخلاق والسير]، كما أنه لا بد من تحري الوقت المناسب للنصيحة، قال ابن مسعود رضي الله عنه: "إن لهذه القلوب شهوة وإقبالا، وإن لها فترة وإدبارا، فخذوها عند شهوتها وإقبالها، وذروها عند فترتها وإدبارها" [رواه ابن المبارك في الزهد]
اللهم اجعلنا نَصَحَة صادقين، للحق قوّالين وللمنكر نهّائين، وفي أعمالنا مخلصين، وصلِّ اللهم وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.
• المصدر:
صحيفة النبأ - العدد 305
الخميس 16 صفر 1443 هـ
الحمد لله الحليم العليم، محب التوابين ومحب المتطهرين، والصلاة والسلام على خير النبيين وسيد الواعظين، وعلى آله وصحبه الصادقين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وبعد.
الدين النصيحة، منهجٌ نبويٌ ونظام صفاءٍ وتكاتفٍ جماعيٍ جاءت به الشريعة، ليتدارك المسلمون بعضَهم حين يزلّ أحدهم؛ لأنه لا يكفي الاقتصار على صلاح النفس فقط، فالمؤمن مرآة أخيه، وهو من باب محبة الخير للناس وهو من كمال الإيمان، قال صلى الله عليه وسلم: (لا يؤمن أحدكم حتى يُحب لأخيه ما يحب لنفسه) [البخاري ومسلم]
ولأهمية النصيحة بين المسلمين؛ بايع بعض الصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم عليها، فعن جَريرِ بنِ عبدِ اللهِ رضي الله عنه قَال: "بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والنصح لكل مسلم" [متفق عليه]، وعَنْ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (الدين النصيحة قلنا: لمن؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم) [متفق عليه].
قال ابن الأثير رحمه الله: "نَصيحةُ عامّةِ المسلمين: إرشادُهم إلى مصالِحِهم" [النهاية في غريب الحديث]، ويقصد بالنُّصح أيضا: تحري فِعل أو قول فيه صلاح صاحبه، أو هو إخلاص العمل عن شوائب الفساد، أمَّا النصيحة: فهي الدُّعاء إلى ما فيه الصلاح، والنَّهي عمَّا فيه الفساد. [التعريفات للجرجاني]
وأنصح الخلق للخلق هم الأنبياء عليهم أفضل الصلاة وأتم التسليم، الذين تحملوا أذى أقوامهم في سبيل إخراجهم من الشرك إلى توحيد رب العالمين، الذي فيه في نجاتهم وصلاحهم في الدنيا والآخرة، فنبي الله نوح عليه الصلاة والسلام خاطب قومه قائلا لهم: {أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [الأعراف:62]، وهذا هود عليه السلام يقول لقومه: {أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ} [الأعراف:68]
والنصح أحد حقوق المسلم على أخيه المسلم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (حقُّ المسلم على المسلم سِتٌّ، قيل: ما هنَّ يا رسول الله؟ قال: إذا لقيتَه فسلِّم عليه، وإذا دعاك فأجِبه، وإذا استنصحك فانصح له، وإذا عطس فحمد اللهَ فشمِّته، وإذا مرِض فعُدْه، وإذا مات فاتَّبعه) [رواه مسلم]، بل ولِما في النصيحة من أثر عظيم متعدٍ لسائر الناس، لم تكن مقتصرة على الحر دون العبد المسلم، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا نَصح العبدُ سيِّدَه وأحسن عبادة ربِّه، كان له أجرُه مرَّتين). [أخرجه البخاري]
• من آداب النصيحة
وللنصح آداب لا بد أن يتحلى بها الناصح الشفيق ما أمكن؛ كي يُقبل منه الخير الذي أراد إيصاله بالنصيحة، قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: "وأما النصيحة للمسلمين: فأنْ يحب لهم ما يحب لنفسه، ويكره لهم ما يكره لنفسه، ويشفق عليهم ويرحم صغيرهم، ويوقر كبيرهم، ويحزن لحزنهم، ويفرح لفرحهم، وإنْ ضره ذلك في دنياه، كرخص أسعارهم، وإنْ كان في ذلك فوات ربح ما يبيع في تجارته، وكذلك جميع ما يضرهم عامة، ويحب ما يصلحهم، وألفتهم، ودوام النعم عليهم، ونصرهم على عدوهم، ودفع كل أذى ومكروه عنهم، وقال أبو عمرو بن الصلاح: النصيحة كلمة جامعة تتضمن قيام الناصح للمنصوح له بوجوه الخير إرادةً وفعلاً". [جامع العلوم والحكم]
ومن آداب النصيحة، قول ابن رجب أيضا: "فإذا أخبر الرجل أخاه بعيب ليَجتنبه، كان ذلك حَسَنًا لمن أخُبِر بعيبٍ من عيوبه أن يعتذر منها إنْ كان له منها عذرٌ، وإنْ كانَ ذلك على وجه التوبيخ بالذنب، فهو قبيحٌ مذمومٌ، وكان السَّلَف يَكرهون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في العَلَن، ويحبُّون أن يكون سرًّا فيما بين الآمر والمأمور؛ فإن هذا من علامات النُّصْح، فإن الناصح ليس له غرض في إشاعة عيوب مَنْ ينصح له؛ وإنما غرضه إزالة المفسدة التي وقع فيها، فشتَّان بين مَنْ قَصْده النصيحة وبين مَنْ قَصْده الفضيحة، ولا تلتبس إحداهما بالأخرى إلَّا على مَنْ ليس من ذوي العقول الصحيحة، ومِنْ أظهرِ التعييرِ إظْهارُ السوء، وإشاعتُه في قالبِ النُّصْح، وزعْمُ أنه إنما يحمله على ذلك العيوب؛ إمَّا عامًّا أو خاصًّا، وكان في الباطن إنما غرضُه التعيير والأذى، ومَنْ بُلِيَ بشيء مِنْ هذا المكْر، فليتَّقِ الله، وليستعِنْ به ويصبر؛ فإن العاقبة للتقوى، والواقع يشهد بذلك، فإنَّ مَنْ سَبَر أخبار الناس، وتواريخ العالم، وَقفَ على أخبار مَنْ مَكَرَ بأخيه، فعاد مَكْرُهُ عليه، وكان ذلك سببًا لنجاته وسلامته على العجب العُجاب". انتهى كلامه رحمه الله [الفرق بين النصح والتعيير باختصار]
• الفرق بين التعيير والنصح!
كما أن الناصح لا بد أن يضع بحسبانه أنه وكما يحب أن يُنصح بالسر فهذا ينطبق على غيره من المسلمين أيضا فما من أحد إلا ويحب أن يُنصح سرا، قال ابن رجب رحمه الله: "كان السَّلفُ إذا أرادوا نصيحةَ أحدٍ، وعظوه سراً، حتّى قال بعضهم: مَنْ وعظ أخاه فيما بينه وبينَه فهي نصيحة، ومن وعظه على رؤوس الناس فإنَّما وبّخه. وقال الفضيل: المؤمن يَسْتُرُ ويَنْصَحُ، والفاجرُ يهتك ويُعيِّرُ" [جامع العلوم والحكم]، وقال ابن حزم رحمه الله: "إِذا نصحت فانصح سرا لَا جَهرا، وبتعريض لَا تَصْرِيح، إِلَّا أَن لَا يفهم المنصوح تعريضك، فَلَا بدُ من التَّصْرِيح... فَإِن تعديت هَذِه الْوُجُوه فَأَنت ظَالِم لَا نَاصح" [الأخلاق والسير]، إلا إذا اقتضت المصلحة أن يجهر بالنصح أمام الملأ في حال كان الأمر يخص رد شبهة أو بدعة دعى الحال للجهر بها كي يتبين الحق من الباطل فهنا يكون الجهر مشروعا في حق الناصح، قال ابن رجب رحمه الله: "إن كان مقصوده مجرد تبيين الحق، ولئلا يغتر الناس بمقالات من أخطأ في مقالاته: فلا ريب أنه مثاب على قصده، ودخل بفعله هذا بهذه النية في النصح لله ورسوله وأئمة المسلمين وعامتهم". [الفرق بين النصيحة والتعيير]
ومن آداب النصيحة أن يختار العبارات اللينة، وكلٌ على حسب حاله والأصل في النصح أن يكون باللين، قال تعالى: {فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَىٰ} [طه:44]، وهذا خطاب من الله لنبيه موسى عليه السلام لطريقة خطاب فرعون الذي طغى وكان يقول: {أنا ربكم الأعلى}، وقد كان في علم الله إعراض فرعون وتكذيبه، ولكن الله أراد أن يؤدب أولياءه ويدلهم إلى طريقة النصح وإقامة الحجة، ولا شك أن من كان أقل حالا من فرعون طغيانا وجبروتا كان أولى باللين في الخطاب والنصح.
ومن آداب النصيحة كتمان السر للمسلمين -وهذا إن لم يتعلق الأمر بشيء من أمور المسلمين العامة، فإن كان كذلك كفساد في العقيدة والدين وجب إفشاؤه للتحذير منه- ولا بد أن يستند في ذلك على شيء يقيني هو متأكد من حدوثه فيمن عزم على نصحه، لا على أمور ظنية وأوهام لا حقيقة لها؛ وذلك لتكون النصيحة في مكانها.
لا تنصح على شرط القبول
ومن آداب النصيحة أن يضع بحسبانه أن الصبر بمثابة الرأس للجسد في الأمور كلها، وأن يتوقع أسوأ الردود ولو كانت نصيحته نابعة عن محبة وإرادة للخير للمنصوح، فالأنفس تختلف في استقبالها وردها، وما دام أنه أراد وجه ربه جل في علاه فسيكون لها أثر ولو بعد حين بإذن الله، قال ابن حزم رحمه الله: "لا تنصحْ على شرط القَبول، ولا تشفعْ على شرط الإجابة، ولا تَهَب على شرط الإثابة، لكن على سبيلِ استعمالِ الفضل وتأديةِ ما عليك من النصيحة والشفاعة وبذلِ المعروف" [الأخلاق والسير]، كما أنه لا بد من تحري الوقت المناسب للنصيحة، قال ابن مسعود رضي الله عنه: "إن لهذه القلوب شهوة وإقبالا، وإن لها فترة وإدبارا، فخذوها عند شهوتها وإقبالها، وذروها عند فترتها وإدبارها" [رواه ابن المبارك في الزهد]
اللهم اجعلنا نَصَحَة صادقين، للحق قوّالين وللمنكر نهّائين، وفي أعمالنا مخلصين، وصلِّ اللهم وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.
• المصدر:
صحيفة النبأ - العدد 305
الخميس 16 صفر 1443 هـ