مقال: فإما نُرينَّك أو نتوفينَّك مختلفةٌ هي الموازين عند الله تعالى وعند البشر، فالله تبارك ...

منذ 20 ساعة
مقال: فإما نُرينَّك أو نتوفينَّك


مختلفةٌ هي الموازين عند الله تعالى وعند البشر، فالله تبارك وتعالى ربُّ السماوات والأرض وما بينهما، وربّ الدنيا والآخرة وهو أعلمُ بهما، أما البشر فهم خلْقٌ مِن خلقه وما أوتوا من العلم إلا قليلا، وعلى هذا فالقصور والجهل جِبِلّةٌ وأصلٌ فيهم.

ومن هذه الموازين المتباينة عند الله تعالى وعند البشر ميزان الفوز، ومع أن الله تعالى بيّن ووضّح هذا الميزان في كتابه الحكيم، لكن أكثر الناس لا يعقلون ولا يؤمنون.

فأكثر الناس اليوم يرون أن الفوز لا يكون إلا بالنصر والظفر، بينما يرون القتل دون ذلك خسارة وإخفاقا، ولذلك نسمع ونرى المنهزمين اليائسين يلمزون المجاهدين بعد مقتلهم على أيدي أعدائهم، ويتساءلون مستنكرين: ماذا استفادوا؟ وماذا حقّقوا؟ وماذا أنجزوا؟ ولأي شيء قُتلوا؟! فبئست الأقاويل أقاويل النفاق حسابات المادة.

ولقد أكّد القرآن الكريم حقيقة الفوز، لما خاطب اللهُ تعالى عباده المؤمنين بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَّوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا} [آل عمران:156]، فقد نهانا الله تعالى عن التشبّه بالمنافقين الذين اعترضوا على قضاء الله وقدره! وقالوا عن إخوانهم ممّن خرجوا للتجارة أو الغزو فقُتلوا: {لَّوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا}؛ ثم بيّن الله لنا الميزان الحقيقي الذي نزن به القتل والموت، وهو المحيي والمميت سبحانه فقال: {وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ} [آل عمران:157]، فالخيرية والفوز في القتل والموت في سبيل الله، وهو خير من الغنيمة التي يحصّلها الأحياء، بل خير من سائر ما يأمل أن يجمعه الجامعون من حطام الدنيا.

ثم إنّ الآجال موقوتة، فمن قُتل أو مات فهو إلى الله راجعٌ لا محالة، فلا يملك العبد توقيت وفاته، ولكنه يملك أن يختار في أي سبيل يُزهق نفسه ويُسيل دمه، أفي سبيل الله أو سبيل الطاغوت؟، سبيلان لا ثالث لهما.

وقد نزلت هذه الآية في قتلى أحد، التي قُتل فيها سبعون من الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم؛ وهي خسارة كبيرة في موازين البشر اليوم، فأراد الله تعالى أن يُرشد عباده المؤمنين إلى تصحيح الموازين والمقاييس التي يقيسون ويفرّقون بها بين الفوز والخسارة، وأن يهديهم إلى كيفية التعامل مع هذه المواقف التي ستتكرر كثيرا في خضم الحرب الدائرة بين معسكري الإيمان والكفر.

كما ذكر القرآن الكريم نماذج للفوز الحقيقي وقعت في الأمم السابقة، فيها ذكرى لمن أراد أن يذكّر، ومنها قصة السحَرة الذين دعاهم فرعون ليغلبوا موسى -عليه الصلاة والسلام- فلما جاؤوا وبدأ التحدي بين الفريقين، لم يلبثوا حتى خرّوا سُجّدا لله مؤمنين، فتوعدهم فرعون بالقتل والصلب، فما رجعوا عن دينهم الحق، بل ثبتوا وقالوا: {إِنَّا إِلَىٰ رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ * وَمَا تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ} [الأعراف:125-126] فقُتلوا في يومهم رضي الله عنهم، قال ابن كثير رحمه الله: "فكانوا في أول النهار سحرة، فصاروا في آخره شهداء بررة"، فهؤلاء لم يؤمنوا بالله تعالى أكثر من يوم! فما الذي استفادوه وما النصر والإنجاز الذي حققوه؟ لقد فازوا بالشهادة في سبيل الله وانتصروا حين ثبتوا على إيمانهم حتى قُتلوا جميعا، ولم يقل لهم موسى يومها إنكم أهلكتم أنفسكم باستعجالكم واستفزازكم لفرعون الطاغية، فما هذا بميزان أهل الآخرة، وليست تلك حساباتهم ولن تكون.

ومثال آخر لميزان الفوز، قصة أهل الأخدود الذين ضرب الله بهم مثلا يُتلى إلى يوم القيامة في الفوز والثبات، فهؤلاء الأبرار لم يلبثوا بين قولهم: "آمنا بربّ الغلام" وبين إحراقهم في الأخدود إلا يسيرا، وما رأوا بأعينهم هزيمة للكافرين ولا انتصارا للمؤمنين، ومع ذلك وصف الله نهايتهم بوصف لم يصفه في موضع آخر من كتابه، فقال: {ذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ}، فلم يكن موتهم فوزا فحسب، بل كان فوزا كبيرا، فتأمل.

ولقد أحيت الدولة الإسلامية ورعاياها هذه المعاني السامية في هذا العصر، كما وقع في قصة أهل الباغوز والموصل وغيرهم -تقبلهم الله تعالى-، فلقد أبادتهم طائرات الروم والفرس وأحرقت جثثهم ودمرت بيوتهم، وما نقموا منهم إلا أنهم آمنوا بالله وحده وكفروا بكل طواغيت الأرض، أفلا يكون ذلك فوزا كبيرا؟ بفضله تعالى.

ولا يعني ذلك أنّ الله لن يُهلك الذين كفروا وطغوا وقتلوا أولياءه، فمعاذ الله وهو الحكم العدل القوي العزيز، فقد قال تعالى بعد ذكر قصة أصحاب الأخدود: {إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ} [البروج:12]، وعلّق الطبري في تفسيره على هذه الآية بقوله: "هو تحذير من الله لقوم رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، أن يُحلّ بهم من عذابه ونقمته، نظير الذي حلّ بأصحاب الأخدود على كفرهم به"، وكذلك كانت نهاية فرعون الذي قتل السحرة -لما آمنوا- وخيمة، وهلاكه آية حتى يومنا هذا.

ولكن ليس كل عباد الله مقدّرا عليهم مشاهدة ومعاينة زوال الكافرين ونهايتهم، فكثيرون يتوفاهم الله قبل ذلك، كما قال تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ} [غافر:77]، قال الطبري: "أي: فإما نرينك يا محمد -في حياتك- بعض الذي نعد هؤلاء المشركين من العذاب، أو نتوفينّك قبل أن يَحِلَّ ذلك بهم"، ولو كان النصر هو الفوز لما توفّاه الله تعالى حتى أراه نهاية الكافرين وسيادة المسلمين على العالم، ولو كان هو الفوز لاختار النبيُّ أن يشهد انتصار الإسلام على فارس والروم بدلا من الرفيق الأعلى.

فالجنة هي ثواب الجهاد وهي الفوز العظيم الذي ذكرته آيِ القرآن المحرِّضة على الجهاد، وما النصر إلا "خصلة أخرى في العاجل، مع ثواب الآخرة تحبونها"، كما قال الله تعالى بعد قوله: {وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}، قال: {وَأُخْرَىٰ تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِّنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ}، قال ابن كثير: "أي: وأزيدكم على ذلك زيادة تحبونها نصر من الله"، فهذا ميزان الله تعالى وحكمه العدل، فإلى أي ميزان تحتكمون؟


• المصدر:
صحيفة النبأ - العدد 306
الخميس 23 صفر 1443 هـ

683b4c4f96693

  • 1
  • 0
  • 5

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً