مقال: جاه الأكارم (6) -الرفق- الحمد لله الملك الخلاق، والصلاة والسلام على نبينا محمد معلم ...

منذ 9 ساعات
مقال: جاه الأكارم (6) -الرفق-


الحمد لله الملك الخلاق، والصلاة والسلام على نبينا محمد معلم الإيمان والأخلاق، وعلى آله وصحبه ومن اقتفى أثرهم إلى يوم التلاق، أما بعد:

قسمَ الله سبحانه وتعالى الأخلاق كما قسم الأرزاق، فمن رُزقها فإنما رُزق خيرا كثيرا فليحمد الله، ومن لم يُعطها فليسعَ إليها كما يسعى لطلب الرزق، فما الرزق بأولى أن يسعى له العبد من الأخلاق، وكما قيل: إنما العلم بالتعلّم، والحلم بالتحلّم، ومن يتحرَّ الخيرَ يُعطه، ومن يتوقّ الشر يُوقَه.

ومن أجلّ أخلاق الأكارم وجاههم خلق الرفق، ذاكم الخلق الرفيع الذي يبلغ بأصحابه المنازل وتصلح به الأمور وتدرك به مفاتيح الأشياء، فكم من مشاكل شائكة كان علاجها في الرفق، وكم من أناس ما استُمكن منهم إلا بالرفق، وكم من ملك ساس قومه بالرفق فقاد أولهم وآخرهم أحسن قياد، فكل موفق رائد يشار له بالبنان يكون الرفق له رفيقا، وما أحد من الخلفاء الراشدين إلا وكان إماما في الرفق.


• الرفق من صفات الله تعالى

ويكفي للرفق منزلة أنه من صفات ربنا المتعال جل جلاله، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله رفيق يحب الرفق ويعطي على الرفق مالا يعطي على العنف) [رواه مسلم] قال النووي: "ومعنى يعطي على الرفق أي يثيب عليه ما لا يثيب على غيره" [شرح صحيح مسلم]
فهو من الأعمال التي يحبها الله من عباده، وإنه تعالى يعطي عليه -ولا عطاء كعطائه سبحانه- ما لا يعطي على ما سواه من الثواب والجزاء، فمن إذا يرغب عن عطاء الله تعالى؟.

والرفق يدخل في كل شيء ويزينه ويحسّنه ويُصلحه قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لم يدخل الرفق في شيء إلا زانه، ولم ينزع من شيء إلا شانه) [أحمد]، وقوله: "شيء" عامة تشمل المعاملة والكلام والتعليم والتكليف والعقاب، وتشمل بني آدم والمتاع والدواب، فكلٌ يزينه الرفق، وإن فُقد الرفق من شيء كان قبيحًا ومشينًا، قال صلى الله عليه وسلم: (من يُحرم الرفق يُحرم الخير) [مسلم]


• يسّروا وبشّروا وتطاوعوا

وإن حضور الرفق بين القوم لهو دليلٌ أن الله يريد بهم الخير، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا أراد الله بأهل بيت خيرا أدخل عليهم الرفق) [مكارم الأخلاق للطبراني] ولحاجة المبلّغ لهذا الدين إلى الرفق من معلّم أو أمير أو مجاهد، فقد أرشد النبي صلى الله عليه وسلم أمثالهم إليه، فهذان الصحابيان الجليلان أبو موسى الأشعري ومعاذ بن جبل رضي الله عنهما، بعثهما النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليمن فقال: (يسّرا ولا تعسّرا، وبشّرا ولا تنفّرا، وتطاوعا ولا تختلفا) [البخاري ومسلم]

فهذه وصية مهمة "التيسير والتبشير"، التيسير لأمور الشرع وتكاليفه التي ربما يراها بعض الناس عسيرة صعبة لا يمكن إدراكها ولا تأديتها فتُيسّر عليهم وتُهوّن، وتُعطى بأحسن طريقة وفي أنسب وقت، مع التبشير بما أعدّ الله لفاعلها من عظيم الجزاء في الآخرة، فإنه أنشط للعمل وأدعى للقبول.

ونهاهما عن "التعسير والتنفير" أي: تعسير الأمور لعامة المسلمين وتكليفهم ما لا طاقة لهم به، أو تهويل وتعظيم ما هو يسير من أمور الشرع أو أحوال الناس في دنياهم وحاجاتهم، فيفضي ذلك إلى تنفيرهم. قال النووي رحمه الله: "وفي هذا الحديث الأمر بالتبشير بفضل الله وعظيم ثوابه وجزيل عطائه وسعة رحمته، والنهي عن التنفير بذكر التخويف وأنواع الوعيد محضة من غير ضمها إلى التبشير، وفيه تأليف مَن قرُب إسلامه، وترْك التشديد عليهم، وكذلك مَن قارب البلوغ من الصبيان ومَن بلغ، ومَن تاب مِن المعاصي، كلهم يُتلطف بهم ويدرجون في أنواع الطاعة قليلا قليلا، وقد كانت أمور الإسلام في التكليف على التدريج، فمتى يُسّر على الداخل في الطاعة أو المريد للدخول فيها؛ سهلت عليه وكانت عاقبته غالبا التزايد منها، ومتى عُسّرت عليه أوشك أن لا يدخل فيها، وإن دخل أوشك أن لا يدوم، أو لا يستحليها" [شرح صحيح مسلم]

وقد أرشدهما النبي صلى الله عليه وسلم لهذا لأنهما يليان أمر الناس والمسؤولية عنهم، ومن وُلي أمر الناس كان القول له آكد من غيره، فقد جاء في صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (اللهم مَن ولي مِن أمر أمتي شيئا فشقّ عليهم فاشقق عليه! ومَن ولي مِن أمر أمتي شيئا فرفق بهم فارفق به)، قال النووي: "هذا من أبلغ الزواجر عن المشقة على الناس، وأعظم الحث على الرفق بهم وقد تظاهرت الأحاديث بهذا المعنى".

• ومن الرفق: الحلم والأناة

ويدخل في الرفق أيضا الحلم والأناة، فهاتان الصفتان يحبهما الله كما يحب الرفق، وقد أثنى النبي صلى الله عليه وسلم على أشج عبد القيس حين قدم مع وفده للمدينة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (إن فيك خصلتين يحبهما الله؛ الحلم والأناة) [مسلم]

فالحلم هو العقل، وهو أيضا العفو عند المقدرة، فحيثما استطاع الإنسان الانتقام لنفسه لكنه ترك ذلك مع مقدرته فهو حليم، والأناة هي التؤدة والرويّة وعدم الاستعجال في الأمور.

والعجلة وإنْ كانت من طبيعة ابن آدم وفطرته كما قال الله تعالى: {وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا} [الإسراء:11] إلا أنها أبعد عن الصواب؛ لأنها من الشيطان، وقال عمرو بن العاص رضي الله عنه: "لا يزال المرء يجتني من ثمرة العجلة الندامة"، إلا إنْ كانت العجلة في أمر الآخرة والمسارعة في الخيرات فهنا تكون محمودة ، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (التؤدة في كل شيء إلا في عمل الآخرة) [رواه أبو داود]، والقرآن يحث على المسارعة والتعجيل في أمور البر وأعمال الآخرة كقوله تعالى: {وَسَارِعُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّنْ رَّبِّكُمْ} [آل عمران:133]، {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ} [الأنبياء:90]،{فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} [البقرة:148]، {أُولَٰئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ} [المؤمنون:61].

والرفق خلق النبي صلى الله عليه وسلم، بل كان من هديه عليه الصلاة والسلام التيسير على أمته ما استطاع إلى ذلك، قالت عائشة رضي الله عنها: "ما خُيّر رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين أحدهما أيسر من الآخر إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثما، فإن كان إثما كان أبعد الناس منه" [متفق عليه] فحيث لا يكون إثم، ولا ضعف أو مداهنة في الدين، ولا ورود للشبهات، فالرفق سنة النبي صلى الله عليه وسلم.


• رفق النبي صلى الله عليه وسلم

ومن أمثلة رفقه صلى الله عليه وسلم، قصة الأعرابي الذي بال في المسجد، فقاموا إليه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تزرموه)، ثم دعا بدلو من ماء فصبّ عليه. [البخاري]، وفي رواية عند النسائي أنه قال: (دعوه، وأهريقوا على بوله دلوا من ماء؛ فإنما بُعثتم ميسّرين ولم تبعثوا معسّرين).

ومن ذلك أيضا قصة معاوية بن الحكم السلمي رضي الله عنه، لما جاء وصلى مع النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يكن يعلم أن الكلام قد نُهي عنه في الصلاة، قال: بينما أنا أصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ عطس رجل من القوم، فقلت: يرحمك الله، فرماني القوم بأبصارهم فقلت واثكل أمياه ما شأنكم؟ تنظرون إلي! فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم، فلما رأيتهم يُصمِّتُونني لكني سكت، فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبأبي هو وأمي ما رأيت معلّما قبله ولا بعده أحسن تعليما منه، فوالله ما كهرني ولا ضربني ولا شتمني، قال: (إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن). [مسلم]

وبالرفق يسلم الإنسان من الانتصار لنفسه حينما يُرشد غيره، فإن الغاية هي أن يؤخذ بالحق، ويبُيّن، لا أن يُحوّل الأمر لخصومة شخصية فتخرج عن طابعها الأصلي.
جعلنا الله هداة مهتدين غير ضالين ولا مضلين، مرشدين مسترشدين، وصلّ اللهم وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.


• المصدر:
صحيفة النبأ - العدد 306
الخميس 23 صفر 1443 هـ

683b4f9a9ea34

  • 1
  • 0
  • 5

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً