مقال: من مقاصد الجهاد فيما شرع الله سبحانه من الشرائع والعبادات حكمٌ كثيرة بعضها يعلمها ...

منذ 16 ساعة
مقال: من مقاصد الجهاد


فيما شرع الله سبحانه من الشرائع والعبادات حكمٌ كثيرة بعضها يعلمها الناس، وبعضها لا يعلمها إلا هو سبحانه، ولو أدركها العباد لأجابوا وما تأخروا عنها، وإن ظهر في بعضها المشقة لكن بمقدور العباد فعلها، وقد كانت عبادة الجهاد في سبيل الله تعالى من تلك العبادات التي لا يعلم كثير من الناس خيرها، وما شرع الله الجهاد لعباده المؤمنين إلا لأنها عبادة لا يقوم غيرها مقامها، ولِمَا في الجهاد من أمور لن تتحقق بدونه.

وقد اختتمت عدد من آيات الجهاد بالإشارة إلى خيرٍ غائب لو علمه الناس، قال تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَىٰ أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَىٰ أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [البقر:216]، قال ابن كثير: "أي: هو أعلم بعواقب الأمور منكم، وأخبر بما فيه صلاحكم في دنياكم وأخراكم؛ فاستجيبوا له، وانقادوا لأمره، لعلكم ترشدون"، وقال تعالى: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [التوبة:41]، وقال أيضا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَىٰ تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [الصف:10-11]

وقد بيّن لنا سبحانه بعض حِكم الجهاد ليكون ذلك دافعا لنا لإجلال هذه العبادة وتأديتها وجعلها من الأولويات وعدم الحيد عنها أو التقصير فيها.

فأعظم ما يتحقق بالجهاد تميُّز المؤمنين الذين يؤمنون بالغيب مِن مدعي الإيمان ليعلم الله الصادقين من الكاذبين، ويعلم مَن يقول ويفعل ممن يقول وينكص، فإن دعوى الإيمان بالله والتزام حكمه وشريعته لا تَصْدُق حتى يُضحي الإنسان في سبيل تلك الدعوى بأعظم ما عنده من نفس أو مال؛ قال الله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ}، قال ابن كثير: "أي: مَن نيته في حمل السلاح نصرة الله ورسله، وقوله: {إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} أي: هو قوي عزيز، ينصر من نصره من غير احتياج منه إلى الناس، وإنما شرع الجهاد ليبلو بعضكم ببعض".

وبالجهاد يظهر الدين الذي أنزله الله حقيقة؛ وذلك لأن أهل الكفر لن يرضوا عن الدين المنزل ولا عن أتباعه أن تكون لهم سيادة على الأرض وخاصة في هذا الزمان الذي صار فيه كل من استولى على الحكم عمِل جاهدا أن يعطل شيئا من شرائع الله ليرضى عنه الشرق والغرب، فإن لم يكن الجهاد فكيف إذًا ستقام الشرائع التي أمرنا الله بها؟ وكيف يظهر دين الله حقيقة؟ ولله الحكمة البالغة.

وبالجهاد يُهدى الناس إلى ما خُلقوا لأجله، فإن أئمة الكفر يحولون بين دين الله وبين العباد طمعا في مصالحهم ودنياهم، فشُرع الجهاد لقلع عروشهم ليصل دين الله إلى العباد، فكم أحيا الجهاد من أممٍ غافلة؟ كان عيشهم عيش البهائم وكأنما خلقوا عبثا، فما أيقظهم شيء كالجهاد في سبيل الله، ولنا في فتوحات المسلمين عبرة فلقد ضرب الإسلام بجرانه نحو الصين شرقا وإلى الأندلس حتى جنوب فرنسا غربا إلى أجزاء كبيرة من روسيا شمالا حتى أطراف "فينّا" إلى إفريقية جنوبا، حيث جلجل التكبير في تلك الأراضي ودُقت رقاب الكافرين حتى دخلت فئام كبيرة من الناس في عبادة الله التي خُلقوا لأجلها، وهذا مصداق قول الله تعالى: {وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَىٰ مَنْ يَشَاءُ} [التوبة:15]، وقد غلط أقوام بعمد أو بغيره فزعموا أن أكثر من دخل في الإسلام عن طريق دعوة التجار!، ومَن تأمل في الفتوحات حتى المئة الأولى من الهجرة وقد تجاوزت خيول الفاتحين الأندلس، ليعجب من ترهات أولئك المنتقصين من شأن الجهاد الذين يعتبرونه صدا عن سبيل الله وتشويها للإسلام الذي وصلنا على جماجم الفاتحين السابقين رضوان الله عليهم.

وبالجهاد يُحفظ الدين من الطعن والتحريف والتعطيل، فإن البلاد إن لم تُحكم بشرع الله قام الأفّاكون فقالوا الكذب وحرّفوا شرائع الدين كتحريف الشورى إلى الديمقراطية، وتعطيل الحدود التي أنزلها الله بزعم عدم صلاحيتها لهذا الزمان!، والطعن في أحكام الله تعالى وما حكاه الشرع من أمور الغيب والاستهزاء بها، فإن تلك النفوس لن ترعوي إلا بإزهاقها وكتم أنفاسها، قال الله تعالى محرّضا عباده على قتل هؤلاء: {وَإِنْ نَّكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِّنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ} [التوبة:12]

وبالجهاد يأمن المسلم على نفسه وماله وعرضه؛ ولذلك يكثر القتل في المسلمين وتنتهك حرماتهم متى تُرِك الجهاد في سبيل الله، وهل يخفى على أحد حال المسلمين اليوم وما يسامون به من سوء العذاب؟ وفي المقابل فإن استنزاف الصليبيين وأوليائهم المرتدين بالجهاد هو الذي أوقف كثيرا من دماء المسلمين التي عمت الأرض في العقود الماضية ولنا في غرب ووسط إفريقية خير دليل، وإن في استمرار الجهاد لدفعا لما يعانيه المسلمون اليوم من قتل واضطهاد، قال تعالى: {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} [البقرة:251]

وبالجهاد يفتح الله لعباده المؤمنين أبواب الرزق والنعم فتأتيهم الدنيا وهي راغمة، وإنْ تركوا الجهاد لأجل الدنيا والانشغال بالحرث والأنعام والافتتان بالوظائف والحطام؛ أصابهم الذلُّ وأهلكهم الوَهَن، وأخذ عدوُّهم ثرواتهم على أعينهم، فبلاد المسلمين هي أغنى بلاد الأرض كنوزا وسكانها أكثر الناس فقرا؛ لأن خيرات أراضيهم تُنقل إلى بلاد أعدائهم الصليبيين، وما ذاك إلا عقاب من الله جزاء ترك الجهاد، فجوزوا بالنقيض، فلما تركوا الجهاد حبّا في الدنيا أُهْلِكُوا فيها فشَقَوا ولم يحصّلوا إلا أدنى الرزق، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد، سلط الله عليكم ذلا لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم) [أبو داود]

وبالجهاد إذلال وخزي الكافرين الذين حادّوا الله وآذوا عباده، قال ابن كثير رحمه الله: "وقتل المؤمنين الكافرين أشد إهانة للكافرين، وأشفى لصدور المؤمنين، كما قال تعالى للمؤمنين من هذه الأمة: {قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين}، ولهذا كان قتل صناديد قريش بأيدي أعدائهم الذين ينظرون إليهم بأعين ازدرائهم، أنكى لهم وأشفى لصدور حزب الإيمان، فقتل أبي جهل في معركة القتال وحومة الوغى، أشد إهانة له من أن يموت على فراشه بقارعة أو صاعقة أو نحو ذلك". هذا وغيرها خيرات خُصت في الجهاد حُرمها الكثير وهم لا يشعرون، ويجدها المجاهدون وهم في ظل فيئها يعيشون، ولِنِعم ربهم شاكرون، والحمد لله رب العالمين.


• المصدر:
صحيفة النبأ - العدد 309
الخميس 14 ربيع الأول 1443 هـ

683b4c4f96693

  • 1
  • 0
  • 5

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً