ولو أرَادُوا الخُروجَ لأعدُّوا لهُ عُدَّةً يَشترط الكثير من النّاس على أنفسهم شروطًا للجهاد ...

منذ يوم
ولو أرَادُوا الخُروجَ لأعدُّوا لهُ عُدَّةً


يَشترط الكثير من النّاس على أنفسهم شروطًا للجهاد تهرّبا منه، وتبريرًا للمزيدِ من القعودِ وشرودًا عن آيات الوعيد، فاختزله بعضهم بصفاتٍ معيّنة بزعمهم أنّه لا بد أن يكون المرء فريد زمانه حتى يصبح مجاهدا في سبيل الله تعالى، وظنوا أنّ الجهاد فرض لقوم مخصوصين دون غيرهم، ولو نظرنا إلى كتاب الله تعالى لوجدنا الخطاب لكل من يؤمن بالله، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِّنَ الْكُفَّارِ}، وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ} وفي بعض الآيات يُعمم الله تعالى الأمر بالجهاد لكلّ أصناف المؤمنين حتى لا يبقى لأحد عذر، قال تعالى: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} تنوّع بيان معنى هذه الآية بين أقاويل المفسرين وهي: "شيوخًا وشبانًا" و"أغنياء وفقراء"، و"مشاغيل وغير مشاغيل" و"نِشاطًا وغير نِشاط"، و"ركبانًا ومشاةً"، وهل المشاغيل بأي شغل كان من علم أو صناعة أو تجارة، وغير المشاغيل من الفارغين وأهل العطالة، ومن ثَقُلُوا وشاخُوا ومن هم شباب إلا من عوام المسلمين؟ وهل هؤلاء إلا من كان مقترفا بعض الذنوب؟، فلم يكن إذا الخطاب خاصا بصنف من الناس.

وإن تعذّر الإنسان بترك الجهاد لذنوبه؛ فإن الهجرة والجهاد أعظم أبواب تكفير الذنوب والخطايا، فالهجرة تجُبّ ما قبلها، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وإنّ الهجرة تجبّ ما كان قبلها)، والجهاد به مغفرة الذنوب، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَىٰ تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ... } إلى قوله -عزّ وجلّ-: {يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ}، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (للشهيد عند الله ستّ خصال، يغفر له في أول دفعة من دمه)، وإن قَتَل المجاهدُ كافرا كان ذلك أمانًا له من النار وعتقا لنفسه منها -بإذن الله-، قال عليه الصّلاة والسّلام: (لا يجتمع كافر وقاتله في النار أبدا)، ولن يجتمع غبار في سبيل الله مع دخان نار جهنم في أنف امريء أبدا، قال عليه الصّلاة والسّلام: (لا يجتمع غبار في سبيل الله ودخان جهنم في جوف عبد أبدا) فإن أمّنه الله تعالى من أن يدخل إلى جوفه شيء من دخان جهنم فإن ورودها أبعد منه إن شاء الله.

ولقد اعتاد كثير من الناس إذا فكّر في التوبة أن يأتي بعدها لمكّة فيعتمر أو يحج يتحرّى بذلك قَبول توبته، فيبدأ صفحة جديدة من بيت الله الحرام وعند سقيا ماء زمزم المبارك، وهذا خير عظيم وعمل صالح جليل، ولكن لا تساوى تلك اللحظات مع من يمّم وجهه نحو ساحات الجهاد وغبّر قدماه، وسالت في سبيل الله دماه، فهذا أعظم أجرا بلا شك، بل إن تسوية الصورتين من الظلم، قال تعالى: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}، وهذا إن كان تطوعا أو فرض كفاية، فكيف إذا كان الجهاد فرض عين كما نعيشه في هذا الزمان؟!.

فإنه لا شيء أوجب بعد الإيمان من الجهاد في سبيل الله تعالى، قال ابن تيمية رحمه الله: "وأما قتال الدفع فهو أشد أنواع دفع الصائل عن الحرمة والدين فواجب إجماعا، فالعدو الصائل الذي يفسد الدين والدنيا لا شيء أوجب بعد الإيمان من دفعه فلا يشترط له شرط بل يدفع بحسب الإمكان"، فالعدو الصائل يُقاتل ويُجاهد وإن تعددت أصنافه بجيوش أو تكتلات أو تحالفات ولا يُقاتل تحت راية أحدهم ضد الآخر؛ فالكل صائل على الدين، والكل يسعى لمنع تحكيم شريعة الله تعالى وإقامة الحدود، والكل متسلط على أمة الإسلام، حتى فُرض عليها قوانين الكافرين وأحكامهم وشُيّدت أضرحة الشرك وأُذِن في عبادتها وتقديم القرابين لها من دون الله، وسيق شباب المسلمين ليكونوا نُسُخا غربيّة منسَلِخة من دينها، وسُلّم لليهود مسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقروهم أنْ تلك ديارهم، فأي عمل صالح أعظم أجرا من دفع ملل الكفر ودحرها وإزالة أذرعها المتمثّلة بالطواغيت؛ لينعم المسلمون بشرع الله ويكونوا تحت حكم الخلافة؟!.

ومن هنا تكون فرضية الجهاد، فرضيّة عينية على كل مسلم كالصلاة والصيام، فكما لا يجب الاستئذان في الصلاة والصيام، فلا يجب في الجهاد في سبيل الله، وكما تجب الصلاة والصيام على المسلم مهما ابتلي بالذنوب فكذلك يجب الجهاد، وليست الذنوب واقترافها عذرا، فتجب التوبة من الذنوب والمعاصي ويجب القيام بالجهاد في سبيل الله.

وإنّ من مداخل الشيطان على الشاب المسلم تهويل الجهاد عليه وتثبيطه عنه بأنه صاحب ذنوب ومعاصي وتقصير في جنب الله فيزداد ركونا إلى الدنيا وسوء ظن بالله وبُعدا أكثر عن الجهاد، فلا هو الذي تاب من ذنبه، ولا هو الذي جاهد ليُغفر ذنبه، فنجد آلاف المغفّلين من الشباب في ميادين المباريات والألعاب، والمسارح والصالات، تُهدَر طاقاتهم وأوقاتهم، وفيها يفنى عمرهم!، في الوقت الذي يتسابق فيه اليهود والصليبيون من الأمريكان والروس والأوربيون والشيوعيون في التسليح وتقوية جيوشهم وزيادة عددها.

ولو تأمّلنا في سيرة سلفنا الصالح لوجدنا نماذج ممن أسلم في يومه وجاهد ونال الشهادة، كخبر جرجة يوم اليرموك مع خالد بن الوليد حين أسلم وصلى ركعتين فقط فقتل يومه، بل بعضهم أسلم في أرض المعركة ولم يسجد لله سجدة، فرزقهم الله الشهادة وجنة عرضها السماوات والأرض بعد أن بذلوا أرواحهم في سبيله سبحانه، كخبر الأصيرم في غزوة أحد والعبد الحبشي في خيبر رضي الله عنهم وأرضاهم.

ولم يكن يمتنع أحد من أهل ذلك الجيل من الجهاد بزعم أنه صاحب معاصي، فأبو محجن الثقفي رضي الله عنه كان ممن حضر يوم القادسيّة، وقد حُبس بسبب شربه للخمر، ولكنه وهو في قيده لم يحتمل أن يرى فرسان المسلمين تصاول أعداء الله من الفرس وهو مكبّل في قيوده، فكلم امرأة سعد بن أبي وقاص لتفكه بشرط عودته إن لم تُكتب له الشهادة، فنهض وأخذ فرس سعد "البلقاء" وقاتل قتالا شديدا وأبلى بلاء حسنا حتى عجب سعد فقال: "الصبر صبر البلقاء، والطعن طعن أبي محجن، وأبو محجن في القيد"، ثم عاد أبو محجن ووفى بشرطه، فلم يكونوا يتعذّرون بأن ابتلوا بالمعاصي فيدعون الجهاد!

ذلك جيل المكرمات وأولئك شبابهم الذين استطاعوا تمزيق مُلك الكافرين وتشتيت جموعِهم، فالأمجاد إنما تصاغ في ميادين الجهاد، فأي مثال نرتضي؟ وبأي جيل نقتدي؟ والحمد لله ربّ العالمين.


• المصدر:
صحيفة النبأ - العدد 311
الخميس 28 ربيع الأول 1443 هـ

683b4f9a9ea34

  • 1
  • 0
  • 18

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً