مقال: جاه الأكارم (9) - الصدق - الحمد لله ولي المتقين، وهادي المؤمنين، لسبل الهداية ومنازل ...
منذ 7 ساعات
مقال: جاه الأكارم (9) - الصدق -
الحمد لله ولي المتقين، وهادي المؤمنين، لسبل الهداية ومنازل الصادقين، والصلاة والسلام على نبينا محمد الصادق الأمين، وعلى آله وصحبه ومن استن بسنته إلى يوم الدين، وبعد.
فقوة كل شيء أكثره وضوحا للعدو والصديق، وبتطابق الأقوال والأفعال والسرائر والبواطن في الأخلاق تتأصّل الفضيلة، وهذه المطابقة تسمى صدقا، والصدق هو حلية المؤمن في منطقه، وهو علامة له تميزه عن غيره، وهو في الأعمال سبب للقبول، وفي الأخلاق واجب حميد، ويزيد وضاءة القلوب والوجوه، ويغرس المحبة في قلوب العباد، ويُعلي الله به ذكر صاحبه بين العالمين من غير تكلّف منه لذلك، والصادق يؤخذ ما يصدر عنه محمل الجد فقوله مفعول، ووعده نافذ وتهديده أكيد، فيحظى بهذا مكانة عند المُحب وحذرا من العدو.
والصدق هو الخصلة التي توصل المؤمنين إلى البر، الذي يوصل لرضى الكريم المنان سبحانه فيدخلهم أعالي الجنان، فعن ابن مسعود رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: (إن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، وإن الرجل ليصدق حتى يكتب عند الله صديقا، وإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، وإن الرجل ليكذب حتى يكتب عند الله كذابا) [متفق عليه].
• صدق العزيمة والفعل
والصّدق له عدة أبواب أجلّها الصدق مع الله جل جلاله، والعبد الصدوق ينال خير الدنيا والآخرة بصدقه مع ربه، قال ابن القيم رحمه الله: "ليس للعبد شيء أنفع من صدقه ربَّه في جميع أموره، مع صدق العزيمة، فيصدقه في عزمه، وفي فعله، قال تعالى: {فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ} فسعادته في صدق العزيمة، وصدق الفعل، فصدق العزيمة: جمعها، وجزمها، وعدم التردد فيها، بل تكون عزيمة، لا يشوبها تردد، ولا تلوُّم، فإذا صدقت عزيمته بقي عليه صدق الفعل، وهو استفراغ الوسع، وبذل الجهد فيه، وأن لا يتخلف عنه بشيء من ظاهره، وباطنه، فعزيمة القصد تمنعه من ضعف الإرادة والهمة، وصدق الفعل يمنعه من الكسل، والفتور، ومَن صدَق الله في جميع أموره؛ صنع الله له فوق ما يصنع لغيره، وهذا الصدق معنى يلتئم من صحة الإخلاص، وصدق التوكل، فأصدَقُ الناس: مَن صح إخلاصُه وتوكله". [الفوائد]
وهذا الصدق هو ما رفع أبا بكر رضي الله عنه فسمي "صدّيقا" وصار خير الناس بعد الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، فهو صادِق في إيمانه بالله وبرسوله صلى الله عليه وسلم، إذ لم يكن يشك طرفة عين في أخبار النبي صلى الله عليه وسلم ولا فيما يذكره من أمور الغيب، وهذا أكسبه تلك العزيمة التي ترجمتها أفعاله رضي الله عنه.
• الصدق في الأعمال
ومن الصدق في الأعمال، ما ذكره الله سبحانه وتعالى عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم حين قال: {مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا} [الأحزاب :٢٣]، فعن أنس رضي الله عنه قال: غاب عمي أنس بن النضر عن قتال بدر، فقال: يا رسول الله غبت عن أول قتال قاتلت المشركين، لئن أشهدني الله قتال المشركين ليرين الله ما أصنع، فلما كان يوم أحد وانكشف المسلمون قال: اللهم إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء -يعني أصحابه- وأبرأ إليك مما صنع هؤلاء -يعني المشركين- ثم تقدم فاستقبله سعد بن معاذ، فقال: يا سعد بن معاذ الجنة ورب النضر إني أجد ريحها من دون أحد، قال سعد: فما استطعت يا رسول الله ما صنع، قال أنس فوجدنا به بضعا وثمانين ضربة بالسيف أو طعنة برمح أو رمية بسهم، ووجدناه قد قتل وقد مثل به المشركون، فما عرفه أحد إلا أخته ببنانه، قال أنس: كنا نظن أو نرى أن هذه الآية نزلت فيه وفي أشباهه: {مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ}. [البخاري]
وهذا الصدق هو الواجب حين اشتداد الأمور فلن ينجي إلا هو، قال تعالى: {وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلَا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ مُّحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَىٰ لَهُمْ * طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَّعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ} [محمد:٢٠-٢١]
ومن الصدق في الأفعال، صدق الباطن وعزمه على الامتثال لأمر الله مهما كلف الثمن، وهو ما ذكره الله عن أصحاب بيعة الرضوان رضي الله عنهم، فقال: {لَّقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا} [الفتح:١٨]
ومن أعظم ما جاء في الصدق في الأفعال قصة الأعرابي الذي جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فآمن به واتبعه، ثم قال: أهاجر معك، فأوصى به النبي صلى الله عليه وسلم بعض أصحابه، فلما كانت غزوة (خيبر) غنم النبي صلى الله عليه وسلم سبيا، فقسم وقسم له، فأعطى أصحابه ما قسم له، وكان يرعى ظهرهم، فلما جاء دفعوه إليه، فقال: ما هذا؟، قالوا: قسم قسمه لك النبي صلى الله عليه وسلم، فأخذه فجاء به إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: ما هذا؟ قال: قسمته لك، قال: ما على هذا اتبعتك، ولكني اتبعتك على أن أرمى إلى هاهنا، وأشار إلى حلقه بسهم، فأموت فأدخل الجنة فقال: إن تصدق الله يصدقك، فلبثوا قليلا ثم نهضوا في قتال العدو، فأتي به النبي صلى الله عليه وسلم يحمل قد أصابه سهم حيث أشار، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أهو هو؟ قالوا: نعم، قال: صدق الله فصدقه. [رواه النسائي]
• الصدق في الأقوال
أما صدق الأقوال، فهي خصلة ممدوحة بالفطرة وقبل الإسلام، وقد بلغ النبي صلى الله عليه وسلم من الصدق قبل النبوة ما جعل قومه يلقبونه بـ"الصادق الأمين"، لما كان يعرفه أهل الجاهلية للصادقين، وقد امتنع أبو سفيان رضي الله عنه عندما كان مشركا من الكذب أمام هرقل؛ حتى لا يُعيّر به عند قومه فقال: "فوالله لولا الحياء من أن يأثروا علي كذبا لكذبت عنه".
ومنه الصدق مع الجليس، فلا يقول إلا حقا وإن كان مازحا، وإن التمادي في الكذب مُزاحا يفضي للكذب في غيره ثم يكون الهلاك في الدين وذهاب الإيمان.
وفي قصة الصحابة الذين صدقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في سبب تخلّفهم عنه يوم تبوك أكبر عبرة ودليلا على عِظَمِ الصدق مع الله تعالى ومع الخلق، فعند البخاري ومسلم أن الصحابي الجليل كعب بن مالك رضي الله تعالى عنه جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم حين قدم من تبوك فصدق في تبيين سبب تخلّفه ولم يكذب؛ خوفا من الله تعالى ورجاء عفوه، فقد قال له النبي صلى الله عليه وسلم: "ما خلفك؟ ألم تكن قد ابتعت ظهرك؟" فقال: يا رسول الله إني والله لو جلست إلى غيرك من أهل الدنيا لرأيت أني سأخرج من سخطه بعذر، ولقد أُعطيت جدلا -أي فصاحة وقوة في الإقناع- ولكني والله لقد علمت لئن حدثتك اليوم حديث كذب ترضى به عني ليوشكن الله أن يسخطك عليّ، ولئن حدثتك حديث صدق تجد عليّ فيه -تغضب عليّ بسببه- إني لأرجو فيه عفو الله، والله ما كان لي عذر، والله ما كنت قط أقوى ولا أيسر في حين تخلفت عنك. قال الرسول صلى الله عليه وسلم: "أما هذا فقد صدق". فأنزل الله توبته بعد مدة، قال تعالى: {وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُواْ حَتَّىٰ إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّواْ أَن لَّا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُواْ إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ}، ثم أعقبها بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ} إذ فيه أمر للمؤمنين أن يصدقوا في أقوالهم ويكونوا مع أهل الصدق.
والصدق منجاة في الدنيا والآخرة ولا نجاة يوم القيامة إلا للصادقين في إيمانهم وأعمالهم مع ربهم عز وجل، وهم الذين أعد الله لهم أعظم الأجر والجزاء، قال سبحانه: {هَٰذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ ذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [سورة المائدة:١١٩]
اللهم زيّن أعمالنا وأقوالنا بالصدق واجعلنا من الصادقين وبلغنا منازلهم، أنت ولينا لا إله إلا أنت سبحانك إنا كنا من الظالمين، والحمد لله رب العالمين.
• المصدر:
صحيفة النبأ - العدد 314
الخميس 20 ربيع الثاني 1443 هـ
الحمد لله ولي المتقين، وهادي المؤمنين، لسبل الهداية ومنازل الصادقين، والصلاة والسلام على نبينا محمد الصادق الأمين، وعلى آله وصحبه ومن استن بسنته إلى يوم الدين، وبعد.
فقوة كل شيء أكثره وضوحا للعدو والصديق، وبتطابق الأقوال والأفعال والسرائر والبواطن في الأخلاق تتأصّل الفضيلة، وهذه المطابقة تسمى صدقا، والصدق هو حلية المؤمن في منطقه، وهو علامة له تميزه عن غيره، وهو في الأعمال سبب للقبول، وفي الأخلاق واجب حميد، ويزيد وضاءة القلوب والوجوه، ويغرس المحبة في قلوب العباد، ويُعلي الله به ذكر صاحبه بين العالمين من غير تكلّف منه لذلك، والصادق يؤخذ ما يصدر عنه محمل الجد فقوله مفعول، ووعده نافذ وتهديده أكيد، فيحظى بهذا مكانة عند المُحب وحذرا من العدو.
والصدق هو الخصلة التي توصل المؤمنين إلى البر، الذي يوصل لرضى الكريم المنان سبحانه فيدخلهم أعالي الجنان، فعن ابن مسعود رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: (إن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، وإن الرجل ليصدق حتى يكتب عند الله صديقا، وإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، وإن الرجل ليكذب حتى يكتب عند الله كذابا) [متفق عليه].
• صدق العزيمة والفعل
والصّدق له عدة أبواب أجلّها الصدق مع الله جل جلاله، والعبد الصدوق ينال خير الدنيا والآخرة بصدقه مع ربه، قال ابن القيم رحمه الله: "ليس للعبد شيء أنفع من صدقه ربَّه في جميع أموره، مع صدق العزيمة، فيصدقه في عزمه، وفي فعله، قال تعالى: {فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ} فسعادته في صدق العزيمة، وصدق الفعل، فصدق العزيمة: جمعها، وجزمها، وعدم التردد فيها، بل تكون عزيمة، لا يشوبها تردد، ولا تلوُّم، فإذا صدقت عزيمته بقي عليه صدق الفعل، وهو استفراغ الوسع، وبذل الجهد فيه، وأن لا يتخلف عنه بشيء من ظاهره، وباطنه، فعزيمة القصد تمنعه من ضعف الإرادة والهمة، وصدق الفعل يمنعه من الكسل، والفتور، ومَن صدَق الله في جميع أموره؛ صنع الله له فوق ما يصنع لغيره، وهذا الصدق معنى يلتئم من صحة الإخلاص، وصدق التوكل، فأصدَقُ الناس: مَن صح إخلاصُه وتوكله". [الفوائد]
وهذا الصدق هو ما رفع أبا بكر رضي الله عنه فسمي "صدّيقا" وصار خير الناس بعد الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، فهو صادِق في إيمانه بالله وبرسوله صلى الله عليه وسلم، إذ لم يكن يشك طرفة عين في أخبار النبي صلى الله عليه وسلم ولا فيما يذكره من أمور الغيب، وهذا أكسبه تلك العزيمة التي ترجمتها أفعاله رضي الله عنه.
• الصدق في الأعمال
ومن الصدق في الأعمال، ما ذكره الله سبحانه وتعالى عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم حين قال: {مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا} [الأحزاب :٢٣]، فعن أنس رضي الله عنه قال: غاب عمي أنس بن النضر عن قتال بدر، فقال: يا رسول الله غبت عن أول قتال قاتلت المشركين، لئن أشهدني الله قتال المشركين ليرين الله ما أصنع، فلما كان يوم أحد وانكشف المسلمون قال: اللهم إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء -يعني أصحابه- وأبرأ إليك مما صنع هؤلاء -يعني المشركين- ثم تقدم فاستقبله سعد بن معاذ، فقال: يا سعد بن معاذ الجنة ورب النضر إني أجد ريحها من دون أحد، قال سعد: فما استطعت يا رسول الله ما صنع، قال أنس فوجدنا به بضعا وثمانين ضربة بالسيف أو طعنة برمح أو رمية بسهم، ووجدناه قد قتل وقد مثل به المشركون، فما عرفه أحد إلا أخته ببنانه، قال أنس: كنا نظن أو نرى أن هذه الآية نزلت فيه وفي أشباهه: {مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ}. [البخاري]
وهذا الصدق هو الواجب حين اشتداد الأمور فلن ينجي إلا هو، قال تعالى: {وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلَا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ مُّحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَىٰ لَهُمْ * طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَّعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ} [محمد:٢٠-٢١]
ومن الصدق في الأفعال، صدق الباطن وعزمه على الامتثال لأمر الله مهما كلف الثمن، وهو ما ذكره الله عن أصحاب بيعة الرضوان رضي الله عنهم، فقال: {لَّقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا} [الفتح:١٨]
ومن أعظم ما جاء في الصدق في الأفعال قصة الأعرابي الذي جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فآمن به واتبعه، ثم قال: أهاجر معك، فأوصى به النبي صلى الله عليه وسلم بعض أصحابه، فلما كانت غزوة (خيبر) غنم النبي صلى الله عليه وسلم سبيا، فقسم وقسم له، فأعطى أصحابه ما قسم له، وكان يرعى ظهرهم، فلما جاء دفعوه إليه، فقال: ما هذا؟، قالوا: قسم قسمه لك النبي صلى الله عليه وسلم، فأخذه فجاء به إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: ما هذا؟ قال: قسمته لك، قال: ما على هذا اتبعتك، ولكني اتبعتك على أن أرمى إلى هاهنا، وأشار إلى حلقه بسهم، فأموت فأدخل الجنة فقال: إن تصدق الله يصدقك، فلبثوا قليلا ثم نهضوا في قتال العدو، فأتي به النبي صلى الله عليه وسلم يحمل قد أصابه سهم حيث أشار، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أهو هو؟ قالوا: نعم، قال: صدق الله فصدقه. [رواه النسائي]
• الصدق في الأقوال
أما صدق الأقوال، فهي خصلة ممدوحة بالفطرة وقبل الإسلام، وقد بلغ النبي صلى الله عليه وسلم من الصدق قبل النبوة ما جعل قومه يلقبونه بـ"الصادق الأمين"، لما كان يعرفه أهل الجاهلية للصادقين، وقد امتنع أبو سفيان رضي الله عنه عندما كان مشركا من الكذب أمام هرقل؛ حتى لا يُعيّر به عند قومه فقال: "فوالله لولا الحياء من أن يأثروا علي كذبا لكذبت عنه".
ومنه الصدق مع الجليس، فلا يقول إلا حقا وإن كان مازحا، وإن التمادي في الكذب مُزاحا يفضي للكذب في غيره ثم يكون الهلاك في الدين وذهاب الإيمان.
وفي قصة الصحابة الذين صدقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في سبب تخلّفهم عنه يوم تبوك أكبر عبرة ودليلا على عِظَمِ الصدق مع الله تعالى ومع الخلق، فعند البخاري ومسلم أن الصحابي الجليل كعب بن مالك رضي الله تعالى عنه جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم حين قدم من تبوك فصدق في تبيين سبب تخلّفه ولم يكذب؛ خوفا من الله تعالى ورجاء عفوه، فقد قال له النبي صلى الله عليه وسلم: "ما خلفك؟ ألم تكن قد ابتعت ظهرك؟" فقال: يا رسول الله إني والله لو جلست إلى غيرك من أهل الدنيا لرأيت أني سأخرج من سخطه بعذر، ولقد أُعطيت جدلا -أي فصاحة وقوة في الإقناع- ولكني والله لقد علمت لئن حدثتك اليوم حديث كذب ترضى به عني ليوشكن الله أن يسخطك عليّ، ولئن حدثتك حديث صدق تجد عليّ فيه -تغضب عليّ بسببه- إني لأرجو فيه عفو الله، والله ما كان لي عذر، والله ما كنت قط أقوى ولا أيسر في حين تخلفت عنك. قال الرسول صلى الله عليه وسلم: "أما هذا فقد صدق". فأنزل الله توبته بعد مدة، قال تعالى: {وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُواْ حَتَّىٰ إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّواْ أَن لَّا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُواْ إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ}، ثم أعقبها بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ} إذ فيه أمر للمؤمنين أن يصدقوا في أقوالهم ويكونوا مع أهل الصدق.
والصدق منجاة في الدنيا والآخرة ولا نجاة يوم القيامة إلا للصادقين في إيمانهم وأعمالهم مع ربهم عز وجل، وهم الذين أعد الله لهم أعظم الأجر والجزاء، قال سبحانه: {هَٰذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ ذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [سورة المائدة:١١٩]
اللهم زيّن أعمالنا وأقوالنا بالصدق واجعلنا من الصادقين وبلغنا منازلهم، أنت ولينا لا إله إلا أنت سبحانك إنا كنا من الظالمين، والحمد لله رب العالمين.
• المصدر:
صحيفة النبأ - العدد 314
الخميس 20 ربيع الثاني 1443 هـ