مقال: جاه الأكارم (10) - سلامة الصدر - الحمد لله الهادي مقلب القلوب ومالكها، والصلاة ...
منذ 5 ساعات
مقال: جاه الأكارم (10) - سلامة الصدر -
الحمد لله الهادي مقلب القلوب ومالكها، والصلاة والسلام على نبينا محمد أطهر الناس قلبا وأسلمها، وعلى آله وأصحابه أبرّ القوم صحبة وأصدقها، ومن سلك سبيلهم واستمسك بها وألزمها، وبعد.
ما يزال المؤمن يرقى بأخلاقه ويعلّم نفسه المعالي حتى يصل إلى جوهر الأخلاق ومصدرها، في تلك المضغة التي إن صلحت صلح الجسد كله وإن فسدت فسد الجسد كله، إنها "القلب" أن يكون سليما صافيا طيبا نظيفا، فتلك صفة بلغت بأقوام منازل عالية، وصلت ببعضهم أن يُبشّر بالجنة وهو ما يزال حيا يمشي على الأرض، وهي صفة العارفين به سبحانه، وهي جاه الأكرمين المصطفين المجتبين المحمودين.
وسلامة الصدر عافية في الدنيا والآخرة، وهي من خير ما يأتي به العبد يوم القيامة لقوله تعالى: {إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء: 89]. وسلامة الصدر هي تصفيته من جميع أدواء القلوب وآفاته التي يبغضها الله، وأوّلها أن يخلو القلب من الرياء وأدران الشرك وما يخدش التوحيد فإنها أعظم ما يفسد القلب والعمل، ثم أمراض القلوب من العُجب والكبر والحقد والغل والحسد وسوء الظن وأضرابها، فمن سلم منها فقد أوتي خيرا كثيرا.
وسلامة الصدر إما أن تكون جبلّة في الطبع، أو مكتسبة بعد مجاهدة للنفس وسعي دؤوب، وإنه لأمر يسيرٌ على من يسّره الله عليه، وعاقبته أن يسوق صاحبه إلى الجنة بإذن الله، قال قاسم الجوعي: "أصل الدِّين الورع، وأفضل العبادة مكابدة اللَّيل، وأفضل طرق الجنَّة سَلَامة الصَّدر". [صفة الصفوة] وفي هذه الأخلاق يتنافس المتنافسون.
• الفرق بين سلامة الصدر والبلَه
وربما سمَّى بعض الناس سلامة الصدر بَلَها وفي الحقيقة أن بين الأمرين فرقا شاسعا، يقول ابن القيِّم رحمه الله: "والفرق بين سَلَامة القلب والبَلَه والتَّغَفُّل: أنَّ سَلَامة القلب تكون من عدم إرادة الشرِّ بعد معرفته، فيَسْلَم قلبه مِن إرادته وقصده، لا من معرفته والعلم به، وهذا بخلاف البَلَه والغَفْلة، فإنَّها جهل وقلَّة معرفة، وهذا لا يُحْمد؛ إذ هو نقص، وإنَّما يَحْمد النَّاس مَن هو كذلك؛ لسَلَامتهم منه، والكمال أن يكون القلب عارفًا بتفاصيل الشَّرِّ، سليمًا من إرادته، قال عمر بن الخطَّاب رضي الله عنه: لست بِخِبٍّ ولا يخدعني الخِبُّ، وكان عمر أعقل من أن يُخْدع، وأورع من أن يَخْدع، وقال تعالى: {يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشُّعراء: 88 - 89] فهذا هو السَّليم من الآفات التي تعتري القلوب المريضة، من مرض الشُّبهة التي توجب اتِّباع الظَّنِّ، ومرض الشَّهوة التي توجب اتِّباع ما تهوى الأنفس، فالقلب السَّليم الذي سَلِم من هذا وهذا". [الروح]
ومن مُهِمَّات سلامة الصدر أن يسلم المؤمن من النيل ممن سبقه بخير، من لدن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم رضي الله عنهم فمن بعدهم من صالحي المؤمنين، ومَن أحسن عطاءً في هذا الدين، قال ابن رجب: "أفضل الأعمال سَلَامة الصَّدر من أنواع الشَّحْناء كلِّها، وأفضلها السَّلَامة من شحناء أهل الأهواء والبدع، التي تقتضي الطَّعن على سلف الأمَّة، وبغضهم والحقد عليهم، واعتقاد تكفيرهم أو تبديعهم وتضليلهم، ثمَّ يلي ذلك سَلَامة القلب من الشَّحْناء لعموم المسلمين، وإرادة الخير لهم، ونصيحتهم، وأن يحبَّ لهم ما يحبُّ لنفسه، وقد وصف الله تعالى المؤمنين عمومًا بأنَّهم يقولون: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ}. [الحشر: 10] [لطائف المعارف]
• سلامة الصدر نعيم في الدنيا والآخرة
وهو من النعيم في الدنيا والآخرة، فمن نعيم أهل الجنة ما يمنحهم الله من سلامة صدروهم، قال ربنا جلّ في علاه: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ} [الأعراف: 43]، وقال ربنا تبارك وتعالى: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَىٰ سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ} [الحجر: 47] قد عافاهم الله من منغصات الدنيا وكدرها، المتمثل بالغل والأحقاد، قال ابن عطية: "هذا إخبار من الله عزَّ وجلَّ أنَّه ينقِّي قلوب ساكني الجنَّة من الغلِّ والحقد، وذلك أنَّ صاحب الغلِّ متعذِّب به، ولا عذاب في الجنَّة". [المحرر الوجيز]
وسلامة الصدر من أسرع طرق دخول الجنة، فعن محمَّد بن كعب، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنَّ أوَّل من يدخل من هذا الباب، رجل من أهل الجنَّة، فدخل عبد الله بن سَلاَمِ، فقام إليه ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبروه بذلك، وقالوا: أخْبِرْنا بأوثق عملٍ في نفسك ترجو به.
فقال: إنِّي لضعيف، وإنَّ أوثق ما أرجو به الله سَلَامة الصَّدر، وترك ما لا يعنيني) [الصمت لابن أبي الدنيا]، وقال الحافظ ابن رجب: "دخلوا على بعض الصحابة في مرضه ووجهه يتهلل فسألوه عن سبب تهلل وجهه، فقال: ما من عمل أوثق عندي من خصلتين، كنت لا أتكلم فيما لا يعنيني، وكان قلبي سليما للمسلمين"، وقال الأكفاني وعبد الكريم: "وأصل العبادة مكابدة اللَّيل، وأقصر طرق الجنَّة سَلَامة الصَّدر". [تاريخ ابن عساكر]
وقد كان السابقون يجعلونها ضمن وصاياهم لما لها من أثر في بركة الأعمال، فلما حضرت عبد الملك بن مروان الوفاة، جمع ولده، وفيهم مَسْلمة، وكان سيِّدهم، فقال: أوصيكم بتقوى الله، فإنَّها عِصْمة باقية، وجُنَّة واقية، وهي أحصن كهف، وأزْيَن حِلْية، ليعطف الكبير منكم على الصَّغير، وليعرف الصَّغير منكم حقَّ الكبير، مع سَلَامة الصَّدر، والأخذ بجميل الأمور..." [تاريخ ابن عساكر]، وقال سفيان بن دينار: قلت لأبي بشير -وكان من أصحاب علي-: أخبرني عن أعمال من كان قَبْلنا؟ قال: كانوا يعملون يسيرًا، ويُؤْجَرون كثيرًا. قلت: ولم ذاك؟ قال: لسَلَامة صدورهم. [الزهد لهناد بن السري]
• ما يعين على سلامة الصدر
ومن الأسباب المعينة على اكتساب صفة سلامة الصدر أمور منها: الدعاء الذي لا تنال الرغائب ولا تدفع البلايا والأدواء إلا به، فلا منجى إلا إلى الله بالتضرع بين يديه أن يصلح القلوب ويزكي الأنفس فهو خير مَن زكاها هو وليها ومولاها، ثم الدعاء للإخوان بظهر الغيب فذاك أقوى سبل سلامة الصدر وكبت الشيطان، ولنا أسوة فيمن أثنى الله عليهم فقال: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ} [الحشر: 10]، وكان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: (رب اجعلني لك شاكرًا، لك ذاكرًا، لك راهبًا، لك مطواعًا، إليك مخبتًا أو منيبًا، تقبل توبتي، واغسل حوبتي ، وأجب دعوتي، وثبت حجتي، واهد قلبي، وسدد لساني، واسلل سخيمة قلبي) [أبو داود] و"السخيمة هي الحقْدُ في النفسِ" [شرح العيني]
ومنها: قراءة القرآن وتدبره: فالقرآن دواء لكل داء، والمحروم من لم يتداوَ بكتاب الله، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَّوْعِظَةٌ مِّنْ رَّبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِّمَا فِي الصُّدُورِ} [يونس: 57]، قال ابن القيم -رحمه الله-: "فالقرآن هو الشفاء التام من جميع الأدواء القلبية والبدنية وأدواء الدنيا والآخرة..." إلى أن قال: "وكيف تقاوم الأدواء كلام رب الأرض والسماء الذي لو نزل على الجبال لصدعها، أو على الأرض لقطعها، فما من مرض من أمراض القلوب والأبدان إلا وفي القرآن سبيل الدلالة على دوائه، وسببه والحمية منه لمن رزقه الله فهمًا في كتابه". [زاد المعاد]
كما وأن السلام من أسباب حصول المحبة التي هي الأثر البيِّن لسلامة الصدر: قال صلى الله عليه وسلم: (والذي نفسي بيده لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أولا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم) [رواه مسلم]
وكذلك التواضع فإنه يدفع الأغلال والأحقاد والأضغان، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إن الله أوحى إلي أن تواضعوا حتى لا يفخر أحد على أحد، ولا يبغي أحد على أحد) [رواه مسلم]
• سلامة الصدر والتمسك بالجماعة!
ولقد جاء في السنة وَصْفَة تداوي القلوب، فعن عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: (ثلاث لا يغلُّ عليهن قلب مسلم: إخلاص العمل لله، ومناصحة أئمة المسلمين، ولزوم جماعتهم، فإن الدعوة تحيط من ورائهم) [رواه الترمذي]، قال ابن تيمية: "ويغل: بالفتح هو المشهور ويقال: غلى صدره فغل إذا كان ذا غش وضغن وحقد" [مجموع الفتاوى] وقال ابن القيم: "أي: لا يحمل الغل، ولا يبقى فيه مع هذه الثلاثة، فإنها تنفى الغل والغش، وهو فساد القلب وسخايمه، فالمخلص لله إخلاصه يمنع غل قلبه ويخرجه ويزيله جملة؛ لأنه قد انصرفت دواعي قلبه وإرادته إلى مرضاة ربه، فلم يبق فيه موضع للغل والغش" [مفتاح دار السعادة]، فسليم القلب مخلصا، نصوحا للمسلمين بدءا بأئمتهم ثم عوامهم، مستمسكا بجماعة المسلمين حاثّا على ذلك.
فهذا الخلق ملازم لقلب المسلم التقي النقي، ومن اعتنى بهذا الخلق كفاه الله بقية الأخلاق وجاءته مهرولة إليه منقادة.
وبهذا الخلق السامي نختم سلسلة (جاه الأكارم) فتلك عشرة كاملة، جمعت أَزِمّة الأخلاق وأمُّاتها، فمن حازَها ظهرت مكانته وحسُنت علاقاتُه وتعالجت مشكلاتُه، وصار أميرا من غير إمارة ووجيها من غير جاه، وإن كان أميرا ما ميزته بين جلسائه، وألفيته في كل مكان خير وَافِد، ولكل خير أكْرَمَ رَائِد.
ربنا ألهمنا رشدنا وقنا شر نفوسنا وأصلح سرائرنا واجعلنا مخلصين، أنت حسبنا ونعم الوكيل، لا حول لنا ولا قوة إلا بك، لا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين، والحمد لله رب العالمين.
• المصدر:
صحيفة النبأ - العدد 315
الخميس 27 ربيع الثاني 1443 هـ
الحمد لله الهادي مقلب القلوب ومالكها، والصلاة والسلام على نبينا محمد أطهر الناس قلبا وأسلمها، وعلى آله وأصحابه أبرّ القوم صحبة وأصدقها، ومن سلك سبيلهم واستمسك بها وألزمها، وبعد.
ما يزال المؤمن يرقى بأخلاقه ويعلّم نفسه المعالي حتى يصل إلى جوهر الأخلاق ومصدرها، في تلك المضغة التي إن صلحت صلح الجسد كله وإن فسدت فسد الجسد كله، إنها "القلب" أن يكون سليما صافيا طيبا نظيفا، فتلك صفة بلغت بأقوام منازل عالية، وصلت ببعضهم أن يُبشّر بالجنة وهو ما يزال حيا يمشي على الأرض، وهي صفة العارفين به سبحانه، وهي جاه الأكرمين المصطفين المجتبين المحمودين.
وسلامة الصدر عافية في الدنيا والآخرة، وهي من خير ما يأتي به العبد يوم القيامة لقوله تعالى: {إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء: 89]. وسلامة الصدر هي تصفيته من جميع أدواء القلوب وآفاته التي يبغضها الله، وأوّلها أن يخلو القلب من الرياء وأدران الشرك وما يخدش التوحيد فإنها أعظم ما يفسد القلب والعمل، ثم أمراض القلوب من العُجب والكبر والحقد والغل والحسد وسوء الظن وأضرابها، فمن سلم منها فقد أوتي خيرا كثيرا.
وسلامة الصدر إما أن تكون جبلّة في الطبع، أو مكتسبة بعد مجاهدة للنفس وسعي دؤوب، وإنه لأمر يسيرٌ على من يسّره الله عليه، وعاقبته أن يسوق صاحبه إلى الجنة بإذن الله، قال قاسم الجوعي: "أصل الدِّين الورع، وأفضل العبادة مكابدة اللَّيل، وأفضل طرق الجنَّة سَلَامة الصَّدر". [صفة الصفوة] وفي هذه الأخلاق يتنافس المتنافسون.
• الفرق بين سلامة الصدر والبلَه
وربما سمَّى بعض الناس سلامة الصدر بَلَها وفي الحقيقة أن بين الأمرين فرقا شاسعا، يقول ابن القيِّم رحمه الله: "والفرق بين سَلَامة القلب والبَلَه والتَّغَفُّل: أنَّ سَلَامة القلب تكون من عدم إرادة الشرِّ بعد معرفته، فيَسْلَم قلبه مِن إرادته وقصده، لا من معرفته والعلم به، وهذا بخلاف البَلَه والغَفْلة، فإنَّها جهل وقلَّة معرفة، وهذا لا يُحْمد؛ إذ هو نقص، وإنَّما يَحْمد النَّاس مَن هو كذلك؛ لسَلَامتهم منه، والكمال أن يكون القلب عارفًا بتفاصيل الشَّرِّ، سليمًا من إرادته، قال عمر بن الخطَّاب رضي الله عنه: لست بِخِبٍّ ولا يخدعني الخِبُّ، وكان عمر أعقل من أن يُخْدع، وأورع من أن يَخْدع، وقال تعالى: {يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشُّعراء: 88 - 89] فهذا هو السَّليم من الآفات التي تعتري القلوب المريضة، من مرض الشُّبهة التي توجب اتِّباع الظَّنِّ، ومرض الشَّهوة التي توجب اتِّباع ما تهوى الأنفس، فالقلب السَّليم الذي سَلِم من هذا وهذا". [الروح]
ومن مُهِمَّات سلامة الصدر أن يسلم المؤمن من النيل ممن سبقه بخير، من لدن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم رضي الله عنهم فمن بعدهم من صالحي المؤمنين، ومَن أحسن عطاءً في هذا الدين، قال ابن رجب: "أفضل الأعمال سَلَامة الصَّدر من أنواع الشَّحْناء كلِّها، وأفضلها السَّلَامة من شحناء أهل الأهواء والبدع، التي تقتضي الطَّعن على سلف الأمَّة، وبغضهم والحقد عليهم، واعتقاد تكفيرهم أو تبديعهم وتضليلهم، ثمَّ يلي ذلك سَلَامة القلب من الشَّحْناء لعموم المسلمين، وإرادة الخير لهم، ونصيحتهم، وأن يحبَّ لهم ما يحبُّ لنفسه، وقد وصف الله تعالى المؤمنين عمومًا بأنَّهم يقولون: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ}. [الحشر: 10] [لطائف المعارف]
• سلامة الصدر نعيم في الدنيا والآخرة
وهو من النعيم في الدنيا والآخرة، فمن نعيم أهل الجنة ما يمنحهم الله من سلامة صدروهم، قال ربنا جلّ في علاه: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ} [الأعراف: 43]، وقال ربنا تبارك وتعالى: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَىٰ سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ} [الحجر: 47] قد عافاهم الله من منغصات الدنيا وكدرها، المتمثل بالغل والأحقاد، قال ابن عطية: "هذا إخبار من الله عزَّ وجلَّ أنَّه ينقِّي قلوب ساكني الجنَّة من الغلِّ والحقد، وذلك أنَّ صاحب الغلِّ متعذِّب به، ولا عذاب في الجنَّة". [المحرر الوجيز]
وسلامة الصدر من أسرع طرق دخول الجنة، فعن محمَّد بن كعب، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنَّ أوَّل من يدخل من هذا الباب، رجل من أهل الجنَّة، فدخل عبد الله بن سَلاَمِ، فقام إليه ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبروه بذلك، وقالوا: أخْبِرْنا بأوثق عملٍ في نفسك ترجو به.
فقال: إنِّي لضعيف، وإنَّ أوثق ما أرجو به الله سَلَامة الصَّدر، وترك ما لا يعنيني) [الصمت لابن أبي الدنيا]، وقال الحافظ ابن رجب: "دخلوا على بعض الصحابة في مرضه ووجهه يتهلل فسألوه عن سبب تهلل وجهه، فقال: ما من عمل أوثق عندي من خصلتين، كنت لا أتكلم فيما لا يعنيني، وكان قلبي سليما للمسلمين"، وقال الأكفاني وعبد الكريم: "وأصل العبادة مكابدة اللَّيل، وأقصر طرق الجنَّة سَلَامة الصَّدر". [تاريخ ابن عساكر]
وقد كان السابقون يجعلونها ضمن وصاياهم لما لها من أثر في بركة الأعمال، فلما حضرت عبد الملك بن مروان الوفاة، جمع ولده، وفيهم مَسْلمة، وكان سيِّدهم، فقال: أوصيكم بتقوى الله، فإنَّها عِصْمة باقية، وجُنَّة واقية، وهي أحصن كهف، وأزْيَن حِلْية، ليعطف الكبير منكم على الصَّغير، وليعرف الصَّغير منكم حقَّ الكبير، مع سَلَامة الصَّدر، والأخذ بجميل الأمور..." [تاريخ ابن عساكر]، وقال سفيان بن دينار: قلت لأبي بشير -وكان من أصحاب علي-: أخبرني عن أعمال من كان قَبْلنا؟ قال: كانوا يعملون يسيرًا، ويُؤْجَرون كثيرًا. قلت: ولم ذاك؟ قال: لسَلَامة صدورهم. [الزهد لهناد بن السري]
• ما يعين على سلامة الصدر
ومن الأسباب المعينة على اكتساب صفة سلامة الصدر أمور منها: الدعاء الذي لا تنال الرغائب ولا تدفع البلايا والأدواء إلا به، فلا منجى إلا إلى الله بالتضرع بين يديه أن يصلح القلوب ويزكي الأنفس فهو خير مَن زكاها هو وليها ومولاها، ثم الدعاء للإخوان بظهر الغيب فذاك أقوى سبل سلامة الصدر وكبت الشيطان، ولنا أسوة فيمن أثنى الله عليهم فقال: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ} [الحشر: 10]، وكان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: (رب اجعلني لك شاكرًا، لك ذاكرًا، لك راهبًا، لك مطواعًا، إليك مخبتًا أو منيبًا، تقبل توبتي، واغسل حوبتي ، وأجب دعوتي، وثبت حجتي، واهد قلبي، وسدد لساني، واسلل سخيمة قلبي) [أبو داود] و"السخيمة هي الحقْدُ في النفسِ" [شرح العيني]
ومنها: قراءة القرآن وتدبره: فالقرآن دواء لكل داء، والمحروم من لم يتداوَ بكتاب الله، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَّوْعِظَةٌ مِّنْ رَّبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِّمَا فِي الصُّدُورِ} [يونس: 57]، قال ابن القيم -رحمه الله-: "فالقرآن هو الشفاء التام من جميع الأدواء القلبية والبدنية وأدواء الدنيا والآخرة..." إلى أن قال: "وكيف تقاوم الأدواء كلام رب الأرض والسماء الذي لو نزل على الجبال لصدعها، أو على الأرض لقطعها، فما من مرض من أمراض القلوب والأبدان إلا وفي القرآن سبيل الدلالة على دوائه، وسببه والحمية منه لمن رزقه الله فهمًا في كتابه". [زاد المعاد]
كما وأن السلام من أسباب حصول المحبة التي هي الأثر البيِّن لسلامة الصدر: قال صلى الله عليه وسلم: (والذي نفسي بيده لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أولا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم) [رواه مسلم]
وكذلك التواضع فإنه يدفع الأغلال والأحقاد والأضغان، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إن الله أوحى إلي أن تواضعوا حتى لا يفخر أحد على أحد، ولا يبغي أحد على أحد) [رواه مسلم]
• سلامة الصدر والتمسك بالجماعة!
ولقد جاء في السنة وَصْفَة تداوي القلوب، فعن عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: (ثلاث لا يغلُّ عليهن قلب مسلم: إخلاص العمل لله، ومناصحة أئمة المسلمين، ولزوم جماعتهم، فإن الدعوة تحيط من ورائهم) [رواه الترمذي]، قال ابن تيمية: "ويغل: بالفتح هو المشهور ويقال: غلى صدره فغل إذا كان ذا غش وضغن وحقد" [مجموع الفتاوى] وقال ابن القيم: "أي: لا يحمل الغل، ولا يبقى فيه مع هذه الثلاثة، فإنها تنفى الغل والغش، وهو فساد القلب وسخايمه، فالمخلص لله إخلاصه يمنع غل قلبه ويخرجه ويزيله جملة؛ لأنه قد انصرفت دواعي قلبه وإرادته إلى مرضاة ربه، فلم يبق فيه موضع للغل والغش" [مفتاح دار السعادة]، فسليم القلب مخلصا، نصوحا للمسلمين بدءا بأئمتهم ثم عوامهم، مستمسكا بجماعة المسلمين حاثّا على ذلك.
فهذا الخلق ملازم لقلب المسلم التقي النقي، ومن اعتنى بهذا الخلق كفاه الله بقية الأخلاق وجاءته مهرولة إليه منقادة.
وبهذا الخلق السامي نختم سلسلة (جاه الأكارم) فتلك عشرة كاملة، جمعت أَزِمّة الأخلاق وأمُّاتها، فمن حازَها ظهرت مكانته وحسُنت علاقاتُه وتعالجت مشكلاتُه، وصار أميرا من غير إمارة ووجيها من غير جاه، وإن كان أميرا ما ميزته بين جلسائه، وألفيته في كل مكان خير وَافِد، ولكل خير أكْرَمَ رَائِد.
ربنا ألهمنا رشدنا وقنا شر نفوسنا وأصلح سرائرنا واجعلنا مخلصين، أنت حسبنا ونعم الوكيل، لا حول لنا ولا قوة إلا بك، لا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين، والحمد لله رب العالمين.
• المصدر:
صحيفة النبأ - العدد 315
الخميس 27 ربيع الثاني 1443 هـ