ابن قيم الجوزية
أسرار الصلاة (31)- هل يسجد القلب؟
وقد طابق قلبُه في ذلك حال جسده، فسجد القلب للرب كما سجد الجسد بين يدي الله، وقد سجد معه أنفه ووجهه، ويداه وركبتاه، ورجلاه فهذا العبد هوالقريب المقرَّب فهوأقرب فهوما يكون من ربه وهوساجد. فأحرِ به به في هذه الحال أن يكون أقرب إلى ربه منه في غيرها من الأحوال كلِّها، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: « » (رواه مسلم [482]).
ولما كان سجود القلب خضوعه التام لربّه أمكنه استدامة هذا السجود إلى يوم القيامة، كما قيل لبعض السلف: هل يسجد القلب؟
محمود محمد شاكر
رسالة في الطريق إلى ثقافتنا (27)- وانساحت كتائب الإسلام!
وبغتة وقعت الواقعة في يوم الثلاثاء 20 جمادي الآخرة سنة 857 هـ، ودخل محمد الفاتح حصن المسيحية الشمالية المنيع الشامخ، مدينة القسطنطينية، وقضي الأمر الذي فيه تستفتيان. ودنت صلاة العصر، وقام أحد العلماء فأذن للصلاة، وصلى المسلمون في كنيسة أيا صوفيا ومن يومئذ حولت فصارت مسجدًا. انتشر الخبر كالبرق في أرجاء أوربة، ومادت الدنيا بالخبر، واهتزت دنيا المسيحية الأوربية هزة لم تعرف مثلها قط، ولم يبق عليها راهب ولا ملك ولا أمير ولا صعلوك إلا انتفض انتفاضة الغضب لدينه. وما هو إلا قليل حتى انطلق محمد الفاتح، وانساحت كتائب الإسلام في قلب أوربة، يا لها من فجيعة!! وكان ما كان..
ابن قيم الجوزية
أسرار الصلاة (30)- أسرار السجود
ثم شرع له أن يكبر ويدنو ويخرَّ ساجداً، ويُعطي في سجوده كل عضو من أعضائه حظَّه من العبودية، فيضع ناصيته بالأرض بين يدي ربه، مسندة راغماً له أنفه، خاضعاً له قلبه، ويضع أشرف ما فيه ـ وهووجهه ـ بالأرض ولاسيما وجه قلبه مع وجهه الظاهر ساجداً على الأرض معفِّراً له وجهه وأشرف ما فيه بين يدي سيِّده، راغماً أنفه، خاضعاً له قلبه وجوارحه، متذلِّلاً لعظمة ربه، خاضعاً لعزَّته، منيباً إليه، مستكيناً ذلاً وخضوعاً وانكساراً، قد صارت أعاليه ملويةً لأسافله.
ابن قيم الجوزية
أسرار الصلاة (29)- لربي الحَمد.. لربي الحمد
ولهذا الاعتدال ذوقٌ خاص وحال يحصل للقلب، ويخصه سوى ذوق الركوع وحاله، وهو ركنٌ مقصود لذاته كركن الركوع والسجود سواء.
ولهذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُطيلُه كما يطيل الركوع والسجود، ويُكثر فيه من الثناء والحمد والتمجيد، كما ذكرناه في هديه صلى الله عليه وسلم في صلاته وكان في قيام الليل يُكثر فيه من قول: "لربي الحَمد، لربي الحمد" ويكرِّرها.
محمود محمد شاكر
رسالة في الطريق إلى ثقافتنا (28)- هم الترك!
بيد أن هذه الواقعة الباطشة على عنفها، وعلى سرعة ما تلاها من تدفق كتائب الإسلام منساحة في قلب أوربة، لم تفت في عضد المسيحية الشمالية، بل على العكس، زادها الإحساس بالخزي والعار حماسة وتصميمًا وتحرقًا وحقدًا خالط كل نفس من الخاصة والعامة، وصار هم الترك (أي المسلمين) همًا مؤرقًا للعالم والجاهل والصغير والكبير والذكر والأنثى، وهام الرهبان وغير الرهبان في جنبات أوربة غضابًا يحرضون رعاياهم على قتال الترك بكل لسان قادر على الإثارة والتبشيع.
محمود محمد شاكر
رسالة في الطريق إلى ثقافتنا (26)- فأورثهم بذنوبهم!
قضى الله قضاءه المستور الذي لم يكشف عنه الحجاب بعد، أن لا تكون الحرب الصليبية شرًا محضًا على المسيحية المحصورة في الشمال، بل قدرًا مقدورًا يحمل لها في طياتها خيرًا محجوبًا، ليكون غدًا، بهذا الخير الجنين، عقوبة لعباده في دار الإسلام، إذ أعجبتهم كثرتهم، وغرتهم قوتهم، وتاهوا بما أوتوا من زخرف الحياة الدنيا، وركب كثير من عامتهم محارم الله، وخالطوا معاصي قد نهوا عنها، ونسوا حظًا من الحق الذي في أيديهم لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وتركوا محجة بيضاء لا يضل سالكها، واتبعوا السبل فتفرقت بهم عن سبيله سبحانه، فأورثهم بذنوبهم غفلة سوف تطول حتى يفتحوا أعينهم فجأة على بلاء ماحق!
محمود محمد شاكر
رسالة في الطريق إلى ثقافتنا (25)- لا سبيل لتجربته مرة ثالثة!
وقضى الله قضاءه في السابع من جمادي الآخرة سنة 690 هـ، وسقط آخر حصن كان للصليبين في الشام، ورجعت آخرفلول الحملات الصليبية إلى مواطنها متهالكة يائسة مستحذية صفر الوجوه من الخزي والعار، وفي قلوبها حسرة قاتلة على ما خرج من أيديها من متاع الدنيا وبهجتها وزخرفها، وفي سر أنفسها يأس محير ويقين مفزع؛ أن دار الإسلام ديار ممتنعة على الاختراق امتناعًا لا سبيل لتجربته مرة ثالثة!
ابن قيم الجوزية
أسرار الصلاة (28)- تعظيم الربِّ
وكلما استولى على قلبه تعظيم الربِّ، وقوى خرج منه تعظيم الخلق، وازداد تصاغره هوعند نفسه فالركوع للقلب بالذات، والقصد والجوارح بالتبع والتكملة.
ثم شرع له أن يحمد ربه، ويثني عليه بآلائه عند اعتداله وانتصابه ورجوعه إلى أحسن هيئاته، منتصب القامة معتدلها فيحمد ربه ويثني عليه بآلائه عند اعتداله وانتصابه ورجوعه إلى أحسن تقويم، بأن وفقه وهداه لهذا الخضوع الذي قد حرمه غيره.
ابن قيم الجوزية
أسرار الصلاة (26)- أسرار الركوع والتكبير
شرع له رفع اليدين عند الركوع تعظيماً لأمر الله، وزينةً للصلاة، وعبودية خاصةً لليدين كعبودية باقي الجوارح، واتباعاً لسنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو حليةُ الصلاة، وزينتها وتعظيمٌ لشعائرها.
ثم شرع له التكبير الذي هو في انتقالات الصلاة من رُكن إلى ركن، كالتلبية في انتقالات الحاجِّ، من مشعر إلى مشعر، فهو شعار الصلاة، كما أن التلبية شعار الحج، مميز ليعلم أن سر الصلاة هو تعظيم الرب تعالى وتكبيره بعبادته وحده.
ابن قيم الجوزية
أسرار الصلاة (23)- إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ
فإذا قال: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] انتظر جواب ربه له: "هذا بيني وبين عبدي، ولعبدي ما سأل"، وتأمل عبودية هاتين الكلمتين وحقوقهما، وميِّز الكلمة التي لله سبحانه وتعالى، والكلمة التي للعبد، وفِقهِ سرَّ كون إحداهما لله، والأخرى للعبد، وميِّز بين التوحيد الذي تقتضيه كلمة {إِيَّاكَ نَعْبُدُ}، والتوحيد الذي تقتضيه كلمة {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}، وفِقهَ سرَّ كون هاتين الكلمتين في وسط السورة بين نوعي الثناء قبلهما، والدعاء بعدهما، وفِقه تقديم {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} على {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}.
محمود محمد شاكر
رسالة في الطريق إلى ثقافتنا (24)- اللغة!
والذي أضعف سلطان الكنيسة والرهبان على نفوس رعاياهم الذي لا سبيل لهم إلى معرفة شيء من دينهم إلا عن طريق الكنيسة والقسيسين والرهبان. ولكن كان العائق عن أن تؤتي هذه النهضة ثمارها يومئذ أن لغة الرهبان ثم العلماء كانت هي اللاتينية القديمة، وهي لغة لا تعرفها رعايا الكنيسة، وكانت أوربة كلها تتكلم لغات مختلفة، ولهجات شديدة التباين، ولكنها لغات قلقة في دور التكوين. وكان أكثر هذه الجماهير أميًا لا يقرأ ولا يكتب، فأصبح الرهبان والعلماء يسيرون في طريق، ورعايا الرهبان يسيرون في طريق آخر، فهم قطيع ينعق فيه ناعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء صم بكم عمي فهم لا يعقلون!
ابن قيم الجوزية
أسرار الصلاة (25)- أقسام الخلق إلى الهداية
فانقسم الخلق إذن إلى ثلاثة أقسام بالنسبة إلى هذه الهداية:
مُنعم عليه: بحصولها له واستمرارها وحظه من المنعم عليهم، بحسب حظه من تفاصيلها وأقسامها، وضالٌ: لم يُعطَ هذه الهداية ولم يُوفق لها، ومغضوب عليه: عَرفها ولم يوفق للعمل بموجبها، فالضال: حائد عنها، حائر لا يهتدي إليها سبيلاً، والمغضوب عليه: متحيّر منحرف عنها ؛ لانحرافه عن الحق بعد معرفته به مع علمه بها.
فالأول المنعم عليه قائم بالهدى، ودين الحق علماً وعملاً واعتقاداً والضال عكسه، منسلخ منه علماً وعملاً، والمغضوب عليه لا يرفع فيها رأساً، عارف به علماً منسلخ عملاً، والله الموفق للصواب.
الفجر 00:00 | الظهر 00:00 | العصر 00:00 | المغرب 00:00 | العشاء 00:00 |