رسالة في الطريق إلى ثقافتنا (59)- خلو المستشرق من شروط المنهج! (2)

إذن فخبرني: أهو ممكن أن يكون مجرد تعلم لغة أنت فيها شاد، كفيلًا بأن يجعلك كاتبًا أو باحثًا في أسرار هذه اللغة وفي ثقافتها، مهما كانت منزلتك أنت في غتك وثقافتك؟ أممكن هو؟ مجرد خطور هذا في وهمك، مخرج لك من حد العقل! فأعجب العجب، إذن، أن يعد أحد شيئًا مما كتبه المستشرقون في لغتنا وثقافتنا وتاريخنا وديننا، داخلًا في حد الممكن، وأن يراه متضمنًا لرأي حقيق بالاحترام والتقدير، فضلًا عن أن يكون عملًا علميًا أو بحثًا منهجيًا نسترشد به نحن، كما هو السائد اليوم في حياتنا الأدبية الفاسدة. أليس هذا شيئًا لا يطاق سماعه ولا تصوره! ومع ذلك فهو كائن معمول به لا غضاضة، أليس هذا غريبًا؟ أليس غريبًا أن يكون غير الممكن ممكنًا في ثقافتنا نحن وحدها، دون سائر ثقافات البشر، قديمها وحديثها. غريب عجيب لا محالة! 

رسالة في الطريق إلى ثقافتنا (57)- اللغة والثقافة (2)

اللغة، هي التي تمهد له الطريق إلى الإحاطة بأسرار الثقافة، لأن أمر الإحاطة عندئذ منوط كله بالقدرة على تمحيص مفردات اللغة تمحيصًا دقيقًا، وتحليل تراكيبها وأجزاء تراكيبها بدقة متناهية، حتى يرى ما هو زيف جليًا واضحًا. ثم منوط أيضًا بالقدرة الفائقة على النظر في الثقافة على ترتيب مادتها بعد نفي زيفها وتمحيص جيدها، متحريًا وضع كل حقيقة من الحقائق في حق موضعها، لأن أخفى إساءة في وضع إحدى الحقائق في غير موضعها، خليق أن يشوه عمود الصورة تشويهًا بالغ القبح والشناعة.  

الفوائد (8)- القيامة الصغرى والكبرى

أخبر عن القيامة الصغرى، وهي سكرة الموت، وأنها تجيء بالحق، وهو لقاؤه سبحانه وتعالى، والقدوم عليه، وعرض الروح عليه، والثواب والعقاب الذي تعجل لها قبل القيامة الكبرى. ثم ذكر القيامة الكبرى بقول: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيد} [ق:20]. ثم أخبر عن أحوال الخلق في هذا اليوم، وأن كل أحد يأتي الله سبحانه وتعالى ذلك اليوم ومعه سائق يسوقه، وشهيد يشهد عليه، وهذا غير شهادة جوارحه، وغير شهادة الأرض التي كان عليها له وعليه، وغير شهادة رسوله والمؤمنين. فإن الله سبحانه وتعالى يستشهد على العبد الحفظة والأنبياء والأمكنة التي عملوا عليها الخير والشر، والجلود التي عصوه بها، ولا يحكم بينهم بمجرّد علمه، وهو أعدل العادلين وأحكم الحاكمين. ولهذا أخبر نبيه أنه يحكم بين الناس بما سمعه من إقرارهم، وشهادة البيّنة، لا بمجرّد علمه فكيف يسوغ لحاكم أن يحكم بمجرد علمه من غير بيّنة ولا إقرار؟

الفوائد (7)- براهين المعاد في القرآن

براهين المعاد في القرآن مبنيّة على أصول ثلاثة، أحدها تقرير كمال علم الرب سبحانه كما قال في جواب من قال {مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ . قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} [يس:78-79]. والثاني تقرير كمال قدرته كقوله {أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ} [يس:81]. الثالث: كمال حكمته كقوله {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ} [الدخان:38]. ولهذا كان الصواب أن المعاد معلوم بالعقل مع الشرع، وأن كمال الرب تعالى وكمال أسمائه وصفاته تقتضيه وتوجبه، وأنه منزّه عمّا يقوله منكروه كما ينزه كماله عن سائر العيوب والنواقص. ثم أخبر سبحانه أن المنكرين لذلك لمّا كذّبوا بالحق اختلط عليهم أمرهم {فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ} [ق:5]. مختلط لا يحصلون منه على شئ.

رسالة في الطريق إلى ثقافتنا (58)- خلو المستشرق من شروط المنهج! (1)

فقبل كل شيء، أنى للمستشرق أن يحوز ما لا يحوزه إلا من ولد في بحبوحة اللغة وثقافتها منذ أن كان في المهد صبيًا، ثم نشئ فيها وارتضع وأدب حتى عقل واستحصد؟ غير ممكن! وهبه ممكنًا أن يأتى المستشرق على كبر فيعاشر أصحاب هذه اللغة وهذه الثقافة ويخالطهم دهرًا، وهبه ممكنًا أيضًا أن ينسى كل ما نشأ هو فيه صغيرًا وأدب، أفممكن هو أن يحوز ذلك كله، وهو مقيم في بلاده، بإن يتعلم على الكبر من معلم يعلمه لغة وثقافة هما أجنبيان عنه وعن معلمه جميعًا؟ غير ممكن! أقصى ما يبلغه هذا المستشرق بعد عشرات السنين من الدأب والجهد وبعد أن تشيب قرونه، أن يكون شاديًا لا أكثر! أي أنه تعلم لغة أجنبية عنه وبس! هذا صريح العقل. 

الفوائد (9)- الغفلة عن يوم القيامة

أخبر سبحانه أن الإنسان في غفلة من هذا الشأن الذي هو حقيق بأن لا يغفل عنه، وأن لا يزال على ذكره وباله، وقال {فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا} [ق:22]، ولم يقل عنه، كما قال {وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ} [هود:110]، ولم يقل في شك فيه، وجاء هذا في المصدر وإن لم يجئ في الفعل فلا يقال غفلت منه ولا شككت منه كأن غفلته وشكه ابتداء منه، فهو مبدأ غفلته وشكّه، وهذا أبلغ من أن يقال في غفلة عنه وشك فيه، فإنه جعل ما ينبغي أن يكون مبدأ التذكرة واليقين ومنشأهما مبدأ للغفلة والشك. ثم أخبر أن غطاء الغفلة والذهول يكشف عنه ذلك اليوم كما يكشف غطاء النوم عن القلب فيستيقظ، وعن العين فتنفتح. فنسبة كشف هذا الغطاء عن العبد عند المعاينة كنسبة كشف غطاء النوم عنه عند الانتباه.

الفوائد (5)- عين اليقين

عين اليقين نوعان: نوع في الدنيا، ونوع في الآخرة، فالحاصل في الدنيا نسبته إلى القلب كنسبة الشاهد إلى العين. وما أخبرت به الرسل من الغيب يعاين في الآخرة بالأبصار، وفي الدنيا بالبصائر، فهو عين يقين في المرتبتين.

رسالة في الطريق إلى ثقافتنا (56)- الثقافة واللغة (1)

وبديهي، بل هو فوق البديهي، أن شرط الثقافة بقيوده الثلاثة، ممتنع على المستشرق كل الامتناع، بل هو أدخل في باب الاستحالة من اجتماع الماء والنار في إناء واحد! وذلك لأن الثقافة واللغة متداخلان تداخلًا لا انفكاك له، ويترافدان ويتلاقحان بأسلوب خفي غامض كثير المداخل والمخارج والمسارب، ويمتزجان امتزاجًا واحدًا غير قابل للفصل، في كل جيل من البشر وفي كل أمة من الأمم. ويبدأ هذا التداخل منذ ساعة يولد الوليد صارخًا، ثم يظل يرتضع لبان اللغة الأول ولبان الثقافة الأول، شيئًا فشيئًا عن أمه وأبيه حتى يعقل، فإذا عقل تولاه معهما المعلمون والمؤدبون حتى يستحصد، فإذا استحصد وصار مطيقًا إطاقة ما للبصر بمواضع الصواب والخطأ، قادرًا قدرة ما على فحص الأدلة واستنباطها فناظر وباحث وجادل، فعندئذ يكون قد وضع قدمه على أول الطريق، لا طريق المنهج وما قبل المنهج، بل الطريق المفضي إلى أن تكون له ثقافة يؤمن بها عن طريق العقل والقلب، ويعمل بها حتى تذوب في بنيانه، وينتمي إليها بعقله وقلبه وخياله انتماءً يحفظه ويحفظها من التفكك والانهيار. 

الفوائد (4)- {أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ} (2)

ومن الناس من لا يكون تام الاستعداد، واعي القلب، كامل الحياة، فيحتاج إلى شاهد يميّز له بين الحق والباطل، ولم تبلغ حياة قلبه ونوره وزكاء فطرته مبلغ صاحب القلب الحي الواعي، فطريق حصول هدايته أن يفرغ سمعه للكلام، وقلبه لتأمّله، والتفكر فيه، وتعقل معانيه، فيعلم حينئذ أنه الحق. فالأول: حال من رأى بعينيه ما دعي إليه وأخبر به، والثاني: حال من علم صدق المخبر وتيقّنه، وقال يكفيني خبره، فهو في مقام الإيمان، والأوّل في مقام الإحسان. وهذا قد وصل إلى علم اليقين، وترقى قلبه منه إلى منزلة عين اليقين، وذاك معه التصديق الجازم الذي خرج به من الكفر ودخل به في الإسلام. 

رسالة في الطريق إلى ثقافتنا (55)- شرط الثقافة وقيودها

وإذا كان أمر اللغة شديدًا لا يسمح بدخول المستشرق تحت هذا الشرط اللازم للقلة التي تنزل ميدان المنهج وما قبل المنهج، فإن شرط الثقافة أشد وأعتى! لأن الثقافة كما قلت آنفًا: سر من الأسرار الملثمة في كل أمة من الأمم، وهي في أصلها الراسخ البعيد الغور، معارف كثيرة لا تحصى، مطلوبة في كل مجتمع إنساني، للإيمان بها أولًا من طريق العقل والقلب، ثم العمل بها حتى تذوب في بنيان الإنسان وتجري منه مجرى الدم لا يكاد يحس به، ثم الانتماء بعقله وقلبه انتماءً يحفظه ويحفظها من التفكك والانهيار. وهذه القيود الثلاثة، الإيمان والعمل والانتماء، هي أعمدة الثقافة وأركانها التي لا يكون لها وجود ظاهر محقق إلا بها، وإلا انتقض بنيان الثقافة صارت مجرد معلومات ومعارف وأقوال مطروحة في الطريق، متفككة لا يجمع بينها جامع، ولا يقوم لها تماسك ولا ترابط ولا تشابك. 

الفوائد (6)- {قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ}

{قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ} [ق من الآية:4]، فإنه سبحانه جعل هذا جوابا لسؤال مقدّر، وهو: أنّه يميز تلك الأجزاء التي اختلطت بالأرض واستحالت إلى العناصر بحيث لا تتميّز، فأخبر سبحانه بأنه قد علم ما تنقصه الأرض من لحومهم وعظامهم وأشعارهم، وأنه كما هو عالم بتلك الأجزاء، فهو قادر على تحصيلها وجمعها بعد تفرّقها وتأليفها خلقًا جديدًا، وهو سبحانه يقرر المعاد بذكر كمال علمه، وكمال قدرته، وكمال حكمته. 

الفوائد (1)- الانتفاع بالقرآن

إذا أردت الانتفاع بالقرآن فاجمع قلبك عند تلاوته وسماعه، والق سمعك، واحضر حضور من يخاطبه به من تكلّم به سبحانه منه إليه، فإنّه خطاب منه لك، على لسان رسوله. 

يتم الآن تحديث اوقات الصلاة ...
00:00:00 يتبقى على
14 محرم 1446
الفجر 00:00 الظهر 00:00 العصر 00:00 المغرب 00:00 العشاء 00:00

شخصيات قد تهتم بمتابَعتها

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً