الحاجة للذاكرة التاريخية؛ بين الجهل والعجز.

ما الذي يحبس الحركة الإسلامية عن صناعة الذاكرة التاريخية، والتعاطي معها كأداة فعل في هذا الصراع الرهيب؟! ... المزيد

رسالة في الطريق إلى ثقافتنا (69)- النظر إلى أمر المستشرق (4)

وظاهر من كل ما كتبته آنفًا أن الاستشراق من فرع رأسه إلى أخمص قدميه، غارق في الأهواء. والثقافة الأوربية والحضارة الأوربية تستقبل الأهواء بلا نكير ولا أنفة، بل هي تسوغ استعمال رذيلة الأهواء في الدنيا وفي الناس بلا حرج، لأنها حضارة قائمة على المنفعة والسلب ونهب الأمم وإخضاعها بكل وسيلة لسلطانها المتحضر! فهي توسغ ذلك في العلم وفي الثقافة وفي السايسة وفي الدين في كل شيء، بل تسوغها أيضًا في الدعوى الغريبة العجيبة التي لم يسبق لها مثيل في تاريخ الأمم، دعوى أنها حضارة عالمية، وفحواها أن العالم كله ينبغي أن يخضع لسلطانها وسيطرتها، ويتقبل برضى غطرستها وفجورها الغني الأخاذ الفاتن! 

رسالة في الطريق إلى ثقافتنا (68)- النظر إلى أمر المستشرق (3)

المستشرق الناشئ في لغة وفي ثقافة أخرى قد رسخت في نفسه وعقله، وهي بطبيعتها مصبوغة صبغة شديدة في اليهودية والمسيحية. وهما ملتان تباينهما ملة الإسلام مباينة تبلغ حد الرفض والمناقضة. وثقافته هذا تنازعه حيث ذهب في البحث والدرس، فممكن أن يناقش ثقافة الإسلام، ممكن، لأن هذا من حقه، ولكنه مستحيل كل الاستحالة أن يكون في ثقافتنا باحثًا أو دارسًا يبدي رأيًا يستحق النظر والاحترام، في قرآنها وحديثها وتتفسيرها وفي تفسير شعائرها، وفي تاريخها وفي آدابها ولغتها وشعرها إلى آخر ما ذكرته آنفًا، مستحيل، لأنه ممتنع عليه امتناعًا لا يملك الفرار منه. 

رسالة في الطريق إلى ثقافتنا (67)- النظر إلى أمر المستشرق (2)

ولكن المستشرق، وإن يكن قد فعل الأمرين جميعًا خدمة لأمته، فإنه قد جاء فدخل مدخلًا آخر من غير هذين البابين، ودخوله في الباب الثالث هو موضع النزاع بيننا وبينه، دخل لا مستفيدًا ولا مناقشًا، دخل باحثًا ودارسًا عليه طليسان العلم في ميدان المنهج وما قبل المنهج، وهو ميدان له شروط لازمة لا تختل. دخل في لغة هو فيها هجين كل الهجنة، وفي ثقافة هو غريب عنها كل الغربة. ودخوله هو عمل مستشنع فيي ذاته، لأنه اجتراء على دخول هذا الميدان بغير حقه، ولا يسمح بمثله في ثقافة أمته هو نفسه، لأنه لا يملك شيئًا ذا بال من مسوغاته. 

رسالة في الطريق إلى ثقافتنا (66)- النظر إلى أمر المستشرق (1)

فعندئذ يفضي بك النظر إلى أمر المستشرق، فهو حين ينظر إلى ثقافة أمة أخرى غير أمته، إنما ينظر فيها لأحد الأمرين: إما أن ينظر فيها ليكسب منها شيئًا لأمته وثقافته، وإما أن ينظر فيها ليناظر ويناقش. وكلا الأمرين حق لا ينازعه فيه منازع. وفي كلا الأمرين هو واقع في مأزق ضيق: مأزق اللغة ومأزق الثقافة. لا يستطيع أن يأخذ إلا على قدر ما فهم من لغة غريبة أصلًا عن لغته، ولا يستطيع أن يناقش إلا على قدر ما يتصور أنه استبانه وأدركه من ثقافة غريبة عن ثقافته. 

رسالة في الطريق إلى ثقافتنا (59)- خلو المستشرق من شروط المنهج! (2)

إذن فخبرني: أهو ممكن أن يكون مجرد تعلم لغة أنت فيها شاد، كفيلًا بأن يجعلك كاتبًا أو باحثًا في أسرار هذه اللغة وفي ثقافتها، مهما كانت منزلتك أنت في غتك وثقافتك؟ أممكن هو؟ مجرد خطور هذا في وهمك، مخرج لك من حد العقل! فأعجب العجب، إذن، أن يعد أحد شيئًا مما كتبه المستشرقون في لغتنا وثقافتنا وتاريخنا وديننا، داخلًا في حد الممكن، وأن يراه متضمنًا لرأي حقيق بالاحترام والتقدير، فضلًا عن أن يكون عملًا علميًا أو بحثًا منهجيًا نسترشد به نحن، كما هو السائد اليوم في حياتنا الأدبية الفاسدة. أليس هذا شيئًا لا يطاق سماعه ولا تصوره! ومع ذلك فهو كائن معمول به لا غضاضة، أليس هذا غريبًا؟ أليس غريبًا أن يكون غير الممكن ممكنًا في ثقافتنا نحن وحدها، دون سائر ثقافات البشر، قديمها وحديثها. غريب عجيب لا محالة! 

رسالة في الطريق إلى ثقافتنا (58)- خلو المستشرق من شروط المنهج! (1)

فقبل كل شيء، أنى للمستشرق أن يحوز ما لا يحوزه إلا من ولد في بحبوحة اللغة وثقافتها منذ أن كان في المهد صبيًا، ثم نشئ فيها وارتضع وأدب حتى عقل واستحصد؟ غير ممكن! وهبه ممكنًا أن يأتى المستشرق على كبر فيعاشر أصحاب هذه اللغة وهذه الثقافة ويخالطهم دهرًا، وهبه ممكنًا أيضًا أن ينسى كل ما نشأ هو فيه صغيرًا وأدب، أفممكن هو أن يحوز ذلك كله، وهو مقيم في بلاده، بإن يتعلم على الكبر من معلم يعلمه لغة وثقافة هما أجنبيان عنه وعن معلمه جميعًا؟ غير ممكن! أقصى ما يبلغه هذا المستشرق بعد عشرات السنين من الدأب والجهد وبعد أن تشيب قرونه، أن يكون شاديًا لا أكثر! أي أنه تعلم لغة أجنبية عنه وبس! هذا صريح العقل. 

رسالة في الطريق إلى ثقافتنا (54)- نشأة المستشرق (2)

كيف يجوز في عقل عاقل أن تكون بعض سنوات قلائل كافية لطالب غريب عن اللغة، وهذه حاله، أن يصبح محيطًا بأسرار اللغة وأساليبها الظاهر والباطنة، وبعجائب تصاريفها التي تجمعت وتداخلت على مر القرون البعيدة في آدابها، وأن يصبح بين عشية وضحاها مؤهلًا للنزول في ميدان المنهج وما قبل المنهج، كيف؟ من أن هذا الشرط صعب عسير على الكثرة الكاثرة من أبناء هذه للغة أنفسهم! كيف يجوز لعقل عاقل؟ هذا، مع أنه أيضًا تعلمها تلقيًا من أعجمي مثله، ولم يخالط أهلها مخالطة طويلة متمادية تتيح له التلقي عنهم تلقيًا يبصره ببعض هذه الأسرار! غاية ما يمكن أن يحوزه المستشرق في 20 أو 30 سنة، وهو مقيم بين أهل لسانه، أن يكون عارفًا معرفة ما بهذه اللغة، وأحسن أحواله عندئذ أن يكون في منزلة طالب عربي في الـ14 من عمره! أي هو في طبقة العوام الذين لا يعتد بأقوالهم أحد في ميدان المنهج و ما قبل المنهج. هذا على أن اللغة نفسها هي وعاء الثقافة، فهما متداخلان، فمحال أن يكون محيطًا بأسرارها، دون أن يكون محيطًا بثقافتها إحاطة تؤهله للتمكن من اللغة، فمن أين يكون المستشرق مؤهلًا لنزول هذا الميدان؟! 

رسالة في الطريق إلى ثقافتنا (53)- نشأة المستشرق! (1)

والمستشرق فتى أعجمي، ناشئ في لسان أمته وتعليم بلاده، مغروس في آدابها وثقافتها، حتى استوى رجلًا في العشرين من عمره أو 25، فهو قادر أو مفترض أنه قادر تمام القدرة على التفكير والنظر، ومؤهل أو مفترض أيضًا أنه مؤهل أن ينزل في ثقافته ميدان المنهج وما قبل المنهج بقدم ثابتة. نعم، هذا ممكن أن يكون كذلك؛ ولكن هذا الفتى يتحول فجأة عن سلوك هذه الطريق ليبدأ في تعليم لغة أخرى، (هي العربية هنا)، مفارقة كل المفارقة للسان الذي نشأ فيه صغيرًا، ولثقافته التى ارتضع لبانها يافعًا، يدخل قسم اللغات الشرقية في جامعة من جامعات الأعاجم، فيبتديء تعلم ألف باء تاء، ويتلقى العربية نحوها وصرفها وبلاغتها وشعرها وسائر آدابها وتواريخها عن أعجمي مثه! وبلسان غير عربي، ثم يستمع إلى محاضر في آداب العرب أو أشعارها أو تاريخها أو دينها أو سياستها بلسان غير عربي، ويقضي في ذلك بعض سنوات قلائل، ثم يخرج لنا مستشرقًا يفتي في اللسان العربي، والتاريخ العربي، والدين العربي! عجب وفوق العجب!!

رسالة في الطريق إلى ثقافتنا (46)- بصفتين لابد منهما

والمستشرقون المتبتلون، بلا شك عندهم، هم أهل خبرة بكل ما في دار الإسلام قديمًا، وما هو كائن فيها حديثًا، من دقيق العلوم عند خاصة المسلمين، إلى خفي أحوال المسلمين من عاداتهم ومعايشهم وطرائق أفكارهم وخصائص حياتهم، إلى علم وثيق شأن دولهم وأقاليمهم وبلدانهم التي تغطي أكبر رقعة من الأرض. فكل دارس منهم مأمون عند كل أوربي، مأمون على ما يقوله، مصدق فيما يقوله، في أمور لا سبيل لأحد منهم إلى معرفتها، لأنها تتعلق بأقوام لسانهم غير لسانهم، ولا يقوم بها إلا دارس صابر ذو معرفة بهذا اللسان الغريب، متصف بصفتين لابد منهما حتى يكون مصدقًا: الصفة الأولى: أن في قلبه كل الحمية التى أثارها الصراع ين المسيحية المحصورة في الشمال، وبين دار الإسلام الممتنعة على الاختراق على مدى عشرة قرون على الأقل، الصفة الثانية: أن في صميم قلبه كل ما تحمله قلوب خاصة الأوربين وعامتهم، وملوكهم وسوقتهم، من الأحلام البهيجة والأشواق الملتهبة إلى حيازة كل ما في دار الإسلام من كنوز العلم والثروة والرفاهية والحضارة. 

شخصيات قد تهتم بمتابَعتها

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً