محمد صالح المنجد
محمد صالح المنجد
على أي شيء حلف نبينا
المدة: 27:26محمد صالح المنجد
صدقات بالغة التأثير
المدة: 17:18محمد صالح المنجد
إشراك الآخرين
المدة: 1:24:00محمد صالح المنجد
آيات تدفعك إلى الصدقة
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
أما بعد:
فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
حب الإنسان للمال:
عباد الله: خلقنا الله -تعالى- في هذه الدنيا للابتلاء: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الملك: 2].
وخلق في الدنيا فتنًا، يبتلي بها عباده؛ كالمال، واستخلفهم فيه على تفاوت بينهم، لينظر كيف يعملون. وجعل الله -سبحانه وتعالى- الأجر العظيم فيمن يتغلب: {وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا} [الفجر: 20]. فيخرجه في أنواع وجهات الصدقات المختلفة، بالليل والنهار، سرًا وعلانية، من بين أيديهم ومن خلفهم، وعن أيمانهم وعن شمائلهم.
الترغيب في القرض الحسن:
إذا كان المقترض غنيًا كان المقرض أشد رغبة في إقراضه، فإذا كان المقترض ينمي المال الذي اقترضه، ويرده إضعافًا مضاعفة، هذه عادته، وهذه قدرته، كانت الرغبة في إقراضه أشد.
وإذا كان يرد بالإضافة إلى مال القرض، ومضاعفاته، ونمائه وثمرته، يضيف إليه شيئًا عظيمًا من عنده زائدًا، من غير جنس القرض، كان ذلك أشد رغبة من المقرض في الإعطاء.
فإذا كان المقترض لا حاجة له في القرض أصلاً، وهو مستغن عنه، لن يستعمله، ولن ينفقه، ولن يقربه من جهة الاستعمال والحاجة، فكيف تكون الرغبة؟
قال تعالى: {مَن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ} [الحديد: 11].
هو الغني، يطعم ولا يطعم، يجير ولا يجار عليه: {لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا} [الحـج: 37]. لا يحتاج إلى أحد من خلقه، ومع ذلك يسمي الصدقة من عباده: {قَرْضًا} [البقرة: 245]. ويسمي هذا العمل منهم: {قَرْضًا}: {مَن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا} [الحديد: 11] الله غير محتاج، الغني عن كل العباد، والأموال، عنده خزائن السماوات والأرض، يده ملأى لا تغيضها نفقة، وهو يعطي ويعطي ويعطي ولا ينقص مما عنده شيء، لكن كرم العبد الذي يقوم بهذه العبادة، بأنه مقرض: {مَن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا} [الحديد: 11].
شروط القرض الحسن:
ما هو القرض الحسن؟
ثلاثة شروط:
أولاً: أن يكون من مال طيب.
ثانيًا: أن يكون بطيب نفس.
ثالثًا: ألا يكون معه: {مَنًّا وَلاَ أَذًى} [البقرة: 262].
واحدة في المال نفسه: طيبًا من غير حرام، ولا خبيث.
وواحدة بينه وبين ربه: طيبة به نفسه، يرجو الأجر.
نفسه سخية في الإعطاء، لا تتردد؛ لأنه يعلم الخلف العظيم عند الله.
والثالثة بينه وبين الفقير، لا {مَنًّا وَلاَ أَذًى} لا مع الإعطاء، ولا بعد الإعطاء، لا يعطيه وهو يمن عليه، ولا يذكره بعد ذلك، لا {مَنًّا وَلاَ أَذًى}.
هذا القرض الحسن: {فَيُضَاعِفَهُ لَهُ} [الحديد: 11].
ويربي الله التمرة، حتى تصبح مثل جبل أحد، وأكبر.
وبالإضافة إلى هذه المضاعفات: {وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ} إضافي من غير جنس القرض، الصدقة من عنده -تعالى-: {فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ}.
أمثلة قرآنية في الصدقة:
الله -عز وجل- جعل في القرآن أمثالاً لا يعقلها إِلَّا الْعَالِمُونَ، لا يفهمها إلا أولوا الألباب.
وفائدة العلم: أنه يفهمك بماذا ضرب الله المثل، وما هو المثل، وأين المشبه، وأين المشبه به، وما هو وجه الشبه، لا يعقلها إِلَّا الْعَالِمُونَ.
{مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ} [البقرة: 261].
عجباً! إنه جعل المشبه: {الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ} وما ذكر النفقة والصدقة نفسها، المشبه بهم، في فلاح {وحَبَّةٍ} هناك متصدق وصدقة، ما ذكر الصدقة، ذكر المتصدق، وهنا المشبه به، يوجد فلاح، و{حَبَّةٍ} ما ذكر الفلاح ذكر الحبة فقط.
ذكر من كل طرف أهم ركنيه: {مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ} [البقرة: 261]. الحبة أين توضع؟
تحت الأرض.
إذًا، هي خفية، ليست ظاهرة، لكن يظهر أثرها بعد ذلك.
هذه إذًا إشارة إلى خفاء وإخفاء الصدقة: {كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ} [البقرة: 261].
ولا يوجد في عالم الكسب أشد توكلا من المزارع؛ لأن مصادر الكسب متعددة: الصناعة، والتجارة، والزراعة، والمغانم التي يورثها الله المؤمنين في جهاد الكفار، أحل الحلال على وجه الأرض: {فَكُلُواْ مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلاَلاً طَيِّبًا} [الأنفال: 69].
المزارع أشد الناس توكلاً على الله، يبذر، ويعمل بالأسباب، يسقي، ويتعاهد، ويحارب الآفات، يرجو النبات والنماء والحصاد والاستفادة.
ومعنى ذلك: أن هذا المنفق في قلبه من معاني الإيمان، وهو يرجو الأجر عند ربه، فيه من معاني الإخلاص والإيمان، الشيء العظيم جداً، فهو يعطي وقلبه مليء بالرجا من الله، بالخلف والنماء والمضاعفة: {مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ} [البقرة: 261].
{سَنَابِلَ} من جموع الكثرة، الصيغة في اللغة صيغة جمع التكثير.
والعادة: أن يأتي مع السبعة: أنها عدد، ليس كثيرًا دون العشرة، أن يأتي معه صيغة جمع التقليل، كما جاء في سورة يوسف: {وَسَبْعِ سُنبُلاَتٍ} [يوسف: 46] هنا قال: {سَبْعَ سَنَابِلَ}. {سَنَابِلَ} من جموع التكثير، وهو يقصد ويريد، أن هذه الحبة ستتحول إلى شيء عظيم، كثير: {فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ} [البقرة: 261] من السبعمائة حبة.
من الإعجاز الإلهي في التشبيه القرآني: أن يصور لك غير المرئي بالشيء المحسوس المرئي، أجر الصدقة غير محسوس، ولا ملموس، ولا مرئي، لكن انظر إليه في تشبيهه وتصويره، من بلاغة القرآن العظيمة من البيان الإلهي: {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ} [الشعراء: 195] عندما يصوره لك بشيء مرئي: {أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ}.
والسنابل معروفة مرئية محسوسة: {فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ} [البقرة: 261].
وليس فقط أن تكون الحبة سبعمائة حبة، وإنما أكثر من ذلك، بحسب الإخلاص والإيمان في قلب المنفق المتصدق، فقال بعد السبعمائة: {وَاللّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاء وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 261].
لما ذكر في سورة البقرة أهل النفاق الذين يعملون أعمال خيرية: {كَمَثَلِ صَفْوَانٍ} [البقرة: 264] حجر صلب أملس: {عَلَيْهِ تُرَابٌ} هل القاعدة هذه أسفل التراب؟ هل الأرضية أسفل التراب، مهيأة لإنبات أي شيء؟
{صَفْوَانٍ} أملس أبداً، ولذلك: {إِذَا جَاءهُ} شيء من المطر، غسل التراب، ولم ينبت شيئًا، هذا قلب الكافر، أو الفاجر، أو المنافق، نفسه إذا أنفقت لا تخرج شيئًا، ولا نماء.
وذكر مثل المؤمن: ك{جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ} [البقرة: 265] في مكان متوسط، مرتفع الهواء، يأتيه الشمس: و{أَصَابَهَا وَابِلٌ} وإذا {لَّمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ} فتنبت: {فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ} [البقرة: 265].
ثم ذكر مثلاً عجيبًا، فقال: {أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ} [البقرة: 266] بستان عظيم: {مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ} من أنفس الثمار، النخيل والأعناب، يؤكل رطبًا ويابسًا، وهو فاكهة الرطب، وغذاء التمر، ودواء، سبع تمرات في الصباح، وخصوصًا من تمر العارية، تقي السم والسحر، وكذلك قوت غذاء، انظر إلى صدقة الفطر، وقد أجاز الشرع إخراجها من الطعام، ونص الفقهاء: التمر والزبيب، من العنب: {مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} فلا تحتاج إلى سقي، وجهد، الأنهار التي بطبيعتها سارحة في هذه الأرض، وليس فقط في هذه الجنة نخيل وأعناب: {لَهُ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ}.
إذًا، هذا رجل: {أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ} مسن، شيخ متقدم في السن، الكبر، الهرم، ما عد قادر على الكسب، والعمل: {وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاء} [البقرة: 266] إناث، أو مرضى، أصحاب عاهات، أيتام صغار.
فمن كم جهة تعلقت نفسه بهذا البستان؟
أولاً: هو {جَنَّةٌ} بستان عظيم، ففيه أشجار كثيفة.
ثم الثمار نفيسة: {نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ}.
ومتنوعة: {مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ}.
ولا يحتاج إلى تعب في السقي: {تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ}.
وهو -بعد الله- عيشه عليه، ومصدر دخله منه، وليس له غيره، وغير قادر على أن يكسب، بأي سبب آخر: {وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ}.
ويخشى على صغاره وإناثه، من بعده، فليس لهم -بعد الله- إذا ولى أبوهم إلا هذا البستان: {وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاء}.
وفجأة: {فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ}.
وتعلمون الإعصار كيف يدور، وفي جوف الإعصار عمود النار يتحرك، فيدمر الإعصار بقوة الريح، وتحرق النار الباقي: {فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ}.
كيف تكون نفسية هذا الرجل؟
الإحباط والاكتئاب والانهيار.
خطر الرياء على الصدقة:
هذا مثل، لكن مثل لماذا؟ لأي شيء؟
قال عمر -رضي الله عنه- وعنده ابن عباس: "رجل كان يعمل بطاعة الله، ثم انقلب، وصار يعمل بمعصية الله". وقال المفسرون أيضاً: "المراؤون".
هذا الإعصار -أيها المسلمون- إعصار الرياء، إعصار المن والأذى، الذي يغير على أجر الصدقة، فيذهبها، فيأتي صاحبها يوم القيامة محتاجًا إلى حسنات أشد الحاجة، وأشد من احتياج صاحب الجنة على كبر سنه، وضعف ذريته، ومتعلق، ويريد الأجر من وراء أعماله، لكن ما في إيمان: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُورًا} [الفرقان: 23].
ما في إخلاص، إعصار الرياء أذهب كل شيء.
خيبة الأمل الكبرى، والانهيار النفسي العظيم، يصور لك بهذا المثل الحالة النفسية لهؤلاء عندما يأتون يوم القيامة، لا إيمان، ولا إخلاص، أي شيء سيجنونه من أعمالهم؟
{هَبَاء مَّنثُورًا}.
نماذج رائعة في إخفاء الصدقة:
أما -يا إخواني- عندما يكون إيمان وإخلاص، الله يضاعف القليل.
واحد مدرس يختار أن يبقى في المكان النائي الذي عين فيه، مع إمكان نقله إلى بلد كبير ومدينة؛ لأن هناك فقراء، يشرف عليهم.
ومدرس بحكم معرفته بالطلاب الفقراء من خلال التدريس، فهو يقوم بتوزيع الخبز على بيوتهم قبل الفجر، ليتمكن أهلهم من عمل شيء لهم يأخذونه إلى المدرسة.
ومدرسة تأتي بالماء البارد إلى الطالبات طيلة أيام الاختبارات، ولا يعرف من هي.
وأيتام وفقراء يجدون على أبوابهم طعامًا من جميع الأنواع، يؤتى به قبل الفجر، ولا يعلمون من يأتي به. وتاجر يجمع أولاده قبل موته، وعنده دفتر فيه الديون، لكن خصه بكتابة ديوان المعسرين، فيرمي به في النار أمامهم.
ورجل ليس عنده ذرية يبني المساجد، ويقول: هؤلاء أولادي وذريتي!.
وآخر ضعيف ذات اليد، لكن ما تيسر له، ولو مناديل للمسجد، أو بعض قوارير المياه الباردة يضعها. وأخرى بسائقها على باب، وعلى سور، وعلى قارعة الطريق طاولة، فيها حاجات العمال، وهم ذاهبون صباحًا إلى أعمالهم، من إفطار يقوي.
وآخر يدعو عمال وسائقي الحي، بعد صلاة الجمعة إلى الغداء كل جمعة، من ليس عنده ارتباط يدعوهم، يراعي غربتهم، وحشتهم، ضعفهم، فيؤنسهم.
كثرة أبواب الخير وأنواع الصدقات:
أبواب الخير عظيمة -يا عباد الله-، أنواع الصدقات كثيرة، وليست فقط الصدقات المالية: ((على كل سلامى من أحدكم)) كل مفصل من الثلثمائة والستين مفصل في جسدك صدقة، حق لله في هذه المفاصل ((ويجزئ من ذلك ركعتان يركعهما من الضحى)) [رواه البخاي: 2989، ومسلم: 1704، واللفظ له].
((وفي بضع أحدكم صدقة)) [رواه مسلم: 2376].
والنفقة على الأهل صدقة، وإنظار المعسر صدقة، والإعانة، والشفاعة، والحمل معه صدقة.
اللهم إنا نسألك أن تجعلنا من المفلحين يا رب العالمين، اللهم اجعلنا لك مخلصين لك، ذاكرين لك، شاكرين يا رب العالمين.
أعنا على ذكرك وشكرك، وحسن عبادتك.
وتقبل منا إنك أنت السميع العليم.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله، أشهد أن لا إله إلا هو وحده لا شريك له لم يتخذ صاحبة ولا ولدًا، الحي القيوم، مالك الملك، ذو الجلال والإكرام، لا إله إلا الله، يفعل ما يشاء، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله، الرحمة المهداة، البشير والنذير، والسراج المنير.
اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وذريته الطيبين وأزواجه، وخلفائه الميامن، وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أهمية التاريخ الهجري:
عباد الله: أظلكم شهر محرم، يكفي فيه اسمه، حرمه الله، مع الأشهر الحرم: {يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَات وَالأَرْضَ} [التوبة: 36] من الأشهر القمرية، جعل الله الأهلة مواقيت للناس، نعمة من الله.
احتاج الصحابة إلى تاريخ يؤرخون به رسائلهم، وخصوصًا الخلفاء الراشدين، فاستشار عمر -رضي الله عنه- المسلمين، أي سنة تكون هي رقم واحد؟
فلم يجعل الصحابة سنة ميلاده، ولا سنة بعثته، ولا سنة وفاته، رقم واحد، لكن نظروا ما هو الحدث الأعظم الذي حصل به نقطة تحول عظيمة في تاريخ الإسلام، وكان له ما بعده، فوجوده الهجرة، فجعلوا الهجرة، هي السنة رقم واحد.
لكن هذه السنة، لا بدّ لها من رأس، لا بدّ لها من بداية، فبأي شهر تبدأ؟
نظر عمر -رضي الله عنه-، فإذا رجوع الناس من موسم الحج، كأنه يعني بداية جديدة في الأمصار والبلدان، وأن الاستعدادات للهجرة بدأت في محرم، فجعل المحرم أول السنة رقم واحد.
فهذا الشهر رقم واحد في السنة.
وعدوا إلى وقت عمر كم سنة من الهجرة؟
وانطلق التاريخ الإسلامي الذي نعتز به، ولا نرضى بديلاً عنه، لا ميلادي، ولا غيره، هذا تاريخنا.
وقفات مهمة مع عاشوراء:
هذا الشهر الذي يستحب: الإكثار من الصيام فيه، فيه يوم عظيم، وهو يوم عاشوراء، ولنا مع عاشوراء وقفات:
أولا: هذا يوم عظيم.
ثانيًا: نجى الله فيه موسى ومن معه، وأغرق وأهلك فرعون ومن معه.
وذكرهم بأيام الله، وتجيش في نفوس المسلمين العبرة العظيمة، من وراء هذا، أن الله ينصر دينه، وينصر عباده، مهما طال ليل الظلم، ومهما كانت قوة الظالمين، فالله قادر على أخذهم.
وإذا قال الناس: الآن هؤلاء المسلمون يقتلون في الشام، وغيرها؟ وقد تمالئ الكفار عليهم؟ والقوة عند الكفرة؟ وماذا عند المسلمين، والمسلمون في ذل، وفي ضعف، وفي هوان؟ وليس هناك بوادر أمل؟ ونحن من سيئ إلى أسوأ؟
الكلام نفسه قاله المؤمنون مع موسى: {أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِينَا وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا} [الأعراف: 129]؟ ما في فائدة.
ولما هربوا من فرعون: {قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} [الشعراء: 61] هالكون! هالكون!.
{قَالَ كَلَّا} [الشعراء: 62].
وحصلت معجزة عظيمة، ونجى الله المؤمنين، وأهلك فرعون ومن معه.
والله قادر أن يجعل هذا الإهلاك في كل عصر، ولكن يمهل لحكم عظيمة، ولكن تدمير الكفار سيأتي قطعًا؛ انهيار اقتصادي، حرب عليهم عالمية، الله على كل شيء قدير.
كذلك: الاهتمام بالعبادات، لما جاء النبي -عليه الصلاة والسلام- المدينة، ووجد اليهود: ما هذا الذي تصومون؟ فأخبروه، فالنبي -عليه الصلاة والسلام- اهتم بأمر العبادة، المسألة فيها صيام، وهكذا المؤمنون يهتمون بالعبادات.
ثم انتزاع الفضائل من الآخرين: ((نحن أحق وأولى بموسى منكم)) [رواه مسلم: 2714] أنتم مشركون، كفرة، يا أيها اليهود، ونحن مسلمون، موحدون لله، وموسى منكم، وإبراهيم منا، ونحن منه، ولستم منه، فهو بريء منكم؛ لأنه جاء بالتوحيد والدين والإيمان، وأنتم كفرة مشركون بالله، فصامه، وأمر بصيامه.
ثم مخالفة المشركين، ولذلك أراد أن يصوم تاسوعاء مع عاشوراء، مخالفة المشركين، قضية مهمة، فأين الذين يشابهونهم في أعيادهم ويشاركونهم في مناسباتهم، ويسيرون على منوالهم؟
((من تشبه بقوم فهو منهم)) [رواه أبو داود: 4033، وصححه الألباني في صحيح الجامع: 6149].
عاشوراء يوم مظلوم، أهل البدع يعملون فيه مآتم الشرك، ويسمونه: العزاء، مواكب العزاء الشركية، ينادون غير الله.
وبعض أهل السنة يعملون فيه أنواعًا من البدع.
الجدال حول تعيين يوم عاشوراء:
وننبه -أيها الإخوة- على قضية اللغط في تعيين عاشوراء والجدال، مع أنه يجب المصير إلى أهل العلم، وأهل العلم الذين تراؤوا الهلال، وتحروا الترائي، ولم يثبت دخول محرم مساء الثلاثاء، ليلة الأربعاء، فعلى القاعدة النبوية: أتموا العدة، أكملوا العدة، أكمل ذي الحجة ثلاثين، كما أكمل ذي القعدة ثلاثين، وصار الأربعاء ثلاثون من ذي الحجة، والخميس واحد محرم، والخميس الذي بعده ثمانية، والجمعة اليوم تسعة، والسبت عشرة، والحمد لله، القضية لا تحتاج إلى كل اللغط والجدل، والكلام الذي لا طائل من ورائه؛ لأن أهل العلم بينوا، فقط بقي قضية البحث عن بيانهم.
حكم صيام السبت:
ثم خاض بعض الناس في قضية: صيام السبت، وقد بين أهل العلم، وليس أهل العلم واحدًا، أهل العلم كثر من القديم والحديث: أن حديث النهي عن صيام السبت إلا فيما افترض عليكم، ضعيف، أو شاذ، أو منسوخ، وقد ذكر هذا عدد من الأئمة، كالزهري، والأوزاعي، والطحاوي، ومالك، وأحمد، وأبو داود، والنسائي، وابن القيم، وشيخه ابن تيمية، وابن حجر، وغيرهم، ومن المعاصرين، عبد العزيز بن باز، وغيرهم، بينوا ذلك.
ومما يدل على جواز صوم السبت: أنه لما نهى عن إفراد الجمعة بالصوم، قال: ((إلا أن يصوم قبله أو يصوم بعده)) [رواه مسلم: 2739].
فإذا ضم الخميس إلى الجمعة، أو السبت إلى الجمعة، فلا حرج.
وحيث أن عاشوراء وافق السبت، وصام بعض الناس الجمعة معه، فلا حرج.
فصيام السبت لمن عنده عادة أن يصوم ويفطر يوم، سيوافق السبت صائمًا ولا بد.
فإذًا، هذا يدل على أن ذاك الحديث شاذ، أو منسوخ، أو ضعيف، كما بين أكثر الأئمة والعلماء. وبعضهم قال: لا يفرد، فيصوم مع الجمعة، ويصوم معه الأحد، لكن تحريم صومه هكذا إلا في الفريضة لا يثبت.
والحمد لله على نعمته.
ونسأل الله -سبحانه وتعالى- أن يتقبل منا.
اللهم اغفر لنا ذنوبنا، وإسرافنا في أمرنا، وأدخلنا جنتك، وأعذنا من نارك، يا رب العالمين.
اجعلنا مقيمي الصلاة ومن ذرياتنا.
ربنا وتقبل دعاءنا.
ربنا اغفر لنا ولوالدينا وللمؤمنين يوم يقوم الحساب.
استر عيوبنا، واقض ديوننا، واشف مرضانا، وارحم موتانا.
اللهم اهد ضالنا، واجمع على الحق كلمتنا، يا رب العالمين.
آمنا في الأوطان والدور، وأصلح الأئمة وولاة الأمور، واغفر لنا يا عزيز يا غفور.
اغفر لنا ولوالدينا وللمؤمنين يوم يقوم الحساب، أغننا من فضلك، اكفنا بحلالك عن حرامك، واغننا بفضلك عمن سواك.
{رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [البقرة: 201].
احسن خاتمتنا، يا رحيم.
{سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الصافات: 180- 182].
محمد صالح المنجد
وفاء الصحابة لهذا الدين
المدة: 1:11:21محمد صالح المنجد
فرائد من قصص الموحدين
المدة: 25:55محمد صالح المنجد
محمد صالح المنجد
تفسير قوله تعالى: " ولاتتبعوا السبل "
المدة: 13:59محمد صالح المنجد
قبسات : الواجب تجاة ما يعرض في الاعلام
المدة: 9:25محمد صالح المنجد
تفسير قوله تعالى: " ولا تتبع الهوى "
المدة: 1:23:41محمد صالح المنجد
فضل مكة على العالم
المدة: 26:29محمد صالح المنجد
مراعاة الأحكام الشرعية للأحوال النفسية
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
مراعاة الشريعة الإسلامية للمصالح:
عباد الله: لقد أنزل الله هذا الدين، وجعل هذه الشريعة، رحمة كلها، وعدلاً كلها، ومصلحة كلها.
وفي هذه الأحكام مراعاة أنواع المصالح الأخروية والدنيوية، والاجتماعية، والمالية، والنفسية، حتى لا توجد مصلحة حقيقية أغفلها الشرع.
وإنك لتتعجب -يا عبد الله أخي المسلم-: وأنت تنظر في أحكام الشريعة الفقهية، لترى فيها العجب العجاب، من أنواع المراعاة للمصالح، بما فيها المصالح النفسية.
مراعاة الشريعة لنفسية المساكين الحاضرين عند قسمة التركة:
فتعالوا نُلقي نظرة على أمثلة مما في شريعتنا من مراعاة الأحكام الفقهية الشرعية للأحوال النفسية للناس. شريعة تراعي المشاعر، شريعة تراعي النفوس، جاء في كتاب الله -سبحانه وتعالى-: {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ} قسمة الميراث: {أُوْلُواْ الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُم مِّنْهُ} [النساء: 8] الميراث لأهل الميت خاصة، للورثة لا يشاركهم فيه أحد، ومع ذلك، إذا حضر مجلس القسمة، وكان الميت إذا مات اجتمعوا لقسمة تركته، إذا حضر مجلس القسمة: {أُوْلُواْ الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُم مِّنْهُ} يا أيها الورثة، أنتم أصحاب الحق، لكن هؤلاء المساكين حضروا، ونفوسهم تتطلع إلى هذا المال الذي يقسم، أفتتركونهم ينصرفون بلا شيء؟ وتأخذون أنتم كل شيء؟ أعطوهم ولو شيئًا قليلاً، مراعاة لأحوالهم ونفوسهم: {فَارْزُقُوهُم مِّنْهُ}.
تحريم الشريعة للزواج بأكثر من امرأة قريبة في آن واحد:
وجاء في الشرع: تحريم الجمع بين الأختين، قال الله: {وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الأُخْتَيْنِ} [النساء: 23] في المحرمات في النكاح.
وجاء في السنة النبوية: تحريم الجمع بين المرأة وعمتها، والمرأة وخالتها [انظر الحديث في البخاري: 5109، ومسلم: 3502].
فلماذا يحرم الجمع بين الأختين؟ ويحرم الجمع بين المرأة وعمتها؟ والمرأة وخالتها؟
لأن الضرائر يكون بينهن ما يكون من التنافس على الزوج الواحد، فقد يؤدي ذلك إلى قطع الرحم، وتأذي الواحدة منهن من تصرف الأخرى، وهي قريبتها اللصيقة، أخت، عمة، خالة، فنهت الشريعة عن الجمع بين الأختين في وقت واحد، أو المرأة وعمتها، والمرأة وخالتها، مراعاة للنفسيات، وحتى لا يؤدي ذلك إلى شرخ في علاقة الرحم المحرمة.
مراعاة الشريعة لنفسية الفتاة البكر عند استئذانها في الزواج:
جاءت الشريعة: بأن البنت المرأة، الفتاة، لا بدّ من استئمارها في النكاح، ولا بدّ من أخذ إذنها، قال أما ((الثيب) التي سبق لها الزواج ((فإنها تعرب عن نفسها))[رواه ابن ماجه: 1872، وأحمد: 17758، وقال محققو المسند: "صحيح لغيره"] تتكلم، تقول: موافقة، غير موافقة، نعم، لا.
وقد سبق لها النكاح، والعهد به، ونفسها تقوى على هذا، لكن تلك البكر التي لم يسبق لها عهد بالرجال من جهة النكاح، إذا كانت محافظة، والتربية صحيحة، والبيئة سليمة، وليست خراجة ولاجة، ولا تكشف على الأجانب، كما جاء في الشرع، فإنها إذا قيل: ترضين به؟ ستستحي، هذا الوضع الطبيعي، مراعاة لنفسيتها، ومراعاة لمشاعرها، ماذا قال الشرع؟
((إذنها صماتها)) [انظر الحديث في البخاري: 6971، ومسلم: 3541] فصمتها يكفي، السكوت دليل على الرضا.
ونبه الفقهاء على أمور دقيقة، فقال بعضهم: يُطال المقام عندها، في الاستئمار، لا يُلقي الكلمة ويمشي بسرعة، ربما يكون في نفسها شيء، يُطال المقام عندها عندما تستأمر، ترضين بفلان زوجًا لك؟
فإذا ما قالت: نعم، وصمتت، فسكوتها يكفي دليلاً على الرضا، مراعاة لنفسيتها، وأنها بكر تستحيي.
مراعاة الشريعة لحق الزوجة في مدة غياب زوجها عنها:
ما هي المدة التي يسمح لها للزوج بالغياب عن زوجته؟
أول ما حدث الكلام في هذه المسألة، كان في عهد عمر -رضي الله عنه-، لما كان يرسل الجيوش للفتوحات، فيغيب الرجل عن زوجته المدة الطويلة، فكان عمر يعس مرة، ويتفقد رعيته، فسمع امرأة تنشد من بيت لا تراه ولا يراها:
ألا قد طال هذا الليل، واخضر جانبه *** وأرقني أن لا خليل ألاعبه
فوالله لولا الله لا رب غيره *** لحرك من هذا السرير جوانبه
ولكنه سبحانه وتعالى وكل بنا رقيبًا عتيدًا، يكتب علينا حركاتنا وسكناتنا، لا يفتر ولا يمل.
ففهم عمر المقصود، فرجع إلى ابنته حفصة، قال: يا حفصة كم تصبر المرأة على زوجها؟ قالت: شهرًا، واثنين، وثلاثة، وأربعة، ثم لا بدّ من وجوده[انظر القصة في السنن الكبرى للبيهقي: 9/29، رقم: 18307، وسنن سعيد بن منصور: 1/341].
فراعى عمر طريق السفر، شهر، وأربعة، وشهر رجوع، فجعل أعلى مدة لغياب الزوج عن زوجته ستة أشهر، وحكم بذلك.
فيجوز أن يغيب عنها أكثر من ستة برضاها، فإذا لم ترضه، فيقال: إما أن ترجع، وإما أن تجعل لها حق الفراق؟ أما أن تمسك وتغيب، وتترك وتهمل، ونفسيتها، وحالها؟ لا، لا يمكن.
منح الشريعة الطفل حرية اختيار البقاء مع أبيه أو مع أمه عند الطلاق:
مراعاة الشريعة للنفسيات، للمشاعر، المحضون إذا صار الفراق بين الزوجين، الذكر الصبي، إذا صار الفراق بين أبويه، يُخير خيار تشهي، كما ورد في السنة، ثبت: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أتى بصبي بلغ سبعًا، أقل من السبع عند أمه، حصل الفراق بين الوالدين، فقال عليه الصلاة والسلام: ((هذا أبوك، وهذه أمك)) [رواه أبو داود: 2279، والنسائي: 3496، وأحمد: 7346، وقال محققو المسند: "إسناده صحيح"] هو يختار، خيار تشهي على حسب ما يريد، على حسب ما يشتهي، مراعاة لنفسيته، أين يحب أن يكون؟ إذا كان لا يوجد مضرة من البقاء عند من اختاره.
أما إذا كان الطرف الذي اختاره، توجد فيه مضرة على الولد، فلا يُمكنه القاضي من ذلك، فلو قال: أريد أمي، فسأله القاضي: لم؟ قال: أبي يريدني أن أصلي، وأنا أتعلم، ويؤدبني، إذا قصرت، وأمي تتركني ألعب، فيراعي القاضي مصلحة المحضون، أهم شيء في أحكام الحضانة كلها، مصلحة المحضون، وهي ما ينظر إليه القاضي أولاً وقبل كل شيء.
ولكن أين الشاهد في الكلام؟
((هذا أبوك، وهذه أمك)) [رواه أبو داود: 2279، والنسائي: 3496، وأحمد: 7346، وقال محققو المسند: "إسناده صحيح"].
فإذا اختار أحدهما صارت حياته ومعيشته عنده، ويمكن الآخر من لقائه في آخر الأسبوع بالليل أو النهار، على حسب الاتفاق، ولا يجوز لأحد الطرفين حرمانه من الآخر.
مراعاة الشريعة لنفسية الكبار:
إذا استوت المؤهلات في الحاضرين للإمامة؛ لأن هناك معايير للمفاضلة: ((يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله)) أحفظهم، أعلمهم بالسنة، أقدمهم هجرة، إذا استووا في المعايير، قال: ((أكبرهم سنًا)) [رواه مسلم: 1566].
لماذا؟
تقديم الكبار مراعاة لنفسيته؛ لأن تقدم الأصغر عليه إزراء به، والشريعة تراعي النفسيات، فإذا استوت المعايير الأخرى يقدم الأكبر.
((لا يؤم الرجل الرجل في سلطانه)) [رواه مسلم: 1564].
لماذا لا يتقدم أحد من الضيوف على صاحب البيت، ولا يتقدم أحد على السلطان، أو صاحب السلطان، أو صاحب المكان، إذا اجتمعوا للصلاة؟
لأن صاحب الدار، وصاحب المكان أولى، مراعاة لنفسه، يقدم هو، إلا إذا أذن لأحدهم أن يتقدم.
ما أعظمها من شريعة؟ ما أعظمها من أحكام؟
اللهم فقهنا في دينك، وعلمنا شرعك، واجعلنا آخذين بسنة نبيك محمد -صلى الله عليه وسلم-، بها عاملين، يا رب العالمين.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله، أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد سبحانه، له الحكم وإليه ترجعون.
وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله، البشير والنذير، أرسله الله رحمة للعالمين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وذريته الطيبين، وخلفائه وأزواجه وصحابته أجمعين، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
اللهم ارض عن الخلفاء الراشدين؛ أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وسائر الصحابة، والسبطين الشريفين، الحسن والحسين، يا أرحم الراحمين.
مراعاة الشريعة لحق المضيف على ظيفانه:
عباد الله: إذا دعي إنسان صائم إلى وليمة، حدث على عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- أن دعوا إلى وليمة، فقال أحدهم: إني صائم، أو أكثر من واحد، فاعتذروا عن الطعام، وكان الصيام نافلة، فقال عليه الصلاة والسلام: ((دعاكم أخاكم، وتكلف لكم)) قال للرجل: ((أَفْطِرْ وَصُمْ مَكَانَهُ يَوْمًا إِنْ شِئْتَ)) [رواه البيهقي في السنن الكبرى: 8622، وحسنه الألباني في مختصر إرواء الغليل: 1952].
قال العلماء: إذا كان صيام نافلة، ودعي الإنسان، فأجاب الدعوة، وحق المسلم على المسلم أن يجيب دعوته، وكان أكثر ما يدعون للطعام بالنهار، قال العلماء: فإن كان يشق على صاحب الدعوة ألا يطعم من الطعام، فيفطر لأجله، ويطعم، وأجره أكبر؛ لأنه راعى نفس أخيه، وشعوره ((أخاكم دعاكم، وتكلف لكم)) [رواه البيهقي في السنن الكبرى: 8622، وحسنه الألباني في مختصر إرواء الغليل: 1952].
هذه شريعة -يا إخوان- لا يوجد مثلها في العالم.
مراعاة الشريعة لنفسية المرأة المطلقة:
المرأة إذا عقد عليها، ولم يسم لها مهر، حصل إيجاب وقبول، وشهادة الشهادتين، ولم يذكر مهر، وما حصل الدخول، ثم رأى أن يطلقها، طلاق ما في عدة، لكن هذه تذهب لو كان المهر مسمى لقيل: لها نصف المهر: {وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} [البقرة: 237].
لكن إذا ما سمى المهر تذهب هكذا؟ الطلاق كسرة نفس للمطلقة، بلا شيء، لا، الشريعة لا تأتي بذلك، والله قال في كتابه: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} [البقرة: 241].
{لاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ النِّسَاء مَا لَمْ تَمَسُّوهُنُّ أَوْ تَفْرِضُواْ لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ} [البقرة: 236].
إذاً، لا بدّ أن يعطيها شيء، مال، ثياب، حلي، هدايا، لا بدّ أن يعطيها شيء، يجب، الله -عز وجل- قال في هذه الحالة: {وَمَتِّعُوهُنَّ} أمر، وقال: {حَقًّا} لا تخرج بلا شيء، مراعاة لنفسها.
مراعاة الشريعة لإذن الزوج عند تصرف الزوجة بماله:
المرأة الحرة الرشيدة تتصرف في مالها كيف شاءت، ولو كانت متزوجة، لكن النبي -عليه الصلاة والسلام- أرشد المرأة المتزوجة إلى استئمار الزوج في التصرفات المالية لها، ليس وجوبًا، لكن استحبابًا، لماذا؟
مراعاة لنفسيته؛ لأنه زوجها، لا يحل لامرأة في مالها التصرف إلا بإذن زوجها، استحبابًا، مراعاة لنفسيته، رجل قوام، فتستأذنه في صداقتها استحبابًا.
مراعاة الشريعة الإسلامية لنفسية البهائم:
عباد الله: مراعاة النفسيات هذه في الأحكام الشرعية في شريعتنا ليست خاصة بالبشر، حتى البهائم في ذبح الأضحية، نهى النبي -صلى الله عليه وسلم- أن تذبح شاة بحضرة الأخرى، مراعاة لنفسية البهيمة الأخرى التي تنظر إلى مصير صاحبتها، توارى عن المشهد.
ورأى النبي -صلى الله عليه وسلم- رجلاً يحد شفرته، يريد أن يذبح شاة، وهي تلحظ إليه ببصرها، هكذا في الحديث. تخيل المشهد! يحد شفرته، بحضرة شاته، وهي تلحظ إليه ببصرها، قال: ((أتريد أن تميتها موتات؟)) [رواه البيهقي في السنن الكبرى: 19615، والطبراني في الأوسط: 3590، والحاكم في المستدرك: 7570، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب: 2265].
لا يوجد دين في العالم، ولا شريعة، ولا أحكام، ولا قوانين، تراعي كل المصالح، كشريعة الإسلام، حتى نفسيات البهائم -يا عباد الله-.
اللهم فقهنا في دينك، اللهم اجعلنا ممن نصرت بهم الدين يا رب العالمين، اغفر لنا أجمعين، واجمع كلمتنا على الحق.
{سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الصافات: 180- 182].