الولاء والبراء
الولاء والبراء أمر فطريٌّ، جاءت الشريعة الإسلامية موافقة فيه الفطرة، وانظر إلى حال الكافرين تجدهم يوالي بعضهم بعضًا على حساب المؤمنين
يقول الله في محكم التنزيل:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ * إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ * وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ * قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ * قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} [المائدة: 54 - 60].
قال ابن جرير رحمه الله: "يعني تعالى ذكره بقوله: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا} [المائدة: 55]، ليس لكم أيها المؤمنون ناصرٌ إلا الله ورسوله والمؤمنون، الذين صِفَتُهم ما ذكر تعالى ذكره، فأما اليهود والنصارى الذين أمركم الله أن تبرؤوا من ولايتهم، ونهاكم أن تتخذوا منهم أولياء، فليسوا لكم أولياء ولا نُصَراء، بل بعضهم أولياء بعض، ولا تتخذوا منهم وليًّا ولا نصيرًا".
الولاء:
الولاء لغة: هو المحبة والنصرة والقرب، والولاء اصطلاحًا: هو موافقة العبد لربه فيما يحبه ويرضاه من الأقوال والأفعال، والاعتقادات والذوات، ويلزم من ذلك المحبة والنصرة لله ولرسوله، ودينه وعامة المؤمنين، فمحل الولاية الأمورُ المحبوبة لله.
قال الله تعالى: {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ * لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [يونس: 62 - 64].
وقال الله سبحانه: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 257].
وقال الله عز وجل: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة: 71، 72].
البَرَاء:
البَرَاء: التباعد من الشيء ومزايلته، والبراء اصطلاحًا: هو موافقة العبد ربَّه فيما يسخطه ويكرهه من الأقوال والأفعال، والاعتقادات والذوات، ويلزم من ذلك البعد والبغض والعداوة لأعداء الله ورسله والمؤمنين، فمحل البراء الأمورُ المكروهة لله.
أهمية الولاء والبَرَاء:
الولاء والبراء شرط في الإيمان؛ قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [المائدة: 51]؛ قال الشنقيطي رحمه الله: "قوله تعالى: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} ﴾[المائدة: 51] ذَكَرَ في هذه الآية الكريمة أن من تولَّى اليهود والنصارى من المسلمين، فإنه يكون منهم بتوليه إياهم، وبيَّن في موضع آخر أن تولِّيهم مُوجِب لسخط الله، والخلود في عذابه، وأن متولِّيهم لو كان مؤمنًا ما تولاهم؛ وهو قوله تعالى: {تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ * وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [المائدة: 80، 81]، ونهى في موضع آخر عن توليهم مبينًا سبب التنفير منه؛ وهو قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ} [الممتحنة: 13]".
سبب لذوق القلب حلاوة الإيمان ولذة اليقين؛ عن أنس أن رسول الله قال: «ثلاثٌ من كُنَّ فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يُقذَف في النار»؛ (متفق عليه، البخاري (6941)، ومسلم (43)).
فالنفي الموجود في شهادة: (لا إله إلا الله) يقتضي البراءة من كل ما يُعبَد من دون الله.
عقيدة أهل السنة والجماعة في الولاء والبراء:
الولاء والبراء مَبْنِيَّان على قاعدة الحب والبغض، وبناءً على ذلك يمكن تقسيم الناس في هذا الجانب إلى ثلاثة أصناف:
الأول: من يُحَبُّ جملةً؛ وهو من آمن بالله ورسوله، وقام بشرائع الإسلام علمًا وعملًا واعتقادًا، فأخلص أعماله وأفعاله وأقواله لله، وانقاد لأوامره، واجتنب نواهيه.
الثاني: من يُحَبُّ من وجه، ويُبغَض من وجه، وهو المسلم الذي خلط عملًا صالحًا وآخر سيئًا، فيُحَب بقدر ما معه من خير، ويُبغَض بقدر ما معه من شر.
أخرج البخاري في صحيحه عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ((أن رجلًا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم كان اسمه عبدالله، وكان يُلقَّب حمارًا، وكان يُضحِك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد جلده في الشراب، فأُتِيَ به يومًا فأمر به فجُلِدَ، فقال رجل من القوم: اللهم الْعَنْه، ما أكثر ما يُؤتى به! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تلعنوه؛ فوالله -ما علمت- إنه يحب الله ورسوله»؛ (البخاري (6780)).
قال ابن تيمية: "إذا اجتمع في الرجل الواحد خيرٌ وشرٌّ وفجور، وطاعة ومعصية، وسُنَّة وبدعة، استحق من الموالاة والثواب بقدر ما فيه من الخير، واستحق من المعاداة والعقاب بحسب ما فيه من الشر، فيجتمع في الشخص الواحد موجبات الإكرام والإهانة، فيجتمع له من هذا وهذا، كاللص الفقير تُقطَع يده لسرقته، ويُعطى من بيت المال ما يكفيه لحاجته، هذا هو الأصل الذي اتفق عليه أهل السنة والجماعة، وخالفهم الخوارج والمعتزلة، ومن وافقهم عليه"؛ (المنتخب من كتب شيخ الإسلام (ص: 214)).
الثالث: من يُبغَض جملةً؛ وهو من كفر بالله وملائكته، وكتبه ورسله، واليوم الآخر، ولم يؤمن بالقدر خيره وشره، أو أشرك بالله في عبادته أحدًا من الأنبياء والأولياء والصالحين، وصرف لهم نوعًا من أنواع العبادة؛ كالحب والدعاء، والخوف والرجاء، والتعظيم والتوكل، والاستعانة والاستعاذة والاستغاثة، والذبح والنذر، والذل والخضوع، والخشية والرغبة والرهبة، أو ألحد في أسمائه وصفاته، واتبع غير سبيل المؤمنين، وانتحل ما كان عليه أهل البدع والأهواء الْمُضِلَّة، وكذلك كل من قامت به نواقض الإسلام، فأهل السنة والجماعة يتبرؤون ممن حادَّ الله ورسوله، ولو كان أقربَ قريب.
قال الله تعالى: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [المجادلة: 22].
ويمتثلون لنهي الله في قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ * قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [التوبة: 23، 24].
وموالاة هذا الصِّنف الثالث تتخذ صورًا ومراتب مختلفةً، فالحكم فيها ليس حكمًا واحدًا؛ فإن من صور الموالاة ما يُوجِب نقض الإيمان بالكلية، ومنها ما هو دون ذلك، فيكون من الكبائر والمحرَّمات.
وهذه الموالاة التي تناقض الإيمان قد تكون اعتقادًا فحسب، وقد تظهر في أقوال وأعمال.
يقول الله جل وعلا: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ} [الأنفال: 73].
قال الله تعالى: {لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ * قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران: 28، 29].
قال ابن جرير: "معنى ذلك: لا تتخذوا - أيها المؤمنون - الكُفَّار ظهرًا وأنصارًا، توالونهم على دينهم، وتظاهرونهم على المسلمين من دون المؤمنين، وتدلُّونهم على عوراتهم؛ فإنه من يفعل ذلك، {فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ} [آل عمران: 28]؛ يعني بذلك: فقد برئ من الله، وبرئ الله منه بارتداده عن دينه، ودخوله في الكفر، {إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً} [آل عمران: 28]؛ إلا أن تكونوا في سلطانهم، فتخافوهم على أنفسكم، فتُظهِروا لهم الولاية بألسنتكم، وتُضمِروا لهم العداوة، ولا تشايعوهم على ما هم عليه من الكفر، ولا تُعينوهم على مسلم بفِعْلٍ".
وقال الله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ * بَلِ اللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ} [آل عمران: 149، 150]، وقال الله عز وجل: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} [الأنعام: 121].
وقال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ} [محمد: 25، 26].
قال ابن حزم: "فجعلهم تعالى مرتدين كفرًا بعد عِلْمِهم الحقَّ، وبعد أن تبين لهم الهدى، بقوله للكفار ما قالوا فقط"؛ (الفصل في الملل والأهواء والنحل (3/122)).
الكفار يوالي بعضهم بعضًا:
اعلم - رحمني الله وإياك - أن الولاء والبراء أمر فطريٌّ، جاءت الشريعة الإسلامية موافقة فيه الفطرة، وانظر إلى حال الكافرين تجدهم يوالي بعضهم بعضًا على حساب المؤمنين، رأينا وسمعنا خطاب مجرم الحرب وهو يتحدث عن الصراع في الشرق الأوسط[1]، وتأثيره في الولايات المتحدة وإسرائيل، في قلب من يزعمون أنهم حماة الحريات والإنسانية، الذين يدينون بدين الديمقراطية، ويكفرون بالله ورسله، الكاذب يركز على عدة نقاط رئيسية:
الوضع في الشرق الأوسط: يصف الكاذب الحالة المتوترة في الشرق الأوسط والصراع بين إيران وإسرائيل وحلفائها، مشيرًا إلى أنه ليس صراع حضارات، بل صراع بين البربرية والتحضر.
الهجوم الإرهابي على إسرائيل: يسلط الكاذب الضوء على الهجوم الذي شنَّته حماس على إسرائيل في السابع من أكتوبر، مستمرًّا في مسلسل الكذب، واصفًا الفظائع التي ارتكبها الإرهابيون، وكيف لا يكذبون، وهم الذين سبُّوا الله عز وجل، وقتلوا الأنبياء، وحرَّفوا التوراة؟ فهل نأمُل منهم الصدق في حديثهم؟
دور الولايات المتحدة: يشكر الكاذبُ الرئيسَ الأمريكي على دعمه لإسرائيل بعد الهجوم، مؤكدًا على العلاقات الوثيقة بين البلدين، ويؤكد أنهم يحاربون نيابة عنهم، ويطلب المزيد من السلاح لإنهاء المهمة سريعًا.
ثم تحدث بطولات الجنود الإسرائيليين: يروي الكاذب قصصًا عن شجاعة الجنود الإسرائيليين من مختلف الخلفيات العرقية والدينية، ويُثني على بطولاتهم في مواجهة الإرهاب، وبالطبع يقصد البطولات في قتل الأطفال والنساء والشيوخ، وفي قصف المدارس والمساجد والمستشفيات، وقتل المدنيين.
ويزعم أن في جيشهم يقاتل مسلمون، ووالله الذي لا إله غيره، ليسوا بمسلمين، وإن صلُّوا وصاموا، وقرؤوا القرآن، وزعموا أنهم مسلمون؛ في الجامع لمعمر بن راشد (ت: 156 هـ) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ثلاث في المنافق وإن صلى وصام، وزعم أنه مسلم: إن حدث كذب، وإن اؤتمن خان، وإن وعد أخلف»؛ (الجامع، معمر بن راشد، 20191).
المحكمة الجنائية الدولية: ثم يعترض الكاذب على الاتهامات الموجَّهة لإسرائيل من المحكمة الجنائية الدولية، ويدافع عن إجراءات الجيش الإسرائيلي لحماية المدنيين، وبالطبع فلا يبالي هو بمثل هذا، ولا لوم عليه، اللوم على من ينتظر أو يأمل أن ينتصر الكافر للمسلم على الكافر.
إيران والإرهاب: يصف الكاذب إيران كراعٍ رئيسي للإرهاب في المنطقة، ويؤكد أن إسرائيل تقف في وجه إيران لمنعها من تحقيق أهدافها العدائية، ولا يخفى عداء إيران لأهل السنة والجماعة، كلاهما عدوٌّ، والتحالفات تتفاوت.
ثم يتحدث عن مبادرة إبراهام - يقصد إبراهيم عليه السلام - ويزعم الكاذب أن القدس هي أرضهم ووطنهم، ووالله الذي لا إله غيره، ليست أرضهم، ولا وطنَهم.
من شبهات وأباطيل اليهود: الحق الأبدي لليهود في فلسطين والقدس:
تلك شبهة من شُبَهِ اليهود التي أرادوا بإشاعتها التأثير، بل وإقناع بعض المخدوعين من العرب وغيرهم؛ ولذا يستدل اليهود بهذه الآية الكريمة من كتاب الله تعالى؛ ليزعموا بأن فلسطين حق كُتِبَ ليهود الأمس واليوم، ولا يجوز منازعتهم في هذا الحق: {يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} [المائدة: 21]، وقد تناقلها بعض كُتَّاب العرب؛ فكتب أحدهم: "لا أعلم دليلًا من كتاب الله أو سنة نبيه صلى الله عليه وسلم يؤكد ضرورة امتلاك العرب القدس، بل على العكس تمامًا؛ فالآية رقم (21) من سورة المائدة تؤكد حق بني إسرائيل فيها".
ونجح الباحثون اليهود في ميل بعض هؤلاء الكُتَّاب العرب إلى تبريراتهم، وحينما تقرأ مقالاتهم تقف مذهولًا من سوء ما يكتبون ويقولون، فهم من أجل الدفاع عن اليهود، ووجودهم في أرض فلسطين، يستدلون بآيات من كتاب الله تعالى، وإن دَعَتِ الحاجة بنصوص من التوراة المحرَّفة، ويستعينون بالتاريخ وبالجغرافيا ما أمكن.
والرد من عدة وجوه:
أبرزها وجهين: ناحية شرعية عقدية، وناحية تاريخية.
أما من الناحية الشرعية:
الأرض لله عز وجل: {إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [الأعراف: 128].
جميع الرسل دينهم الإسلام: فجميع الرسل والأنبياء من بُعِثَ منهم إلى بني إسرائيل، أو إلى غيرهم من الأمم، دينهم الإسلام، ورسالتهم هي الإسلام، ودعوتهم التوحيد، وأتباعهم الذين آمنوا بهم هم المسلمون؛ كما قال تعالى على لسان نوح لقومه: {فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [يونس: 72]، وقال تعالى: {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ * إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ * وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ * أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ * تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [البقرة: 130 - 134]، وقال تعالى: {وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ} [المائدة: 111]، ويقول الله عز وجل {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} [آل عمران: 19].
إبراهيم عليه السلام كان مسلمًا حنيفًا: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ * هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ * مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ * وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ * يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ * يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [آل عمران: 65 - 71].
نحن أولى بموسى منهم: أخرج البخاري ومسلم في صحيحهما، عن عبدالله بن عباس ((أن النبي صلى الله عليه وسلم قدم المدينة، فرأى اليهود تصوم يوم عاشوراء، فقال: «ما هذا» ؟ قالوا: هذا يوم صالح؛ هذا يوم نجَّى الله بني إسرائيل من عدوِّهم، فصامه موسى، قال: «فأنا أحقُّ بموسى منكم»، فصامه، وأمر بصيامه، وفي رواية مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «نحن أولى بموسى منكم»؛ (البخاري (2004)، ومسلم (1130)).
نحن أولى بعيسى عليه السلام منهم:
وأخرج البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أنا أولى الناس بابن مريم، والأنبياء أولاد علَّات، ليس بيني وبينه نبي»؛ (البخاري (3442)).
وأولاد علَّات جاء تفسيرها في روايات أخرى خارج البخاري أن الأنبياء إخوة لعلات؛ ((أمهاتهم شتى ودينهم واحد)).
أرض الشام، فلسطين والأردن والشام، أرض قبل بعثة موسى:
لا شكَّ أن في قوله تعالى: {الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ} [المائدة: 21] دليلٌ على أن القدس وفلسطين مقدسَّة منذ القدم، قبل أن يحل بها قوم موسى؛ لأن وجود المسجد الأقصى في القدس وفلسطين كان قبل حلول بني إسرائيل في فلسطين، وقبل أنبياء بني إسرائيل؛ الذين يزعم اليهود وراثتهم، وكان من تعظيم موسى للأرض المقدسة أن سأل الله تبارك وتعالى عند الموت أن يُدنيَه منها؛ فقد روى مسلم في صحيحه مرفوعًا: «فسأل موسى اللهَ تعالى أن يدنيه من الأرض المقدسة رميةً بحَجَرٍ، فلو كنت ثَمَّ لأريتُكم قبره إلى جانب الطريق تحت الكثيب الأحمر»؛ (مسلم (2372))؛ قال النووي: "وأما سؤاله - أي: موسى عليه السلام - الإدناء من الأرض المقدسة؛ فلشرفها وفضيلة من فيها من المدفونين من الأنبياء وغيرهم".
الأرض المقدسة مآلها للمؤمنين المستمسكين بدينهم في كل زمان:
سكن أرض فلسطين (الأرض المقدسة) في الماضي أجيال مؤمنة من بني إسرائيل، وأقاموا عليها حكمًا إسلاميًّا مباركًا زمن يوشع، وطالوت، وزمن داود وسليمان، ولقد كتب الله الأرض المقدسة (فلسطين) لذلك الجيل المؤمن من بني إسرائيل لإيمانهم وفضلهم على الكافرين الذين كانوا في زمانهم، ومكَّنهم من دخولها على يد يوشع بن نون، ونصرهم على أعدائهم الكافرين، فلما جاءت أجيال جديدة منهم، وخالفت شرط الاستخلاف، ونقضت عهد الله وطَغَتْ وبَغَتْ، أوقع الله بها لعنته وسخطه، ونزع الأرض المقدسة منهم، وكتب عليهم الشَّتات والضياع في بقاع الأرض؛ كما قال تعالى: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ * وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَمًا مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ * فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ * وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ} [الأعراف: 167 - 170].
هل خالف الصحابة رضي الله عنهم أمرَ الله عز وجل، وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم بفتح القدس في عهد عمر رضي الله عنه؟
الذين قدَّر الله سبحانه أن يتحرر بيت المقدس على أيديهم وسلطانهم، وإقامة حكم الله عليها هم المسلمون، ومن هؤلاء: المسلمون بقيادة يوشع بن نون، والمسلمون المجاهدون الذين من بينهم داود، وجاء بعد داود ابنه سليمان، وعلى عهده كان بيت المقدس عاصمة للدولة الإسلامية، وليست عاصمة لليهود كما يزعمون، والمسلمون صحابة رسول الله رضوان الله عليهم، فعلى أيديهم بدأت معارك التحرير بما في ذلك بيت المقدس، وشاء الله أن يتحرر ويقوم عليها حكم الإسلام على عهد عمر بن الخطاب ت: عام (15 هـ)، والمسلمون بقيادة نور الدين محمود بن زنكي، وصلاح الدين الأيوبي، وغيرهم من الحكام المسلمين هم الذين قادوا المجاهدين المسلمين حتى تحقق على أيديهم تحرير بيت المقدس بعد (93) عامًا من اغتصابها.
يجب أن نفرِّق بين أنبياء بني إسرائيل ومن آمن معهم، وتاريخهم المشرِق الذي حكمهم فيه مؤمنوهم وصالحوهم، وقادهم فيه أنبياؤهم، فهذا التاريخ نعتبره تاريخًا إسلاميًّا؛ مثل: تاريخ موسى وهارون، وتاريخ داود وسليمان، وتاريخ زكريا ويحيى، وتاريخ عيسى عليهم السلام، وبين التاريخ الأسود الذي يقوم على الكفر والتكذيب، ومحاربة الحق، ونقض العهود، وقتل الأنبياء، وممارسة الظلم، والسعي في الفساد، ونشر الرذائل والمنكرات، فهذا التاريخ هو التاريخ الحقيقي لليهود، وهذا ما نتبرأ منه وننكره، ونحكم عليهم بالكفر والظلم، والفسوق والعصيان.
إن هذه الأرض - بيت المقدس - هي للمسلمين ما داموا أنصارًا لدين الله، فقد ارتبط امتلاك هذه الأرض بالإيمان بالله، فقد كان الكنعانيون هم سكان فلسطين في عهد موسى، ولما أنجى الله سيدنا موسى ومن معه من بني إسرائيل من فرعون، أمرهم موسى بأمر الله، وللعلم فإن جواب الشبهة في نفس الآيات، لكنها عادة أهل البدع والأهواء، نعوذ بالله منهم، اجتزاء الآيات والأحاديث من السياق: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ * يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ * قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ * قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ * قَالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ * قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} [المائدة: 20 - 26].
وتأمل معي الوقف على قول الله عز وجل: {فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ} [المائدة: 26]، تجد الجواب واضحًا إن شاء الله، إنها ليست أرضهم، وليست لهم، واليهود الذين غضب الله عليهم ولعنهم في القرآن، إنما كان ذلك بسبب سوء أعمالهم؛ بدليل قوله تعالى: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا * وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا * وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا * بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} [النساء: 155 - 158]، فهؤلاء إنما غضب الله عليهم بسبب عملهم، أما القدس اليوم التي نتحدث عنها فهي وقف إسلامي، بعد فَتْحِ أمير المؤمنين عمر بن الخطاب لها، وهذا أمر مُجمَعٌ عليه عند عامة الأئمة قديمًا وحديثًا، ولم ترِد فيه المخالفة، ولا عِبرة بتقاعُس المسلمين اليوم عن النصرة، فالحُجَّة على من ضيَّع وخالف.
الإيمان بهذه الشُّبهة فيه تكذيب للنبي محمد صلى الله عليه وسلم:
الإيمان بهذه الشبهة فيه تكذيب للنبي محمد صلى الله عليه وسلم، الذي بشَّر بفتح بيت المقدس قبل أن يُفتح؛ فقد جاء عن عوف بن مالك قال: ((أتيت النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك وهو في قبة من أَدَمٍ، فقال: اعدُدْ ستًّا بين يدي الساعة: موتي، ثم فتح بيت المقدس، ثم مُوتَانٌ يأخذ فيكم كقُعاصِ الغنم، ثم استفاضة المال حتى يُعطى الرجل مائة دينار فيظل ساخطًا، ثم فتنة لا يبقى بيت من العرب إلا دخلته، ثم هدنة تكون بينكم وبين بني الأصفر، فيغدرون فيأتونكم تحت ثمانين غايةً، تحت كل غاية اثنا عشر ألفًا))؛ [البخاري (3176)].
أفرد البخاري في صحيحه بابًا أسماه: (باب من أحب الدفن في الأرض المقدسة)، وشرح ابن حجر هذا الباب بقوله: "إن الله لما منع بني إسرائيل من دخول بيت المقدس، وتركهم في التيه أربعين سنة، إلى أن أفناهم الموت، فلم يدخل الأرض المقدسة مع يوشع إلا أولادهم... ولم يدخلها معه أحد ممن امتنع أولًا أن يدخلها، ومات هارون ثم موسى قبل فتح الأرض المقدسة".
أما الرد من الناحية التاريخية:
الواجب على المسلمين هو بذل الوسع في أن يكون أهل الأرض خاضعين لحكم الله تعالى، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرسل الجيوش ليدعو الناس إلى الإسلام، فيعرضونه عليهم، فإن أبَوا، عرضوا عليهم الجزية، فإن أبَوا، قاتلوهم حتى لا تكون فتنة، ويكون الدين كله لله.
والأرض المقدسة وما حولها من جميع بلاد فلسطين، والشام، والأردن، ملكها العرب قديمًا قبل مجيء بني إسرائيل إليها، فقد أسَّس الكنعانيون فيها المدن، وأقاموا حضارة ظاهرة معلومة، وسميت الأرض باسمهم، فقيل لها: أرض كنعان، أو أرض اليبوسيين، وهم من الكنعانيين، والكنعانيون قبائل عربية، وطنها الأصلي شبه الجزيرة العربية، لكنهم هاجروا إلى ساحل البحر الأبيض المتوسط في أوائل الألف الثالثة قبل الميلاد، وقد حارب بنو إسرائيل القبائل العربية المستولية على تلك المنطقة، واستطاعوا وصول الأرض المقدسة، وإقامة دولتهم فيها، ثم وقعت فلسطين تحت الحكم البابلي، ثم الفارسي، ثم اليوناني، ثم اليهودي الكابي، ثم الروماني، وتم تدمير أورشليم (القدس) عام 70م، وبتحول الإمبراطورية الرومانية إلى النصرانية عام 324م، خضعت فلسطين للحكم النصراني، إلى أن جاء الفتح الإسلامي عام 638م.
واستمرت خاضعة لحكم المسلمين طول هذه القرون، باستثناء فترة وقوعها تحت الغزو الصليبي من عام 1099 إلى 1187م، ومن 1229 إلى 1239م.
لكن نحن - المسلمين - لا نتمسك بحق الوجود في هذه الأرض المباركة، اعتمادًا على الوجود العربي السابق فيها على وجود اليهود والنصارى، ولكنا نعتمد في ذلك على ما حكم به رب العالمين من أن الأرض له يُورِثها من يشاء من عباده، {إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [الأعراف: 128].
وقد كان الفتح الإسلامي للقدس وما حولها إنقاذًا حقيقيًّا للنصارى من الاضطهاد الروماني، الذي عانَوا منه زمنًا طويلًا، وكان ما شاهدوه من عدل المسلمين، ورحمتهم، وتمسكهم بدينهم سببًا في دخول أكثرهم في الإسلام، وظل من تمسك منهم بملته آمنًا مطمئنًّا على نفسه، لم يُجبَر لحظة على الدخول في الإسلام.
ولما تخلى المسلمون عن دينهم، وضعف تمسكهم به، تلاعب بهم اليهود والنصارى، وأدخلوا إلى أرض فلسطين الجماعاتِ اليهودية المنبوذة من شعوب العالم، فعمِلت على تهجير المسلمين من أرضهم، وغصب ممتلكاتهم، إلى غير ذلك من صور الظلم، وألوان الاضطهاد، الذي لا تُقِرُّه شريعة، ولا يَسُوغُه عُرف، أو مبدأ، أو قانون.
وحين يعود المسلمون إلى دينهم، ويعتصمون بكتاب الله، وسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم، ويأخذون بأسباب النصر والتمكين، ستعود لهم السيادة الكاملة على فلسطين، وغيرها؛ تنفيذًا لوعد الله تعالى الذي لا يتخلَّف: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ * وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ * لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [النور: 55 - 57].
ختامًا:
اللهم إنا عبيدك، بنو عبيدك، بنو إمائك، نواصينا بيدك، ماضٍ فينا حكمك، عدلٌ فينا قضاؤك، نسألك اللهم بكل اسم هو لك سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحدًا من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك، أن تجعل القرآن ربيع قلوبنا، ونور صدورنا، وجلاء أحزاننا، وذهاب همِّنا وغمِّنا.
اللهم من كان من والدينا حيًّا، فأطِلْ عمره في طاعتك، ومُنَّ عليه بالصحة والعافية وحسن الخاتمة، واجعل قوته الوارث منه، ومن سبقنا منهم إليك، فاغفر له ذنبه، ووسِّع له في قبره مدَّ بصره، وآنس وحدته ووحشته.
اللهم ربِّ لنا أبناءنا، وأصلح نساءنا، واهدِ بناتنا، وارزقهن العفاف، ووفق المسلمين لكل خير وبرٍّ.
اللهم مُنزِل الكتاب، مجريَ السحاب، هازم الأحزاب، اهزم اليهود والنصارى ومن عاونهم ومن رضِيَ عنهم، وانصرنا عليهم، اللهم اجعل كيد الكافرين في نحورهم، اللهم فرِّق جمعهم، وشتِّت شملهم، واجعل بأسهم بينهم شديدًا، اللهم انصر إخواننا في غزة يا رب، وانصر المسلمين المستضعفين في كل مكان، اللهم تولَّهم وانصرهم فأنت نعم المولى ونعم النصير، اللهم بردًا وسلامًا عليهم، اللهم أنجِ المستضعفين من المؤمنين، اللهم احفظهم بما تحفظ به عبادك الصالحين، اللهم أنزل الصبر والسكينة عليهم، اللهم استر عوراتهم، وآمن روعاتهم، واربِط على قلوبهم، اللهم سدِّد رَمْيَ المجاهدين يا رب.
وصلِّ اللهم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم، والحمد لله رب العالمين.
[1] 10 رسائل في خطاب نتنياهو أمام الكونغرس، لمن وجهها؟ العربية: 10 رسائل في خطاب نتنياهو أمام الكونغرس.. لمن وجهها؟ (alarabiya.net).
____________________________________________
الكاتب: أبو مالك هيثم بن عبدالمنعم الغريب
- التصنيف: