ودخل شهر شعبان

منذ 10 ساعات

عبد الله: أكرم هذا الشهر، وقدر له قدره؛ فهو سفير رمضان، ومحطة للتزود من الإيمان، والترويض على فعل الطاعات، وترك المعاصي والمنكرات، واحرص على إنهاء مشاغلك في شعبان، ليتسنى لك التفرغ في رمضان

ودخل شهر شعبان

الحمد لله الذي بيده الأمر، فضَّل شهرًا على شهر، وخصَّ بعضها بمزيد الثواب والأجر، نشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، مُوالي البركات، ومُغدق الرحمات، ونشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبدالله ورسوله، نبي الرحمة واليُسر، دائم العمل والبِشر، صلى الله وسلم وبارك عليه، أزكى من تعبَّد لله وصام، وابتهل لله وقام، حتى تفطَّرت منه الأقدام، ومن تبعهم بإحسان وإيمان على الدوام.

 

أما بعد:

فاتقوا الله {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} [البقرة: 194].

 

عباد الله:

ودخل الشهر المبارك شعبانُ، نعم، هلَّ علينا هذا الشهر مذكِّرًا جميع المسلمين بقرب شهر رمضان، وفيه تفوح نسائم الإيمان، مبشرةً بقرب شهر رمضان، شهرٌ ينتظره المؤمن ويهتم به، إنه شهر القرَّاء، شهرُ رفعِ الأعمال إلى رب العالمين، شهر الاستعداد لرمضان، يا تُرى هل فطِنَّا لدخوله؟ هل استشعرنا قدر هذا الشهر؟ يبدو أن الكثير مقصر في ذلك، إنها الغفلة يا عباد الله، نعم، الغفلة، الغفلة عن قدره وفضله ومكانته.

 

أيها المؤمنون:

هل تعلمون أن ثواب العبادة وقت الغفلة يكون مضاعفًا؟ قال صلى الله عليه وسلم: «العبادة في الهَرْجِ كهجرة إليَّ»؛ (رواه مسلم)، والهرج؛ أي: زمن الغفلة والفتن، واختلاط الأمور؛ حيث يثبت على الطاعات والحق أقليَّة، وهم أهل التفرد والتميز، وهم الصالحون.

 

وإن من التفرد أن تقوم الليل والناس نائمون، وتصوم النهار والناس مُفطرون، وتعمل بجدٍّ والناس متكاسلون، وتحافظ على ذكر الله والناس صامتون، وتقرأ القرآن والناسُ بأحاديث الدنيا منشغلون.

 

عباد الله:

عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال: ((قلت: يا رسول الله، لم أرَك تصوم شهرًا من الشهور ما تصوم من شعبان، قال: «ذلك شهر يغفُل الناس عنه بين رجبٍ ورمضانَ، وهو شهر تُرفع فيه الأعمال إلى رب العالمين، فأُحب أن يُرفع عملي وأنا صائم»؛ (رواه النسائي، وحسنه الألباني).

 

لقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم سببين لتفضيل هذا الشهر، فأولهما أنه شهر يغفُل الناس عنه لوقوعه بين شهرين عظيمين؛ الشهر المحرم رجب، ورمضان المبارك، والثاني أنه تُرفع فيه أعمال العباد إلى الله تعالى، فأراد أن يُرفع عمله وهو صائم، وهذا العرض للأعمال هو العرض السنويُّ؛ فإن عرض الأعمال على الله يوميٌّ وأسبوعيٌّ وسنويٌّ؛ فإنه يُعرض عليه عز وجل عمل الليل بالنهار، وعمل النهار بالليل، والأسبوعي يُعرض عليه يومي الاثنين والخميس؛ ولذلك ندب عليه الصلاة والسلام إلى صيامهما، وأما السنوي فتُعرض الأعمال في شعبان؛ فاستحب صيام أكثره.

 

أيها المؤمنون:

إن صيام أكثر شعبان سُنة ثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ قالت أمنا عائشة رضي الله عنها: ((لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الشهر من السنة أكثر صيامًا منه في شعبان))؛ (رواه البخاري ومسلم)، وفي رواية لهما: ((كان يصوم شعبان كله)).

 

قال ابن رجب رحمه الله: "صيام شعبان أفضل من صيام الأشهر الحُرم، وأفضل التطوع ما كان قريبًا من رمضان قبله وبعده، وتكون منزلته من الصيام بمنزلة السنن الرواتب مع الفرائض قبلها وبعدها وهي تكملة لنقص الفرائض، وكذلك صيام ما قبل رمضان وبعده، فكما أن السنن الرواتب أفضل من التطوع المطلَق بالصلاة، فكذلك يكون صيام ما قبل رمضان وبعده أفضل من صيام ما بعُد منه"؛ (انتهى كلامه رحمه الله).

 

أيها المباركون:

أرأيتم ذلك الرياضي قبل المباراة يتدرب حتى تحصل له اللياقة البدنية ولا يُصاب بإصابة رياضية؟ فكذلك المؤمن يستعد لموسم المنافسة والسباق إلى الله، فيتدرب على الصيام والقيام وقراءة القرآن حتى لا يُصاب بالإعياء والكسل في رمضان ويفوته الأجر الكبير، بل إذا جاء رمضان كان أشدَّ الناس قوةً وصبرًا وتحملًا للعبادة وفاز بالأجر العظيم.

 

عباد الله، مشكلتنا أننا في كل عام يأتينا رمضان ونحن غافلون، فنبدأ في الطاعة والعبادة من الصفر، ثم نرقى شيئًا فشيئًا فلا نكاد نجد طعم العبادة وحلاوة الطاعة إلا وقد انقضى رمضان، وانطوت صحائفه فنندم ونتحسر ونتألم، ونقول: نعوض في العام القادم، ويأتي العام القادم فلا يكون أحسن حالًا من سابقه، وهكذا حتى يحق الحق، ويغادر الإنسان دنياه وهو كما هو، ولو أننا تذكرنا ما كان يُقال عن أسلافنا، وأنهم كانوا يستقبلون رمضان قبل مجيئه بستة أشهر، لو تذكرنا هذا لعرَفنا لماذا كانوا يجدون لرمضان طعمًا ربما لا نجده نحن، القضية – إذًا - قضية استعداد لهذا الشهر بالعبادة والطاعة والبر، القضية – إذًا - قضية اغتنام أوقات شهر شعبان المبارك؛ حتى لا يأتي رمضان إلا وقد ارتقى الإنسان منازلَ عاليةً من الطاعة والعبادة.

 

فاستغلوا أيامكم ولياليكم، وبادروا بالعمل الصالح؛ فإن من صام يومًا في سبيل الله، باعد الله وجهه عن النار سبعين خريفًا كما في الصحيحين، خصوصًا الأيام الفاضلة منه كأيام الاثنين والخميس وأيام البيض، وحثُّوا أبناءكم ودرِّبوهم عليه؛ حتى لا يصابوا بثقل أو تعب في رمضان.

 

إخوة الإسلام:

وإن من الطاعات التي درج السلف الصالح عليها في شهر شعبان: قراءةَ القرآن الكريم؛ فقد كانوا يجِدون في شعبان، ويتهيئون فيه لرمضان بكثرة قراءة القرآن؛ قال أنس بن مالك رضي الله عنه: "كان المسلمون إذا دخل شعبان أكبُّوا على المصاحف فقرؤوها، وأخرجوا زكاة أموالهم تقويةً لضعيفهم على الصوم"، وكان عمرو بن قيس – وهو من التابعين أيضًا - إذا دخل شهر شعبان أغلق حانوته - أي دكانه - وتفرغ لقراءة القرآن، ولما كان شعبان تقدمةً لرمضان فحريٌّ بالمسلمين أن يجتهدوا فيه بشيء مما يكون في رمضان.

 

والخلاصة - أيها الكرام - أن شعبان كالسُّنة الراتبة بين يدي رمضان، وكالدورة التدريبية التمهيدية قبله، فلتتدرب ولتَزِدَ من أعمالك الصالحة فيه، فإن كنت في رجب تقرأ جزءًا في اليوم فزِدها، وإن كنت لا تصوم قبل شعبان فصُم فيه، وإن كنت تمكث في المسجد يسيرًا، فزِد مكوثك، حتى إذا دخل عليك رمضان كنت في إقبال وازدياد: {وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} [البقرة: 223].

 

فلم يكن رسول الهدى صلى الله عليه وسلم يحتفي بهذا الشهر بأعمال خاصة غير الصيام، فلم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يدعو بالبركة في هذا الشهر؛ أما ما يُروى أنه كان إذا دخل شهر رجب قال: «اللهم بارك لنا في رجب وشعبان، وبلَّغنا رمضان»، فقد ضعَّفه الحفَّاظ.

 

ومنها تعظيم ليلة النصف من شعبان، وإظهار الفرح والزينة، والاحتفاء بها بالصلاة والذكر، والاجتماع في المساجد، وإنشاد القصائد والمدائح، أو صوم نهارها، كل ذلك ليس من هَدي النبي صلى الله عليه وسلم، ولا من فِعل أصحابه رضي الله عنهم، فلم يرِد عنهم أنهم خصُّوا هذه الليلة بصلاة أو غيرها، ولو كان خيرًا لسبقوا غيرهم إليه.

 

أيها المؤمنون، ويجدر التذكير إلى وجوب قضاء الصوم لمن كان قد أفطر في رمضان الماضي، فلا يجوز له التأخير إلى ما بعد رمضان القادم إلا لضرورة، وليذكِّر كل منا أهل بيته بذلك، ومن قدر على القضاء قبل رمضان ولم يفعل، فهو آثِم، ويلزمه أمران: الأول التوبة، والثاني القضاء، وأمر ثالث يلزمه على قول بعض أهل العلم؛ وهو إطعام مسكين عن كل يوم يقضيه.

 

ومما يحسن التنبيه إليه أيضًا أنه يحرم تقدم رمضان بالصيام بيوم أو يومين، بنية الاحتياط، فلا يُصام إلا برؤية هلال رمضان، أو إكمال عدة شعبان ثلاثين يومًا، فصوم يوم الشك منهيٌّ عنه؛ قال صلى الله عليه وسلم: «لا يتقدمن أحدكم رمضان بصوم يوم أو يومين، إلا أن يكون رجلٌ كان يصوم صومه، فليصُمْ ذلك اليوم»؛ (رواه البخاري ومسلم)، فليس داخلًا في التحريم من كان له عادةُ صوم، فصادف قبل رمضان بيوم أو يومين، أو صام قضاءً.

 

عبد الله: أكرم هذا الشهر، وقدر له قدره؛ فهو سفير رمضان، ومحطة للتزود من الإيمان، والترويض على فعل الطاعات، وترك المعاصي والمنكرات، واحرص على إنهاء مشاغلك في شعبان، ليتسنى لك التفرغ في رمضان، خصوصًا الليالي الأخيرة منه، فالتخلص منها الآن أحفَظُ لوقتك وأجمع لشعث قلبك، اللهم بلغنا والمسلمين رمضانَ ونحن بأحسن حال من الدنيا والدين، واجعلنا فيه من السابقين المتقين، واجعلنا وإياهم من المقبولين، برحمتك يا أرحم الراحمين.

 

صلوا وسلموا...

  • 3
  • 0
  • 110

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً