صلة الأرحام وبركة الأرزاق والأيام

منذ 16 ساعة

ألا تُريدُ محبة الأهل وبركةَ الرِّزقِ وطولَ العُمرِ ودفع ميتة السوء وإجابة الدعاء؟ إن ذلك كله حاصل بصلة الرحم والإحسان إليهم، وإليكم مصداق ذلك في قوله صلى الله عليه وسلم: «من أحب أن يُبسط له في رزقه، ويُنسأ له في أثره، فليَصِل رحمه»

صلة الأرحام وبركة الأرزاق والأيام

الحمدُ للهِ الدَّائمِ توفيقُه، المتواترِ عطاؤُه وتسديدُه، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا الله وحدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ تَعظِيمًا لشأنه، وَأَشْهَدُ أنَّ سيدنا مُحمّدًا عَبدُهُ وَرَسُولُهُ، الدَّاعِي لِرِضْوَانِهِ، وَالْهَادِي إِلَى إِحْسَانِهِ، صَلّى اللهُ عَلْيِهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَسلّمَ تَسْلِيمًا كَثِيْرًا إِلَى يِوْمِ لِقَائِهِ، أما بعـد:

فلا شك أن السَّعة في الرزق من الأمور التي يسعى لتحقيقها كلُّ إنسان، وبلوغُها لا يتأتَّى إلا بتوفيق من الله تعالى، وقد جعل الله لنا أسبابًا نُقبل عليها، ونُحقق من خلالها مرادنا، ونُحصِّل معها الأجر والثواب بفعلها أو المواظبة عليها، ويأتي بذلك للمسلم نعيمُ الدنيا والآخرة.

 

• ألا تُريدُ محبة الأهل وبركةَ الرِّزقِ وطولَ العُمرِ ودفع ميتة السوء وإجابة الدعاء؟ إن ذلك كله حاصل بصلة الرحم والإحسان إليهم، وإليكم مصداق ذلك في قوله صلى الله عليه وسلم: «من أحب أن يُبسط له في رزقه، ويُنسأ له في أثره، فليَصِل رحمه»؛ (رواه البخاري ومسلم).

 

ومعنى يُنسأ: يُؤخر له في أجله، ويزداد له في عمره.

 

قال ابن سعدي رحمه الله: هذا الحديث فيه الحث على صلة الرحم، وبيان أنها كما أنها موجبة لرضا الله وثوابه في الآخرة، فإنها موجبة للثواب العاجل، بحصول أحب الأمور للعبد، وأنها سبب لبسط الرزق وتوسيعه، وسبب لطول العمر. وذلك حق على حقيقته؛ فإنه تعالى هو الخالق للأسباب ومسبباتها.

 

• وأخرج أحمد والطيالسي عن عمرو بن سهل رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «صلة القرابة مثراة في المال، محبة في الأهل، منسأة في الأجل»؛ (صحيح الجامع).

 

وعند الترمذي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «تَعَلَّمُوا مِنْ أَنْسَابِكُمْ مَا تَصِلُونَ بِهِ أَرْحَامَكُمْ؛ فَإِنَّ صِلَةَ الرَّحِمِ مَحَبَّةٌ فِي الأَهْلِ، مَثْرَاةٌ فِي الْمَالِ، مَنْسَأَةٌ فِي الأَثَر»؛ يَعْنِي: زِيَادَةً فِي الْعُمُرِ.

 

• وأخرج الإمام أحمد في مسنده والبيهقي عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «صلة الرحم، وحسن الخلق، وحسن الجوار، يعمرن الديار، ويزدن في الأعمار»؛ (صححه الألباني في صحيح الجامع).

 

• وعَنْ عَلِيٍّ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَنْ سَرَّهُ أَنْ يُمَدَّ لَهُ فِي عُمرِهِ، وَيُوَسَّعَ لَهُ فِي رِزْقِهِ، وَيُدْفَعَ عَنْهُ مِيتَةُ السُّوءِ، فَلْيَتَّقِ اللهَ وَلْيَصِلْ رَحِمَهُ»؛ (رواه أحمد، وصححه الشيخ: أحمد شاكر).

 

قال ابن التين رحمه الله: "صلة الرحم تكون سببًا للتوفيق والطاعة، والصيانة عن المعصية، فيبقى بعده الذكر الجميل فكأنه لم يمت".

 

فأين أنت من هذه المنح الإلهية وتلك الفوائد الدنيوية والأخروية العظيمة التي تجلبها صلة الرحم؟! قال صلى الله عليه وسلم: «ليس شيء أطيع الله فيه أعجل ثوابًا من صلة الرحم»؛ (رواه البيهقي).

 

• ومما قاله العلماء في معنى زيادة العمر وبسط الرزق الواردين في هذه الأحاديث: أن هذه الزيادة بالبركة في عمره، وبالتوفيق للطاعات، وعمارة أوقاته بما ينفعه في الآخرة، وصيانتها عن الضياع في غير ذلك.

 

والثاني أن الزيادة على حقيقتها فالذي يصل رحمه يزيد الله له في عمره، ويوسع له في رزقه، وأنه بالنسبة إلى ما يظهر للملائكة وفي اللوح المحفوظ ونحو ذلك، فيظهر لهم في اللوح أن عمره ستون سنة إلا أن يصل رحمه، فإن وصلها زيد له أربعون، وقد علم الله سبحانه ما سيقع له من ذلك وهو من معنى قوله تعالى: {يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ} [الرعد: 39]، فبالنسبة إلى علم الله تعالى وما سبق له قدره لا زيادة بل هي مستحيلة، وبالنسبة إلى ما ظهر للمخلوقين تتصور الزيادة، وهو مراد الحديث.

 

• والأرحام: هم الأقارب من جهة الأم ومن جهة الأب، فالآباء والأمهات والأجداد والجدات أرحام، والأولاد وأولادهم من ذكور وإناث وأولاد البنات كلهم أرحام، وهكذا الإخوة والأخوات وأولادهم أرحام، وهكذا الأعمام والعَمَّات والأخوال والخالات وأولادهم أرحام داخلون كلهم في قوله جل وعلا: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ} [الأنفال: 75].

 

ولقد أمر الله -تعالى- بصلة الأرحام، ورغب فيها، بل أوجبها على عباده فى كتابه: في قوله سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى} [النحل: 90]، وقوله تعالى: {فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الروم: 38].

 

• قال الطبري -رحمه الله-: "وإعطاء ذي القربى الحقَّ الذي أوجبه الله عليك بسبب القرابة والرحم"؛ (تفسير الطبري).

 

وقَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ: صِلَةُ الرَّحِمِ فَرْضٌ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ.

 

وقرن الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز حقهم في الإسلام بعبادته وتوحيده، فقال تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى} [النساء: 36].

 

وجعل الله صلة الرحم حقًّا واجبًا في جميع الأديان، وعلى مر العصور والأزمان، فقال سبحانه: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرائيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى} [البقرة:83].

 

وقد وصَّانا الله تعالى بحق الأرحام كما في قوله تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1].

 

وبالنظر إلى الآية الآنفة الذكر وهي قوله تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ} نجد أن الله سبحانه وتعالى قد قرن فيها بين تقواه سبحانه وبين صلة الأرحام.

 

قال الإمام القرطبي رحمه الله عند تفسير هذه الآية: "أي: اتقوا الله أن تعصوه واتقوا الأرحام أن تقطعوها".

 

والجمع بين تقوى الله والحث على صلة الرحم والتحذير من قطعها دليلٌ على تأكيد الإسلام على صلة الأرحام، وإلا لما جعله الله قرينًا للتقوى، فلما جمع معه تأكد الحث عليه والعناية به.

 

وفي موضع آخر من القرآن جمع الله بين الإفساد في الأرض وقطيعة الرحم، فقال تعالى: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ} [محمد: 22]، ولا شك أن لهذا الجمع مغزى؛ ألا وهو تبكيت قطيعة الرحم والتحذير منها، فمجرد الجمع بين القطيعة والإفساد في الأرض تحذير ووعيد، ثم إنه سبحانه قد رتَّب في هذه الآية اللعن على مَن هذه حاله، وأخبر أنه سبحانه قد أصمَّ أذني هذا الشخص عن سماع الحق، وأعمى بصره عن رؤية الطريق المستقيم؛ طريق أوليائه الصالحين، فقال: {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ} [محمد: 23].

 

ثم إنه سبحانه وتعالى قد توعَّد الذين يقطعون ما أمر الله به أن يوصل من الأرحام وغيرها فقال تعالى: {الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [البقرة: 27]، وقال تعالى: {وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} [الرعد: 25].

 

وروى الإمام مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم: «إن الله خلق الخلق، حتى إذا فرغ منهم قامت الرحم فقالت: هذا مقام العائذ بك من القطيعة. قال: نعم! أما يرضيك أن أصل من وصلك وأقطع من قطعك؟! قالت: بلى. قال: فذاك لك».

 

ومما ذكر نستلهم وجوب صلة الأرحام وتحريم قطيعة الرحم؛ إذ إن الحق سبحانه قد توعَّد من يقطع ما أمره الله بوصله من رحم وغيره، قد توعَّده باللعن؛ وهو الطرد من رحمة الله، كما توعَّده بأن له سوء الدار، والمراد بذلك جهنم، حمانا الله وإياكم منها.

 

• وأما سنة النبي صلى الله عليه وسلم فمن درسها أو اطَّلَع عليها وجدها ملأى بصلة الرحم قولًا وفعلًا.. فكان عليه الصلاة والسلام يأمر أصحابه أن يصلوا أرحامهم ويقدموهم على غيرهم في كل خير، وقرن صلى الله عليه وسلم صلة الأرحام بإفراد الله بالعبادة والصلاة والزكاة، جاء رجل إلى المصطفى صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، أخبرني بعمل يدخلني الجنة، فقال: «تعبد الله ولا تشرك به شيئًا، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصل الرحم»؛ (متفق عليه).

 

وكان صلى الله عليه وسلم قدوة لهم، فكان يصل قراباته وأرحامَه بكل أنواع البر والصلة، يعود مريضهم، ويعطي فقيرهم، ويتفقد محتاجهم، ويواسيهم في أفراحهم وأتراحهم، ويدعو لهم، ويثني عليهم، ويطلب من المسلمين أن يراعوه فيهم: {قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} [الشورى: 23]، وبهم كان يبدأ في كل خير، بل أمره الله أن يبدأ بهم دعوته في مكة فقال: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} [الشعراء: 214].

 

وكان الأمر بصلة الأرحام أصلًا في دعوته، وسمة بارزة من سمات رسالته، به بدأ دعوته في مكة، ففي حديث هرقل مع أبي سفيان في الصحيحين: "سأله هرقل: ما يقول لكم؟ قال: يقول: اعبدوا الله وحده ولا تشركوا به شيئًا، ويأمرنا بالصلاة والصدقة والعفاف والصلة".

 

يقول عمرو بن عبسة رضي الله عنه: "قدمت مكة أول بعثة النبي صلى الله عليه وسلم فدخلت عليه فقلت: ما أنت؟ قال: «نبي»، قلت: وما نبي؟ قال: «أرسلني الله»، قلت: بمَ أرسلك؟ قال: «بصلة الأرحام، وكسر الأوثان، وأن يوحد الله»؛ (رواه الحاكم).

 

وكما كان الأمر بصلة الرحم أول ما بدأ به في مكة، كذلك كان أول ما بدأ به عند هجرته إلى المدينة.. فعن عبدالله بن سلام قال: "لمَّا قدمَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم المدينةَ، انجَفلَ النَّاسُ قبلَهُ، وقيلَ: قد قدمَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، قد قدمَ رسولُ اللَّهِ، قد قدمَ رسولُ اللَّهِ، ثلاثًا، فَجِئْتُ في النَّاسِ، لأنظرَ، فلمَّا تبيَّنتُ وجهَهُ، عرَفتُ أنَّ وجهَهُ ليسَ بوَجهِ كذَّابٍ، فَكانَ أوَّلُ شيءٍ سَمِعْتُهُ تَكَلَّمَ بِهِ، أن قالَ: «يا أيُّها النَّاسُ، أفشوا السَّلامَ، وأطعِموا الطَّعامَ، وصِلوا الأرحامَ، وصلُّوا باللَّيلِ، والنَّاسُ نيامٌ، تدخلوا الجنَّةَ بسَلامٍ»؛ (صحيح ابن ماجه والترمذي).

 

وجعل صلى الله عليه وسلم صلة الأرحام من علامات الإيمان؛ ففي الصحيحين «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليصل رحمه».

 

ومن حرص الإسلام على صلة الرحم ومنعه القطيعة أنه لم يستثنِ أحدًا من الأقارب فيرخص بقطيعته حتى القريب الكافر أمر الإسلام بصلته والإحسان إليه، فعن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت: "قدمت علي أمي وهي مشركة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستفتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت: قدمت عليَّ أمي وهي راغبة أفأصِلُ أمي؟ قال: «نعم، صلي أمك»؛ (متفق عليه)". قولها: "راغبة"؛ أي: طامعة عندي تسألني شيئًا.

 

فإن قال قائل أو سأل سائل: ماذا تقصد بصلة الرحم؟ وكيف يكون الإنسان من الواصلين؟ فنقول:

• بمحبتهم ومودتهم أكثر من غيرهم لأجل قرابتهم.

 

• والمبادرة إلى معاونتهم ومساعدتهم عند حاجتهم.

 

• والإسراع إلى الصلح بينهم عند شقاقهم وعداوتهم.

 

• وجبر قلوبهم وإدخال السرور عليهم بإجابة دعوتهم. والمشاركة في أفراحهم وأتراحهم.

 

• والإحسان إليهم وتقديم العون لهم في حال غناك وفقرهم، وقوتك وضعفهم.

 

• والبِشر عند لقائهم، والبسمة في وجوههم، والتلطف معهم، والتواضع لهم خصوصًا إذا كنت غنيًّا وهم فقراء، أو كانوا محتاجين وأنت من ذوي المكانة والوجهاء.

 

كما ينبغي أن يقدموا في الصدقة على غيرهم؛ ففي حديث الترمذي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الصدقة على المسكين صدقة، وعلى القريب صدقة وصلة».

 

ولما سأل الصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم عن النفقات والصدقات، أجابهم الله تعالى بالبدء بالوالدين والقرابات، فقال في سورة البقرة: {يَسْأَلونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ} [البقرة: 215].

 

وعندما تصَدَّق أبو أيوب ببستانه ببيرحاء قال له صلى الله عليه وسلم: «أرى أن تجعلها في الأقربين». فقسمها بين أقاربه وبني عمه؛ (متفق عليه).

 

قال علي: "لأنْ أصِلَ أخًا من إخواني بدرهم أحبُّ إليَّ من أن أتصَدَّق بعشرين درهمًا".

 

ومن أعظم الصلة أن تسد دين ميتهم. قال الشعبي: "ما مات ذو قرابة لي وعليه دين إلَّا قضيت دينه".

 

وينبغي على المسلم أن يتعلم من الأنساب ما يصل به رحمه"، هذا معنى كلام سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وحتى يعلم من يقدم منهم على غيره، فمن المعلوم أن الأرحام ليسوا متساوين في درجة قرابتهم، بل هم متفاوتون في ذلك، وعليه فإن صلتهم إنما تكون للأقرب فالأقرب، كما جاء في صحيح مسلم، قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللهِ، مَنْ أَحَقُّ النَّاسِ بِحُسْنِ الصُّحْبَةِ؟ قَالَ صلى الله عليه وسلم: «أُمُّكَ، ثُمَّ أُمُّكَ، ثُمَّ أُمُّكَ، ثُمَّ أَبُوكَ، ثُمَّ ‌أَدْنَاكَ ‌أَدْنَاكَ».

 

على الرغم من وصية الله -تعالى- ورسوله صلى الله عليه وسلم بصلة الأرحام إلا أن بعض المسلمين أضاعوا هذا الحق مثل غيره من الحقوق أو أشد، وقد نهى الله وحذَّر عن القطيعة؛ لأنها طريق للخسار والبوار، واللعنة وسوء الدار، بل هي من أبغض الأعمال إلى الله، كما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّ رجلًا سَألَه فقال: يَا رَسُولَ اللهِ، أَيُّ الأَعْمَالِ أَبْغَضُ إِلَى اللهِ؟ قَالَ: «الإِشْرَاكُ بِاللهِ»، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، ثُمَّ مَهْ؟ قَالَ: «ثُمَّ قَطِيعَةُ الرَّحِمِ»، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، ثُمَّ مَهْ؟ قَالَ: «ثُمَّ الأَمْرُ بِالمُنْكَرِ وَالنَّهْي عَنِ المَعْرُوفِ»؛ أخرجه أبو يعلى.

 

وإننا نعيش في عصر تقَطَّعت فيه الروابط والصلات، انشغل فيه الابن عن أبيه، وقاطَعَ القريبُ قريبه، وكل همِّه نفسه إلا من شاء الله وقليل ما هم، وهذا يا عباد الله إن وقع في مجتمعات الذين لا يرجون لله وقارًا، فكيف يسوغ في المجتمعات المؤمنة، وبين المسلمين الذين يخشون الله ويرجون الفلاح في الدين والآخرة؛ فاتقوا الله وأطيعوه، وامتثلوا أمره ولا تعصوه، واتقوا الأرحام أن تقطعوها، ولكن بِرُّوها وصِلُوها {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1].

 

واعلم أن الواصل الحقيقي لأقاربه وأرحامه هو الذي يصلهم لله تعالى، يرجو ثواب الله وفضله، سواء وصلوه أم قطعوه، فليسَت صلةُ الرَّحِم بتبادُل المنافع، إنْ وصَلك رحمُك وصَلتَه، وإن نأى عنك وابتعَد نأيتَ عنه، ليس الصلة على هذه الصِّفة، فتلك مكافأةُ البعض للبعض، ولكن أمر صلة الرَّحِم فوقَ هذا كله، عَنْ عَبْدِاللَّهِ بْنِ عَمْرٍ -رضي الله عنهما- عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «لَيْسَ الوَاصِلُ بِالْمُكَافِئِ، وَلَكِنِ الوَاصِلُ الَّذِي إِذَا قُطِعَتْ رَحِمُهُ وَصَلَهَا»؛ (أخرجه البخاري).

 

وأخرج الإمام أحمد في مسنده بإسناد جيد عن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله، أخبرني بفواضل الأعمال؟ فقال صلى الله عليه وسلم: «يا عقبة، صِلْ مَن قَطَعَك، وأعْطِ من حَرَمَك، وأعفُ عمن ظلمك»؛ (أخرجه أحمد في مسنده).

 

واسمعْ إلى قصةِ هذا الرَّجلِ، وما هي وصيةُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم له؛ أخرج مسلم في صحيحه عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ لِي قَرَابَةً أَصِلُهُمْ وَيَقْطَعُونِي، وَأُحْسِنُ إِلَيْهِمْ وَيُسِيئُونَ إِلَيَّ، وَأَحْلُمُ عَنْهُمْ وَيَجْهَلُونَ عَلَيَّ، وكأني بالكثيرِ يقولُ: هذا واللهِ مثلُ حالي مع أقاربي، فَقَالَ له رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «لَئِنْ كُنْتَ كَمَا قُلْتَ فَكَأَنَّمَا تُسِفُّهُم الْمَلَّ-وهو الرَّمادُ الحارُّ، أيْ: يصيبُهم من الإثمِ والألمِ بوصلِكَ كما يُصيبُ من يأكلُ الرَّمادَ الحارَّ- وَلَا يَزَالُ مَعَكَ مِن اللَّهِ ظَهِيرٌ عَلَيْهِمْ مَا دُمْتَ عَلَى ذَلِكَ»، فاللهُ معكَ وناصرُكَ ولا يضُرُّكَ أذاهم.

 

• وأخيرًا عبادَ الله، إنَّ مِن خُلُق المسلم حبَّ الخير لإخوانِه المسلمين؛ لذا تراه يسعى في الإصلاحِ بينهم والتوفيق فيما بينهم وتضييقِ هُوّةِ النزاع والاختلاف، وهذا الخُلُق الكريم يسعى فيه ذوو التُّقى والمروءة والأخلاق الكريمة؛ فإذا علمت أن بين اثنين من إخوانك أو قرابتك أو أرحامك أو أصحابك أو جيرانك شحناء أو قطيعة، فعليك أن تبذل وسعك وغاية جهدك في الإصلاح بينهما، قال الله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الحجرات: 10]، جعلنا الله وإياكم من أهل البر والصلة، والرحمة والإحسان، وجنبنا طريق الغواية والقطيعة، إنه جواد كريم؛ وصلوا وسلموا -رحمكم الله- على البشير النذير، والسراج المنير، صاحب الخلق الرفيع، والأدب النبيل، محمد بن عبدالله- عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم- وأقم الصلاة.

 

  • 0
  • 0
  • 30

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً