(ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ)

منذ يوم

إن الحياة في ظروف الاستضعاف والقهر والتنكيل والمحاصرة المادية والنفسية لا يعني أبدا الاستسلام لها، ولا يعني أبدا أن يتخلى الإنسان عن دوره في نصرة الدين ويذل كل ما يملك من أجله، بل على العكس تماما، يصير المطلوب في هذه الحالة أكثر بكثير من المطلوب في غيرها

(ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ)

كنا نتدارس صباح اليوم قصة بني إسرائيل في سورة المائدة، تلك المتعلقة بدخول الأرض المقدسة، كان مدهشا شعورنا بأن كل كلمة ومعنى متعلق بواقعنا كما كان متعلقا ببني إسرائيل في ذلك الوقت ما اتفقنا عليه أن دخول الأرض المقدسة الذي مثل رعبا لبني إسرائيل بسبب وجود الجبارين فيها كان ممكنا بطريقة واحدة: {ادخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه فإنكم غالبون وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين}، فكرنا إن كانت هذه قاعدة عامة في دخول الأرض المقدسة في كل زمان؟! أن تقتحم الأسوار وتدخل على الجبارين الباب حتى تغلبهم، وأن تتوكل على الله ولا تخاف إلا إياه قال رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما كأن خوف الله يذهب من القلب كل خوف آخر!

في سورة الكهف كان الاقتحام هو عنوان البطولة في كل قصة المسارعة إلى الخيرات وصدق العزيمة على الاستمساك بها حتى النهاية رغم كل شدائد الطريق وعوائقه، قام فتية الكهف قومة الله أعلنوا فيها إيمانهم رغم غلبة زينة الدنيا واستعلاء الباطل، لم يطلب منهم أحد ذلك وربما بحسابات مادية بحتة لم يكونوا مضطرين إليه، لكنه اقتحام المؤمن وفعاليته وإقدامه {وَرَبَطْنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَن نَّدْعُوَ مِن دُونِهِ إِلَٰهًا ۖ لَّقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا} وحتى لما اعتزلوا قومهم وأووا إلى الكهف لم يكن هذا مجرد فرار بدينهم كما يبدو لنا، كان في الحقيقة اقتحاما لعقبة عظيمة لا يقدر كثير من الناس على اقتحامها، من ذا الذي يستطيع ترك الدنيا بزينتها وراءه ومعها أهله وأحبته ومألوفات حياته ومواطن راحته وأمانه ليأوي إلى كهف موحش منعزل خوفا على دينه وحفاظا على إيمانه ؟! فكر في هذا الاختيار بمنطق دنياك أنت الآن .. فكر إن كنت ستختار ما اختاروا لو كنت في نفس ظروفهم ؟! ستدرك كم هذا صعب وموحش!

نفس الشيء مع صاحب الجنتين وهو يختار عدم الاستسلام لانتفاش الباطل وتفاخره لقد قرر اقتحام جنته الآمنة، وتكدير صفو حياته المستقرة، وهدم معتقداته الباطلة دون انسحاق تحت سطوة ماله وعزته، ودون انسحاب من المواجهة {قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا} أما موسى عليه السلام فهو نموذج باهر في قوة العزيمة ومضاء الإرادة {وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِفَتَهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقْبَا}.

(أو أمضي حقبا) لقد رضي ببذل العمر - وهو أثمن ما يبذل - في طلب علم يزداد به رشدا، ورضي بالنصب ولقد لقينا من سفرنا هذا نصبا ولم يمل الطريق يقطعه ذهابا وإيابا فارتدا على آثارهما قصصا ثم هو يقبل بشروط صاحبه ولا تأخذه الأنفة من طاعته، ولا يضجر من عتابه المتكرر، رحلة طويلة وشاقة ما كان مضطرا إليها موسى عليه السلام لولا رغبته في أن يتعلم ما لم يعلمه.

وكذلك ذو القرنين في اتباعه الأسباب فيما مكن له من مغرب الشمس إلى مطلعها، ومبادرته إلى بناء السد لحماية الناس من إفساد يأجوج ومأجوج وبذله كل ما أمكن في سبيل ذلك حتى تحقق له وللناس جميعا ما أرادوا من الحماية والأمان، بل ويبقى بناء السد ويمتد أثره إلى قبيل قيام الساعة حين يجيء وعد الله دعنا نتذكر سريعا حديث النبي صلى الله عليه وسلم في فضل سورة الكهف فمن أدركه - يعني الدجال - فليقرأ عليه فواتح سورة الكهف فمن أدركه فليقرأ... تأمل هذه المبادرة ... حتى في مواجهة الدجال - أكبر فتنة تنتظر الناس - ليس عليك أن تقف مكتوف الأيدي صامنا، اقرأ فواتح سورة الكهف.

هذه المبادرة وهذا الاقتحام كان حاضرا في البال منذ مدة، ربما منذ درسنا سورة البلد (فلا اقتحم العقبة) وظلت معانيه تنمو داخلنا حتى وصلنا سورة العاديات، مشهد الخيل التي تعدو في سبيل الله حتى الضبح ويبلغ اصطكاك حوافرها بالحجارة من الشدة حد إبراء القدح، تلك التي قطعت طرقها الطويلة ليلا حتى تغير على الأعداء صبحا، ثم هي لا يجهدها السعي ولا تكتفي من التعب، بل تثير النقع وتتوسط الجمع {وَالْعَادِيَاتِ ضبْحًا (۱) فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا (۲) فَالْمُغِيرَاتِ صَبْحًا (۳) فَأَثرْنَ بِهِ نَقعًا (٤) فَوَسَطنَ بِهِ جمعا (٥) إِنَّ الإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكْنُودُ (٦)}

إن مشهد العاديات هو نموذج لمعنى الاقتحام رغم كل الصعوبات، خاصة إذا استحضرنا أن السورة مكية، وأنها لما نزلت لم يكن الجهاد قد فرض بعد على المسلمين، بل على العكس كانوا في حالة استضعاف وقهر ، فكيف يُطلب منهم وهم في هذه الحالة كل هذا البذل والتضحية والاقتحام؟!

حسنا، إذا ارتددنا على آثارنا قصصا لتعود إلى ما بدأنا به حديثنا لوجدنا أنه من ضمن المعاني التي نوقشت في قصة رفض بني إسرائيل دخول الأرض المقدسة: أن القوم الذين عاشوا عمرا طويلا في ذلة واستضعاف تحت قهر فرعون لم يستطيعوا - رغم كل الآيات والنعم - أن يتخلصوا من نفسية المقهورين - لو جاز التعبير - ولذلك لم يتقبلوا فكرة أن يتحملوا مسئولية دخول الأرض المقدسة، وأن يدفعوا ثمن ذلك من أنفسهم وأموالهم وجهدهم، هذا المعنى هو في الحقيقة ما سيطر على تفكيري نقيضه طوال دراستنا لسور جزء عم، لقد فكرت كثيرا في أن القرآن المكي لم يرسخ - فقط - في قلوب المؤمنين حقائق الإيمان ومعاني الصبر والانتظار، بل وكذلك كان يرسخ فيهم معاني البذل والتضحية، ويحرضهم على استمرارية السعي واستفراغ الوسع ويهيئهم لعبادات عظيمة تتجسد فيها هذه المعاني مثل: الجهاد والحج والزكاة وغيرها من العبادات، أستطيع أن أقول أنه كان - بشكل ما - ينقذهم من التلبس بنفسية المقهورين واستمراء دور الضحية إلى ما لا نهاية كما حدث لبني إسرائيل، إن الحياة في ظروف الاستضعاف والقهر والتنكيل والمحاصرة المادية والنفسية لا يعني أبدا الاستسلام لها، ولا يعني أبدا أن يتخلى الإنسان عن دوره في نصرة الدين ويذل كل ما يملك من أجله، بل على العكس تماما، يصير المطلوب في هذه الحالة أكثر بكثير من المطلوب في غيرها، وهو ما شاهدناه جليا في قصة أصحاب الكهف، وفي غيره من قصص السورة، وبالتأكيد في كثير من سور جزء عم

________________________________________________
المصدر: موقع إنه القرآن الخاصة بالتليجرام

  • 3
  • 0
  • 178

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً