الطواف والسعي: شعيرتان تجسّدان حركة الكون ومعنى الوجود والدلالة الرمزية لـ 0 و 1 في قلب مكة، ...

الطواف والسعي: شعيرتان تجسّدان حركة الكون ومعنى الوجود والدلالة الرمزية لـ 0 و 1

في قلب مكة، وحول الكعبة، وبين الصفا والمروة، يمارس المسلمون شعيرتين عظيمتين (الطواف والسعي) وعلى الرغم من بساطة الحركة الظاهرة فيهما، فإن هاتين الشعيرتين تختزلان في جوهرهما رموزًا عميقة تتجاوز المكان والزمان لتتصل بنظام الخلق، وحكمة الوجود، وسنن الكون.

الطواف حركة دائرية تبدأ وتنتهي عند نفس النقطة، يدور فيها الإنسان حول مركزٍ واحدٍ في انسجام عجيب، إنها ليست مجرد حركة عشوائية، بل تمثّل القانون الكوني الذي تخضع له المجرات والكواكب والذرات ﴿وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ﴾ ، وحتى شكل الطواف الذي يأخذ هيئة بيضاوية بفعل الحِطيم يوازي مدارات الكواكب التي لا تدور في دوائر تامة بل في مسارات إهليجية دقيقة.

أما السعي فهو حركة خطية بين نقطتين الصفا والمروة، يتكرر فيها الذهاب والإياب، وفي هذا التكرار يتجلى الإصرار والنية والجهد، إنها حركة الإنسان نحو المعنى، نحو التكميل، نحو الله.

وحين نتأمل في رمزية الطواف والسعي، نجد أن الطواف يُشبه “الصفر” في دائرته وسكونه الديناميكي، والسعي يُشبه “الواحد” في خطه واندفاعه، وهذان الرمزان (0 و1) يشكّلان جوهر النظام الرقمي الذي تقوم عليه التقنية الحديثة، وكأن في الشعيرة ما يسبق الثورة الرقمية في إشارتها إلى بنية الخلق والمعلومة.

وليست هذه الحركات مجرد طقوس صامتة، بل هي نداء مفتوح للتأمل والتدبر، فالله تعالى أمر عباده بالتفكر حيث قال: ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ﴾، وجعل النظر في الآفاق والأنفس مدخلاً للهداية ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ﴾.

وقد أظهرت هذه المقاربة بين الطواف والسعي من جهة، والنظام الثنائي الرقمي من جهة أخرى، إمكان الربط بين العبادات الشرعية والرموز العلمية، في قراءة لا تلغي قدسية النص، بل توسّع دائرة تأويله المشروع، وتُسهم في تدبره كما أمر الله تعالى.

إن قراءة الشعائر ضمن بنية كونية ورمزية تُعد امتدادًا لمقاصد التفكر، ودعوة لتجديد الفهم دون تجديد التشريع، وتأملًا واعيًا في أسرار التعبد دون مساس بثوابته، وهي بذلك تمثل نوعًا من الإدماج بين الفقه والتأمل، بين الشكل والمضمون، بين الأداء والمعنى.

ومن ثمّ، فإن مثل هذا التدبر يفتح الباب أمام مزيد من البحوث في "رمزية الشعائر"، باعتبارها ميدانًا خصبًا لتلاقي الشرع والفكر، والدين والعلم، خاصة في ظل عالم معاصر يعاد فيه تعريف العلاقة بين الإنسان والمعنى، وكما قال تعالى في ختام سورة ص: ﴿وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ﴾ [ص: 88]، فإن ما نغفله اليوم قد نُدرك مغزاه بعد تأمل عميق، وزمن مناسب.

هكذا، تصبح الشعيرة مدرسةً في التفكر، ومرآةً لعلاقة الإنسان بالخالق والكون والنفس، إن في الطواف والسعي ما يُذكّرنا بأن الإيمان ليس انغلاقًا، بل انفتاحٌ على الحكمة، واتصالٌ بالخلق، وسيرٌ لا يتوقف نحو النور، وإيمان بالله وحده.

د. عبدالقادر ناصر العبيكان
...المزيد

معلومات

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً